Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أليسيا غاليان الراحلة في العشرين تعيد أسطورة رامبو

شاعرة فرنسية تنهض من النسيان وتحلق مثل نجم في سماء الليل

الشاعرة أليسيا غاليان الراحلة في العشرين (موقع غاليمار)

"أليسيا كانت محقة، الحب أقوى من الموت". بهذه الكلمات اختتم الأب جيرمان خطبته في جنازة أليسيا غاليان، شاعرة فرنسية حصدها الموت في سن العشرين، لكنه لن يقوى على النصوص التي تركتها خلفها. نصوص غزيرة ونابضة بالحب والحياة، كتبتها هذه الفتاة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عمرها، وبات بإمكاننا اليوم قراءتها إثر مبادرة دار "غاليمار" في جمعها وإصدارها في كتاب داخل سلسلة "شعر" العريقة.

"حب أليسيا خيطٌ نسجته من كلماتها المختارة بعناية، من صورها السينماتوغرافية والسوريالية أحياناً، ومن قصائدها التي لا تتجنب أي شيء، بل تملك الجرأة على الشخوص في وجه الموت لإنشاد الحياة، ولا تترك شيئاً للصدفة"، كتب قريبها، المخرج السينمائي غييوم غاليان، في خاتمة كتابها. وفعلاً، لم تؤمن أليسيا يوماً بالصدفة، بل بأن كل شيء مربوط بخيط خفي، القدر، ذلك الذي لا نفهمه دائماً، لكننا ندرك بداهته. ويا لقدر هذه الفتاة! يا لقدر نصوصها التي تمسك بنا بنقاء إشراقاتها، بالبصيرة المبكرة التي تنبعث منها، وبتلك الانفعالات البريئة التي تحييها وتجعلنا ننسى موت صاحبتها المبكر ونشعر بالحياة فقط، في كل تجلياتها، وبحب أليسيا لها "عنك، يا إلهي، لا أعرف شيئاً، باستثناء حوافي الشك القاطعة، وومضات الحب التي تجدد كل يوم كُنْهك".

حياة مختصرة

وُلدت أليسيا عام 1970، وتوفيت عشية عيد الميلاد عام 1990، في مستشفى باريسي، نتيجة عملية حقن خلايا جذعية في جسمها لتحل مكان نخاع العظم التالف فيها. وبين هذين التاريخين، قدر مذنب، عبور لحقل الكتابة المغناطيسي مثل تلك الشهب التي تنير وتصعق. دليل على أن الكلمة الأخيرة لا تعود دائماً إلى الموت. فعلى الرغم من مواجهتها المبكرة لمرض عضال وإدراكها مصيرها المحتوم بسببه، لم تتوقف هذه الفتاة أبداً عن العيش في أرجاء الشعر بطاقة وإثارة وشغف تشهد عليها ومضات الحب في قصائدها.

"ثمة أوقات أود فيها تجرع الألم في عينيك"، كتبت تلك التي عبرت حية من الجهة الأخرى للمرآة، ليس فقط لأنها تحمل اسم بطلة لويس كارول الفتية. ومثل مواطنها بوريس فيان الذي عشقت نصوصه، أبت أن ترحل "قبل أن نبتكر/ الورود السرمدية/ نهاراً من ساعتين/ البحر في الجبل/ الجبل في البحر/ ونهاية الألم"، فرصدت كل قواها للكتابة وملأت دفاترها بقصائد من تأليفها وأخرى لغيرها نعرف من خلالها مَن كان أحب الشعراء على قلبها (بريفير، رامبو، كوكتو، جينيه، ريفردي، جميع الشعراء السورياليين...)، علماً أن شغفها هذا لم يكن محصوراً بالشعر، بل شمل روائيين وفلاسفة كثراً، مثل هيغل وكافكا وهيراقليط ونيتشه، ورسامين وموسيقيين كباراً ألهموها نصوصاً باهرة، مثل ماغريت وشاغال وموزار.

وعلى غلاف واحد من هذه الدفاتر، كتبت أليسيا ببصيرة "أكتب، أحيا". كتابة مارستها خصوصاً في الليل لإيصاله إلى مسمعها أكثر من مجرد كلمات. لكن لا غم ينتظر من يتبعها في ظلماتها الحية، فالعتمة كانت ضرورية لتفتح نصوصها، تماماً كما أنها ضرورية لتلك الزهور القمرية التي لا تنبت إلا تحت ضوء النجوم "لا بأس/ أنا لا أهاب العتمة/ لا طيور كاسرة في النجوم".

عتمة وأمل

ولا عجب بالتالي في عنوان مجموعة نصوصها الثانية، "ليليات" (Nocturnes)، مجموعة قصيرة ومعتمة بقدر ما هي مفعمة بالأمل، ونقرأ فيها "العالم رائع ومليء بالمرارة/ كل منفى يأتي من الأرض ويتبعثر زبداً/ كل إغراء يفلح ويؤول إلى اتحاد". نقرأ أيضاً "عروق ذكرياتي مفتوحة/ لكن اللون الأحمر يناسبها جيداً/ (...) عيون ذكرياتي مفتوحة/ لكن الحداد يناسبها جيداً/ (...) جنبني رائحة الوقت/ أخشى ألا أجري بسرعة كافية للعودة إلى الماضي/ أخشى أن أموت عند أقدام الشمس/ مثل ظلّ وجد نفسه في النهاية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا عجب أيضاً في عنوان مجموعة نصوصها الثالثة، "الكتاب الأسوَد"، التي يختلط فيها الشعر والنثر بنعمة الكلمات، ذخيرتها الوحيدة "هذا كل ما أملكه للعيش بحدة، أي بصدق وقوة أكبر مما يخبئه القدر لي". لكن لا شكوى في هذه النصوص ولا خوف "روحي صلبة"، تقول في واحد منها. صلبة، وفي الوقت نفسه، رقيقة ومدهشة، لكونها هجست أكثر في عدم التسبب بحزن لمن حولها، منه في النحيب على قدرها القاتم، ولأنها قابلت بحمى العيش آلام مرضها الذي لا تذكره أبداً في نصوصها، كما لا تتطرق إلى كفاحها اليومي ضده منذ نعومة أظفارها "أيها الضعف، لا يمكنك النظر في عيني لأنك تدرك أني أعرف الحياة ودفعتُ الثمن". وإلى صلابتها ورقتها، يمكننا أن نضيف بلا تردد صفة الإبصار "كل إنسان يسير على هذه الأرض بمسدس ملقَّم، يعرف أن الرصاصة الأخيرة فيه ستكون له".

الكتاب الأسود

وفي مجموعة أليسيا الرابعة التي تحمل عنوان "الكتاب الأسوَد 2"، وتشكل في نظرنا أكثر مجموعاتها حدة وإلهاماً، يرتفع صوتُ ثملٌ من حب كبير أول "وتحدث المعجزة/ ويرتد انعكاس المرآة/ فتجدين نفسك في ظل نظرته/ تحت مطر من فضة". حب منحها القوة لـ"كسر عنق الليل المدمى" والتوق "إلى أفق جديد صاف"، والرغبة في "امتلاك يدي فنان/ كي أنحت الأرض/ وأمنح شكلاً للنور الحاد". حب جعلها تكتب عن حبيبها "أن أعزل حركاتك في الهواء/ كي أكررك حين تغيب/ عند الصباح". وعن مدينتها "باريس تفتح نوافذها/ على الحياة معلقةً/ ثملة بدوار مشترك". حب ألهب مشاعرها وقريحتها في نصوص غزيرة مشحونة بالإشراقات، من دون أن ينسيها مأساتها وقدرها المحتوم "لكن يد الإنسان تبقى عاجزة عن حمله إلى أعلى من السماء/ مهما كان وعده".

ولمواجهة الجحيم الذي كان يحاصرها: آلام العلاج الكيميائي المكثف، عمليات الزرع الخطيرة، العزلات الطويلة الإجبارية بعدها، وخصوصاً انطلاق العد التنازلي لأيامها المعدودة، تحصنت هذه الفتاة بالشعر لتوفيره لها فضاءً مَصُوناً ورؤيتها فيه مبدأ حقيقة، ووسيلة ناجعة لمحاورة الحميمي والغيب، والارتقاء فوق واقعها "ويتابع الصمت/ سيره الطويل/ كما في دير/ حيث بالكاد نتنفس/ كي لا نزعجه/ كي لا نزعج الصمت/ الذي حل مكان ذراعيك".

أما نصوص أليسيا الأخيرة، التي كتبتها على دفتر زهري، فتحضر في كتابها الصادر حديثاً تحت عنوان "اللا نهاية ناقص واحد"، وهي عبارة مستقاة من قصيدة لها تقول فيها "لكن الصفحة يجب أن تُكتَب/ كما لو أنها الصفحة الألف/ من سلسلة محاولات لا تحصى/ الصفحة الألف بعد ألف صفحة وصفحة/ قبل اللا نهاية ناقص واحد". فقرة أكملت فكرتها في قصيدة أخرى نقرأ فيها "وحدها الصفحة الأخيرة/ لن أدعي كتابتها/ لأنها الوحيدة/ التي لا يحق فيها الخطأ".

لكن لا خطأ في أي من نصوص أليسيا، بما في ذلك تلك المحاولات الأولى التي تعاني أحياناً ارتباكاً في النظم أو من جانب مفتعل في كتابتها وصورها، لكنها كانت ضرورية لصقل هذه الفتاة المذنب صوتها وبلوغ قمة فنها "بسرعة جنونية/ من دون مرارة أو ضغينة"، على الرغم من جلوسها في حضن الموت.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة