Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شاشة جورج أورويل سبقت الرقابة الإلكترونية في القرن 21

رواية "1984" ما زالت أيقونة القراءة لدى الأجيال الشابة المعاصرة

بدأ جورج أورويل مساره النقدي برفض الفكر الإمبراطوري الكولونيالي الذي كان يبرر الاستعمار البريطاني للـهند (موقع زي أتلانتك. كوم)

الأرجح أن حضور جورج أورويل (1903- 1950) في النقاشات المعاصرة، يذهب أبعد كثيراً من التذكر الاحتفائي لرواياته، ويتصل فعلاً بالتفكير النقدي في مسار المجتمعات المعاصرة، خصوصاً النظر إليها بعين تتطلع إلى الحريّة في أوسع مدى ممكن. وصل أورويل إلى التفكير النقدي عبر معاناة فعليّة، شحذت تعمّقه في المسارات الفكريّة التي كانت سارية في زمانه. ليس هيناً أن تعيش شبابك في ظل صعود كاسح للشعبويات النازية والفاشية، وتحيا في عالم انتقل بشبه سرعة البرق من حرب عالمية إلى أخرى، اختطلت فيها أوراق فكرية وأيديولوجية وفلسفية لا حصر لها. ووصلت الحضارة إلى الصدمة المذهلة للحرب العالمية الثانية الموشومة بالشعبويات المتطرفة من جهة، وبانهيارات كبرى للإنسانيّة على غرار الهولوكوست والمذبحة النازية، وانفجار الكابوس النووي في المقتلة الذريّة الأولى (لا تزال وحيدة حتى الآن) عبر قنبلتَي هيروشيا وناغازاكي. بديهي القول إن تلك الحوادث أثرت في مسارات فكرية وثقافية وفلسفية فائقة التنوّع. وفي ذلك التدفّق، برز جورج أورويل وتجربته في الفكر النقدي الذي عبّر عنه في رواياته، فساعده الأدب على التوصّل إلى التعبير بصيغ قصوى عن تلك التجارب، وتجريد الشيء الأكثر أهمية فيها: تحدّي الحريّة بالنسبة إلى الإنسانية في مجتمعاتها وأفرادها. ولعل ذلك ساعد أدب أورويل على البقاء، بل إن صوراً رسمتها رواياته، خصوصاً رائعته "1984"، تبدو كأنها وصف استباقيّ لأحوال في المجتمعات المعاصرة. ويكفي القول إنها حاضرة في النقاشات المعاصرة عن مجتمعات ما بعد الحداثة وعصر الشبكات الرقمية الشاملة، كأنها قيلت بالأمس، وليس قبل سبعة عقود تماماً عندما أنجز أورويل تلك الرائعة. وككثير من العقول النقديّة، يكون العيش صعباً، بل معاناة ومكابدة، لمن لا يسلّم قياد فكره إلى السائد والمسيطر، بل يجهد للحفاظ على جمرة الحرية متَّقِدَة. في مسار أورويل شيء من ملامح بروميثوس الذي سرق سر النار وأهداه إلى البشر ليكون ركناً في سيرورة إنسانيتهم، لكن الألهة المسيطرة لم ترضَ بفعلته بل حكمت عليه بعذاب لا ينتهي.

 

البداية... تمرد على الفكر الإمبراطوري البريطاني

ابتدأت حياة أورويل في البنغال الهندية الخاضعة للاحتلال البريطاني. وكان أبوه ضابطاً بريطانياً صغيراً متزوجاً من امرأة ذات تحدّر فرنسي. وبفكر نقديّ، تمرّد عقل أورويل على العقلية الكولونيالية المسيطرة، فكانت بداية انخراطه في نقد الطغيان والهيمنة واختلال ميزان الحرية بين البشر.

كان اشتراكياً في مستهل شبابه. ومع صعود الديكتاتور الشيوعي جوزيف ستالين، فقدت الثورة البلشفية ألقها ووعودها الكبرى بالحرية والمساواة والتحرر. وتحولت روسيا إلى مأساة الثورة المخفقة التي تصل إلى عكس ما بشّرت به وانطلقت من أجله. ولم يتأخر الفكر النقدي عند أورويل في التقاط المعنى الكامن في مسار التاريخ المعاش. ورسمت روايته الساخرة "مزرعة الحيوانات" صورةً عن تلك المعاناة. ولم يفتْ تفكيره النقديّ ربط المآل الستاليني للثورة البلشفية بمسار مُشابه للثورة الفرنسية أوصلها إلى الديكتاتورية الطاغية والكولونيالية لنابليون بونابرت، أبن ثورة "حرية ومساواة وأخوة" الذي صار إمبراطوراً لا يحلم بسوى احتلال بلدان أخرى والسيطرة عليها والاستيلاء على إرادة شعوبها ومقدراتها. وأطلق أورويل تسمية نابليون على الحيوان الذي سرق الثورة من صُنّاعها، ليصبح طاغية يشبه الطُغاة الذين سعت الثورة إلى إطاحتهم. ويصعب نسيان المشهد الختامي في تلك الرواية، حين يجلس نابليون وأضرابه مع الحُكّام السابقين، ولا يستطيع "شعب" المزرعة أن يميّز بين الفريقين!  

