Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حرب المساجد" في مصر صراع من أجل البقاء

قرارات متواترة أصدرتها وزارة الأوقاف في ما يختص بـ"معاهد السلفيين الدعوية"

"إغلاق المساجد" عبارة تثير حفيظة المصريين بعيداً من كونهم يصلون أم لا (رويترز)

إغلاق المساجد وقصر فتحها على مواعيد الصلوات الخمس، فتح المساجد بقواعد وشروط، دوريات متنقلة من مفتشي المساجد للتأكد من اتباع "الإجراءات الاحترازية"، تخفيف الدوريات لعدم التضييق على المصلين، صلاة التراويح عشر دقائق حداً أقصى، مع خاطرة روحانية خفيفة لا تزيد على خمس دقائق، دروس العصر من سبع إلى عشر دقائق، لا صلاة تهجد لأن الوباء ما زال موجوداً والإجراءات الاحترازية ما زال معمولاً بها، صلاة التهجد لا تؤدى إلا في المسجد، عودة صلاة التهجد بدءاً من يوم 27 رمضان.

وزارة الأوقاف المصرية تخوض حرباً شعواء، ساحتها المساجد وهدفها "الإخوان" وأبناء عمومتهم، وأداتها السيطرة، وكل تفصيلة من تفصيلاتها جمر مشتعل ولغم يتعجل الانفجار، الانفجار الأخير بدأه شعار "صلوها في بيوتكم" وأججه قرار وزارة الأوقاف الصادر قبل نحو أسبوع بمنع الاعتكاف في المساجد في رمضان، وذلك "حفاظاً على الأرواح". فعلى الرغم من أن الملايين من المصريين لا يغزون المساجد من أجل الاعتكاف وصلاة التهجد، فإن الملايين انتفضوا عن بكرة أبيهم لقرار المنع بمن في ذلك من لا يصلون من الأصل.

إغلاق المساجد

"إغلاق المساجد" عبارة تثير حفيظة المصريين بعيداً من كونهم يصلون أم لا، في العرف المصري "بيوت الله" مفتوحة لا تغلق، لكن في عرف الوباء، وفي أقوال أخرى في عرف ما تسبب فيه تيار الإسلام السياسي وارتباطه الوثيق بالتسلل إلى المجتمع من خلال المساجد، فإنها تغلق وتفتح بحسب تقييم أولي الأمر للموقف، قرار وزارة الأوقاف قبل أسبوع نص على أن "ظروف وإجراءات التباعد لا تمكن في الظروف الراهنة من السماح بالاعتكاف هذا العام حفاظاً على الأرواح. فالاختلاط الذي يحدث في الاعتكاف يصعب معه تطبيق إجراءات التباعد، علماً أن أمام الجميع سعة في صلاة التهجد في بيته".

انقلبت الدنيا رأساً على عقب، حتى الإعلاميون ممن يصفقون على طول الخط لقرارات المؤسسات الدينية الرسمية، لا سيما وزارة الأوقاف التي تهرول على طريق "تجديد الخطاب الديني" عكس الأزهر المتمهل المتريث المتروي، عارضوا القرار ووصفوه بـ"غير المناسب".

موجة غضب هادرة

اعترت منصات التواصل الاجتماعي موجة غضب هادرة، اجتمع فيها الخصوم، فمصريون ممن يناصبون جماعة "الإخوان المسلمين" وغيرها من جماعات الإسلام السياسي العداء، ومصريون وغير مصريين يحبون الجماعة ويذوبون عشقاً فيها اعتبروا القرار مجحفاً وحجة الوباء هزيلة. حتى أولئك الذين كانوا يقيمون في بلدان إسلامية مجاورة اتبعت قرارات الإغلاق والمنع ذاتها أثناء عامين من عمر كورونا اعتبروا القرار في مصر مرفوضاً ومذموماً، المجموعة الأولى من الرافضين صبت غضبها على وزارة الأوقاف ووزيرها، لأنها تريد أن تصلي في المساجد وتقيم فيها من أجل صلاة التهجد، أو لأنه لا يصح إغلاق بيوت الله في الأيام الأخيرة من رمضان، أما المجموعة الثانية من الرافضين، فصبت غضبها ونظمت صفوفها واستعدت بـ"هاشتاغاتها"، واستعادت لياقتها الإلكترونية في كتائب منمقة وميليشيات منسقة صعّدت من قرار الإغلاق، وجعلت منه حرباً يشنها النظام المصري على الإسلام ويعادي بها المسلمين، يشار إلى أن اتهامات محاربة الإسلام والتربص بالمتدينين يستخدمها أنصار جماعات الإسلام السياسي ضد النظام المصري منذ عام 2014.

حزب "النور"

وعلى الرغم من خروج حزب "النور"، المعروف إعلامياً بـ"حزب النور السلفي"، من عباءة "الإخوان" وارتدائه جلباب الدولة في عام 2013، فإن ما في القلب يظل في القلب. القلب هذه المرة نضح بالكثير، فبعد أشهر طويلة من الخمول، وعلى الرغم من اشتعال الأوضاع الاقتصادية وتأجج الأسعار وإحماء النار التي تكوي جيوب المصريين، فإن حزب "النور" لم يخرج من اعتكافه السياسي إلا للتنديد بقرار وزارة الأوقاف.

وزارة الأوقاف والكيانات والتجمعات السلفية في حالة احتقان دفينة منذ سنوات، فلعبة القط والفأر بين دعاتها "غير المؤهلين علمياً وفقهياً" من منظور الوزارة لاعتلاء المنابر الذين يمتلكون وحدهم صحيح الدين وصلاح الأمة في مفهوم الجماعات السلفية احتدمت قبل سنوات.

قرارات متواترة أصدرتها وزارة الأوقاف في ما يختص بـ"معاهد السلفيين الدعوية"، فبين تقنين لمراقبة لوضع شروط جديدة، تصاعدت لعبة الكر والفر بينهما، وهي اللعبة التي اختار الأزهر ألا يخوضها، أو بالأحرى يلتزم الصمت مع قدر أوفر من الليونة والتسامح إزاءهم.

ضربة لتيارات السلفية

وكان صدور قرار منع اعتلاء المنابر لغير الأزهريين بالإضافة إلى ربطه بالحصول على موافقة من وزارة الأوقاف ضربة موجهة لهذه التيارات التي هيمنت على العديد من المساجد، وحين لم تجد مساجد تهيمن عليها بنت زوايا في مداخل العمارات والأرصفة وأماكن انتظار السيارات. وحتى تتمكن التيارات السلفية من الحفاظ على هيمنتها تلك، لا سيما في أعقاب سقوط جماعة "الإخوان المسلمين" وشعورها بأن الفرصة صارت مهيأة لها للانفراد وحدها بالمساجد والخطاب الديني "غير الرسمي"، فقد صدر قرار من نائب رئيس الدعوة السلفية ياسر برهامي وقتها لقيادات الدعوة السلفية وشبابها وشيوخها للالتحاق بمعاهد إعداد الدعاة التابعة لوزارة الأوقاف لضمان استمرار الهيمنة.

يشار إلى أنه على مدى سنوات انفلات الخطاب الديني، انتشرت معاهد دينية "خاصة" لا رقيب عليها أو رادع، هذه المعاهد خرجت أجيالاً من "رجال الدين" المعتنقين مفاهيم دينية غارقة في التشدد وبعيدة تماماً من أعين الدولة، كما أن التيارات السلفية دفعت بـ"مشايخ" لم تطأ أقدامهم مدرسة أو معهداً لتعلم العلوم الدينية، بل كانوا "تلامذة" مشايخ سلفيين في مصر وخارجها، استمعوا لدروسهم واعتنقوا أفكارهم وصعدوا المنابر ناشرين فكرهم في طول البلاد وعرضها.

هذا الصراع المكتوم ربما شجع حزب "النور" (السلفي) على الإسراع بانتهاز الفرصة ومعاودة القفز إلى الساحة، رئيس الهيئة البرلمانية للحزب أحمد خليل خير الله أصدر "بياناً عاجلاً" تقدم به لرئيس مجلس النواب، معرباً على القلق العميق جراء قرار الأوقاف منع صلاة التهجد والاعتكاف في المساجد في الأيام الأخيرة من رمضان. وجاء في البيان أن الحكومة اتخذت العديد من الإجراءات التي خففت بها من الإجراءات الاحترازية لمواجهة وباء كورونا، مع توفيرها اللقاحات، وأنه نظراً إلى ضرورة دفع عجلة الاقتصاد والعمل والإنتاج لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، خففت الحكومة من القيود، بل وتم إلغاؤها في بعض الأمور.

وتابع البيان، "إنه باستعادة النظر إلى القرارات المعلنة من وزير الأوقاف، نجد أنها تسير في طريق مغاير تماماً لما أعلنته الحكومة من إجراءات في الشؤون الأخرى"، متهماً الوزارة بأنها تعمل في "جزيرة منعزلة" عن بقية الوزارات والمؤسسات. ليس هذا فقط، بل دقّ بيان حزب "النور" السلفي على أوتار الاتهامات التي دأبت جماعة "الإخوان المسلمين" على توجيهها للنظام المصري، والتي يرددها أتباعها وأنصارها وتخصص لها اللجان والكتائب الإلكترونية جانباً معتبراً من ساعات عملها اليومية لترويجها، ألا وهي أن النظام المصري يعادي الدين ويضيق على المتدينين. وقال خير الله في بيانه إن "التأثير السلبي لهذه القرارات يعطي فرصة لأعداء الدولة باتهامها بمحاربة الشعائر الإسلامية في هذا الشهر المبارك، وذلك بالنظر إلى بقية القطاعات التي تخففت فيها الحكومة من الإجراءات كالمحلات التجارية والمولات بل وحتى ضوابط وزارة الأوقاف نفسها في إقامة الصلوات الخمس والتراويح منذ بداية شهر رمضان".

كبسولة مناشدة

وأمعن حزب "النور" في الدق على أوتار الترهيب عبر كبسولة المناشدة، إذ حذر من أن قرار وزير الأوقاف "يمكن أن يسبب حالة استياء عام لدى عامة الناس، مع متابعتهم عامة الدول الإسلامية والعربية الشقيقة التي لم تمانع إقامة تلك الشعائر، خصوصاً مع ما يعانيه الناس من ظروف اقتصادية صعبة بسبب تأثيرات الحرب الأوكرانية الروسية، فتكون تلك القرارات مزيداً من الأعباء النفسية على عامة الناس"، وإذا كانت عامة الناس لم تربط بين صلاة التهجد وتأديتها في المساجد وأوجاعهم الاقتصادية والحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن عامة الناس لم تسعد بقرار الإغلاق، وعدم سعادة عامة الناس مع حنق السلفيين مضاف إليهما تربص "الإخوان" وكتائبهم الإلكترونية أصبحت بمثابة تحالف الأضداد على خلفية حرب المساجد الدائرة رحاها.

"النور" و"الكمون"

حرب المساجد، التي هي أبعد من منع صلاة أو السماح بها، يدرك أبعادها كثيرون، الكاتب الصحافي حمدي رزق كتب تحت عنوان "تهجد حزب النور" واصفاً الحزب بـ"الكمون"، ويقول إن "من المفاهيم المستبطنة في داخليات حزب النور الكمون بمعنى "تِلبد (تختفي) في (حقول) الذرة، فتصير كالمتربص بعدوه في حالة تأهب ومترصد"، مشيراً إلى أن الحزب (السلفي) "واقف لنا على الواحدة، (أي متصيد الأخطاء)، على رجل واحدة، رِجل داخل نظام الدولة المدنية ورِجل عند الجماعة الإرهابية"، وأشار رزق إلى أن "حزباً سياسياً" وصف زائف، فهو متغاضٍ عن الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على معايش الناس ومستمسك بصلاة التهجد في البرلمان، "كيف لا تؤدى صلاة التهجد في المساجد؟! وا إسلاماته! وا إسلاماه".

وخلص رزق إلى القليل المفيد، فهو يرى أن السلفيين، من تحت غطاء حزب "النور" سياسياً، يتسللون في خفية مجدداً إلى المساجد، والتهجُّد فرصة تسنح، على عين الدولة، للتجنيد الفكري بأساليب الترغيب والتأثير العاطفي الروحاني، كما كانت تفعل جماعة "التبليغ والدعوة" في الأيام الخوالي.

تحرير المساجد

تحرير منابر المساجد من مشايخ السلفية بمثابة ثأر مبيت تستدعيه الجماعات والتيارات السلفية كلما سنحت الفرصة لذلك، وفرصة قرار منع صلاة التهجد فرصة ذهبية، لا سيما أن الدق عليها والتلميح بأن الدولة قد تبدو معادية للدين مهيأ تماماً في ضوء عواطف المصريين العاديين الذين يعشقون فكرة بيوت الله المفتوحة حتى لو لم يصلوا فيها بالضرورة، لذلك بدا التراجع عن قرار الإغلاق "ضرورة". لكن قبل التراجع، تصاعد التلاسن واحتدم الصراع، فأنصار جماعة "الإخوان" من جهة يدقون بكل ما أوتوا من قوة على أزرار التغريد والتدوين، وملكاتهم الإبداعية تدفعهم إلى الخروج بـ"هاشتاغات" لتأليب المواطنين المتضررين من إغلاق المساجد أمام صلاة التهجد والاعتكاف على الدولة "المانعة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهة أخرى، التيارات السلفية التي تنتظر اللحظات السانحة لملء فراغ "الإخوان" وطرح نفسهم بديلاً "متديناً"، مع ذلك، بكل ما يمكن بذله من أجل استعادة هيمنتهم على المساجد واستمرار أذرعتهم المهيمنة بطرق غير مباشرة عبر منصات إلكترونية وتواصل مستمر مع الأتباع والأنصار وأبنائهم وأحفادهم، ومن جهة ثالثة، وجد كثيرون من البسطاء أنفسهم في الخانة نفسها مع الفريقين الأولين ولكن من منطلق الإبقاء على بيوت الله مفتوحة، بغض النظر عن معركة "الإخوان" الصدامية لاستعادة الحياة مرة أخرى أو تشبث السلفيين بفرصة الاستيلاء على المنابر ولكن عبر المسكنة حتى كمال التمكين.

تمكين فصيل سياسي، حتى وإن قال عن نفسه إنه ديني خالص أو ادعى أنه مدني محض، من المساجد يحدد المنتصر في الجولة التالية من جولات الدولة المصرية المدنية في مواجهة تيارات وفصائل وجماعات الإسلام السياسي بأنواعها وأشكالها.

عورات الجماعة

قرار وزارة الأوقاف بإغلاق المساجد أمام الراغبين في الاعتكاف وأداء صلاة التهجد في الأيام الأخيرة من رمضان تم العدول عنه، لكن وزير الأوقاف قبل العدول عن القرار غرّد بكلمات وصفها البعض بـ"الأجرأ" وانتقدها البعض الآخر على اعتبار أنها مندفعة ومباشرة، وكان عليه التروي والتفكر. وقال الوزير مختار جمعة، "لا شك أن جماعة الإخوان الإرهابية ومن يدور في فلكها من جماعات أهل الشر قد فقدوا صوابهم لما كشفه مسلسل (الاختيار 3) من عوراتهم، فاشتطوا كذباً وتدليساً وتلفيقاً للأمور وإخراجاً لها من سياقها، غير أنهم لن يستطيعوا أن يجملوا الوجه القبيح لهذه الجماعة الخائنة لوطنها العميلة لأعدائه".

حروب الـ"سوشيال ميديا"

لكن حروب الـ"سوشيال ميديا" لا تنتهي بجرة قرار أو تستوي بالعدول عنه، فلديها القدرة على الاستمرار والافتئات طالما الـ"هاشتاغات" متجددة والبناء عليها دؤوب والدق على الوتر الديني مستمر، "افتحوا المساجد"، "إقالة وزير الأوقاف"، "عودوا إلى الأزهر"، ليست مجرد "هاشتاغات" بل هي توجهات دالة وكاشفة. أما الجبهة المقابلة، فتجد نفسها في منافسة غير متكافئة كلما تعلق الأمر بحرب المساجد، وهي حرب متعددة الحلقات لن تنتهي قريباً، ففي زمن الاستقطاب، وفي عصر التفسيرات الدينية المتشددة المانعة لإعمال العقل والحائلة دون اجتهاد الفرد، لا يمكن تفسير قرار إغلاق مسجد إلا في ضوء "الحرب ضد الدين"، ولا يجوز فهم قرار تدقيق في من يعتلي المنابر إلا في ضوء "معاداة المتدينين"، وتبقى حرب المساجد معضلة مصر الكبرى ومنصة الصراع المكتوم بين أطياف الإسلام السياسي والدولة المدنية وبين البينين.

المزيد من تحقيقات ومطولات