الأرجح أن الشخصيّة المنسوجة على خيوط النقد العميق في "مزرعة الحيوانات" تتمثّل في الحصان "بوكسر"، وهو رمز العامل الكادح البسيط واليومي، لكنه لا يملك وعياً كافياً عن الاستلاب الذي ضرب حالته الإنسانية، وأوصله إلى شرب كأس العبودية حتى الثمالة. الأرجح أن الوعي بالاستلاب الذي يرافق الطغيان والهيمنة والديكتاتورية، هو مَعقد أساسي في تفكير أورويل النقدي. ولعل ذلك هو الخيط الذي يربط "مزرعة الحيوان" مع رائعته "1984"، وكذلك فإن الخيط نفسه هو الذي يربط تلك الرائعة مع المجتمعات المعاصرة ويجعلها حاضرة في نقاشات الهزيع الأول من القرن 21.

في سياق قريب من إحباط الاشتراكي السابق أورويل من الثورة الروسية، برز في تلك الحقبة إحباط سيغموند فرويد (1856- 1939) حيال مسار المشروع الكبير للعقلانية والتنوير. وأحبط فرويد من الشعبويات النازية والفاشية وما رافقها من تراجع عن قيم التنوير والعقلانية (ومَعقدهما الكائن الإنساني وتقدمه حضارياً)، لمصلحة نزعات عنصرية متطرفة. وفي كتابيه "قلق في الحضارة" (1930) و"مستقبل وهم" (1927)، عبّر مؤسس مدرسة التحليل النفسي عن إحباطه الصريح من مسار الحضارة الإنسانية. يصعب عدم تذكر أن "تلميذاً" متأخراً لفرويد، هو المخرج المتمرد ستانلي كوبريك، صنع نصاً بصريّاً فائق الانتقاد واليأس من مسار الحضارة في فيلمه النقدي المُرعِب "البرتقالة الآلية" (1971) الذي رأى في الحضارة المعاصرة وثقافتها مجرد تكثيف للطغيان والهيمنة ضد الحرية الفردية، بل رسمها ترويضاً إكراهياً للإنسان كي يترك حريته ويتبنى حرية زائفة، بمعنى أنها مفروضة عليه من قِبل قوى السيطرة في المجتمعات. أيّ رعب في جعل موسيقى لودفينغ بيتهوفن أداة للقمع وسلب الوعي بالحرية؟

 

إحباط الاشتراكية ثم صدمة الديمقراطية

الأرجح أن ذلك الخيط النقدي حاضر بقوة في رائعة أورويل "1984"، خصوصاً في منحى علاقة القمع باستلاب وعي الكائن الإنساني وترويضه على فقدان حريته والانخراط في عبودية معاصرة. والأرجح أن "إحباطاً" مُضافاً حدث عند أورويل حيال مؤتمرات جمعت الديكتاتور الشيوعي جوزيف ستالين، مع زعيمين من المجتمعات الديمقراطية الحرّة، الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشيل. وفي طهران (1944) ثم يالطا وبوتسدام (1945)، عقدت مؤتمرات كان في أفقها اقتسام العالم بين منتصري الحرب العالمية الثانية. هل ذكّرته بالمشهد الختامي في "مزرعة الحيوانات"، أم رأى فيها شيئاً ما، أكثر عمقاً؟

ويذهب النقد في تلك الرائعة إلى أبعد من نقد التجربة الشيوعيّة الحاضرة بشدة فيها، ليصل إلى مخاطبة مسألة الوعي لدى الكائن الإنساني باعتباره المحكّ الفعليّ لحريته. أن تعي القمع والهيمنة والسيطرة يعني أن تكون حراً، وأن تتبنّى وعياً مفروضاً من السلطة المهيمنة والقامعة، يعني ترويضك على ألا تكون حراً، بل تعيش "سعادة" زائفة عبر وعيٍ زائف ومفروض. لعل أورويل تجاوز سوار نقده للتجربة الشيوعية، ليصل إلى نقدٍ أكثرَ عمقاً للسيطرة والهيمنة بحد ذاتها، مع ملاحظة أن الستالينية أعطته المثل الأوضح عنها.

 

حب "الأخ الكبير" يصنع المجتمع المسيطر عليه

في "أوسيانا"، إحدى دول الطغيان الثلاث التي تهيمن على العالم (وتتحارب في ما بينها، وتخدم الحرب الخارجية هيمنتها الداخلية)، تجري حوادث "1984"، لترسم صورة كابوسيّة عن دولة الاستبداد. ويصعب على القرّاء اليوم عدم رسم توازيات بين "أوسيانا" والمجتمعات المعاصرة.

وبفضل عقول جبارة، ظهرت الإنترنت وانتشرت، ولوهلة، ظنّت الإنسانية أنها فتحت درباً جديداً إلى الحرية، وأعطت قوّة للإنسان العادي في حضارة القرن 21، ليقارع عمالقة الطغيان. لم يدمِ الحلم طويلاً. سرعان ما تبيّن، تماماً وفق توصيفات "1984"، أن شاشات الكومبيوتر والإنترنت صارت مدخلاً إلى أحد أعظم نظم الرقابة اليومية المستمرة لكل فرد. لم تحتج البشرية سوى سبعين سنة كي تحقق الكابوس الذي رسمته كلمات تلك الرائعة التي تضمّنت تعابير مثل "الأخ الكبير"، و"التفكير المزدوج"، و"الأخ الكبير يراقبك"، و"الكلام الجديد"، وقد باتت الخبز اليومي للمدافعين عن الحريات الفردية والشخصية في عصر الإنترنت. وكم تشبه تلك الشاشات المفروضة التي لا تنطفئ في منازل "أوسيانيا" كلها، شبكة الإنترنت المعاصرة التي تجري عبرها رقابة شاملة لشركات المعلوماتية الكبرى والدول الكبرى معاً. تزيد الإنترنت عن شاشات "الأخ الكبير" في "أوسيانيا" بأنها مربوطة بعضاً ببعض، ويستطيع المواطنون التحدث عبرها بالكلام والصور والنصوص المكتوبة تشبه شكلاً آلة الطباعة التي كتب عليها أورويل رائعته، لكنها أكثر تطوراً. ولزمن ما، ظن الناس أنهم أحرار في التواصل بعضهم مع بعض، قبل أن "يكتشفوا" أن هناك أشباهاً للديكتاتور الأسطوري (الأخ الكبير)، يراقبون كل شيء، ويطلعون على كل شيء. ولا يأتي هؤلاء من السلطات الطاغية وحدها، وفق ما تخيّل أورويل، إذ تسهم فيها الشركات الكبرى في المعلوماتية والاتصالات. في الزمن المعاصر، تكشّف في 2013 أن "وكالة الأمن القومي" تمارس رقابة إلكترونية شاملة على العالم، وتشاركها فيها مؤسسات استخبارات مختلفة، وتستعين بتقنيات الشركات الكبرى. وقبل أيام، احتجّت الشركات العملاقة في المعلوماتية على مشروع قانون بريطاني يسمح بوضع جاسوسٍ خفي في كل مجموعة محادثة تجري عبر الشبكات الإلكترونية، بما في ذلك المكالمات.

هناك خيط آخر يربط الزمن المعاصر مع "1984". في تلك الرائعة، يسعى المواطن وينستون سميث إلى التمرّد على "الأخ الكبير"، ويتعرّف إلى امرأة تشاركه أفكاره، ويتصل بما يُفترض أنه حزب معارض. ويرصد وعي سميث تزييف الوعي الجماعي عبر التحكّم باللغة (إعادة كتابة مستمرة للقاموس، مع حذف كلمات وإضافة أخرى)، وصنع لغة جديدة تتلاءم مع القمع مثل استبدال "شرير" بـ"ليس جيّداً" وغيرها. وتحدث الصدمة الكبرى عندما يكتشف أن زعيم المعارضة موالٍ لـ "الأخ الكبير". هل يشبه جوليان أسانج "المُعارض" للـهيمنة والقريب من نظام الرئيس فلاديمير بوتين؟ هل يشبه "المُعارض" إدوارد سنودن الذي حطّ تمرده في عاصمة النظام الديكتاتوري في موسكو؟

وفي "1984"، يُلقى القبض على المواطن المتمرّد. ويروّض بالعنف كي يتغيّر وعيه (نوع من غسيل الدماغ)، ويتقبّل منظومة القيم التي تريد السلطة فرضها. ويجري اختزال وجوده الإنساني إلى مجرد كونه فرداً في جماعة موالية للديكتاتور.

ويصل أورويل إلى عمق معنى القمع عندما يكتشف المواطن سميث أن وعيه تبدّل فعلاً، وصار يحب فعلاً... الأخ الكبير. يصل نقد القمع إلى عمق أنه ليس ضراوة ولا قوة ولا قسوة، بل استبدال وعي الإنسان النقديّ المتمرّد، بوعي بديل يجعله طيّعاً وقابلاً للاندراج في جماعة تشكّلها أدوات القمع المعاصر ومؤسساته يوميّاً، وعلى مدار الساعة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة