Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا والحروب ... أيهما يطارد الآخر؟

يقول جو بايدن إن القوة لم تعد إجابة لكل مشكلة عالمية ويحذّر معارضوه من أن الضعف يجلب العدوان

لحظة إخلاء محطة تابعة للاستخبارات الأميركية في سايغون الفيتنامية بعد سقوطها في يد القوات الشيوعية عام 1975 (HUGH VAN ES/UPI/NEWSCOM)

في خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ تولّيه الرئاسة، قال جو بايدن إن "الافتتان" الأميركي مع الحرب انتهى، مؤكداً للعالم بأن الولايات المتحدة تمرّ بتغيرات جذرية، وأن عهد جورج دبليو بوش والمحافظين الجدد قد ولّى. وشدد الرئيس صراحةً بأنه لم يعد هناك مكان للقوة باعتبارها "إجابة لكل مشكلة نراها في العالم"، في إشارة إلى رغبته في تفكيك مركزية القوة العسكرية في العمل الدبلوماسي الأميركي.

إلا أنه وبعد أشهر من خطابه، يبدو توجّه بايدن نحو الحد من عسكرة الدبلوماسية، مهدّداً بينما تحاول واشنطن عرقلة خطط سيد الكرملين لابتلاع جارته الصغيرة، إذ بلغ إجمالي المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا منذ بدء الحرب نحو 1.7 مليار دولار، كما حصلت كييف من الولايات المتحدة وحلفائها على 60 ألف نظام مضاد للدبابات وأنواعاً مختلفة من الأسلحة الدفاعية التكتيكية، في الوقت الذي تدرّب فيه الولايات المتحدة في أراضيها عدداً من الجنود الأوكرانيين.

وليس أزمة أوكرانيا وحدها ما يهدد سياسة إدارة بايدن، ولكن سلوكها في التعامل مع منافسيها، الذي أظهر شهيّة مفتوحة لخوض معارك مع الصين وروسيا، كما حدث في اجتماع شهدته ألاسكا بين مسؤولين أميركيين وصينيين في مارس (آذار) من العام الماضي، حين شاهد العالم الذي لا تنقصه حرب باردة، وزيري الخارجية الأميركي ونظيره الصيني يتناوبان في تبادل الاتهامات والتوبيخ.

وبعد فترة وجيزة من تصريح ناري لجو بايدن وصف من خلاله بوتين بـ "القاتل"، لم يتردد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في وصف الصين أمام كبير دبلوماسييها بأنها أكبر "اختبار جيوسياسي للقرن الحادي والعشرين"، ضمن سلسلة من اشتباكات خطابية شنّتها إدارة بايدن مع خصومها الكبار، حتى أن "واشنطن بوست" قالت إن الإدارة الحالية وبخلاف توقعات عودتها إلى النهج التقليدي، لم تبتعد عن معارضة رؤساء الحكومات والأحزاب الحاكمة، وانخرطت في نهج قد يتسبب في نتائج غير متوقعة وفوضوية على المسرح السياسي.

وفي المشهد الحالي الذي تغزوه صور الدمار والدم الآتية من أوكرانيا، يبدو الرئيس بايدن أكثر قابليةً لانتقاد بوتين، فهاهو تارةً يصفه بـ "مجرم حرب" وتارة يقول إن "بوتين لا يمكنه أن يبقى في الحكم"، في تصعيد يزيد احتمالات المواجهة بين قوتين نوويتين، ويتعارض مع سياسة الاحتواء التي يبشّر بها بايدن.

وحين طارت وسائل الإعلام بعناوين تلمّح إلى تغيير جذري في النهج الأميركي فحواه الإطاحة ببوتين، سارع المسؤولون الأميركيون إلى تدارك تصريحات بايدن، مبرّرين بأن الرئيس عبّر عن وجهة نظره، ولم يدعُ مباشرة إلى الإطاحة بسيد الكرملين، مؤكدين أن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام في روسيا أو غيرها من البلدان.

القيادة بالقوة أم بقوة المثال

قال بايدن في خطاب تنصيبه إن الولايات المتحدة ستقود بقوة المثال لا بمثال القوة فقط، إلا أن الظروف والمعطيات حتى الآن تطعن في قدرته على وضع حدّ لما أسماه بـ "الافتتان" مع الحرب، فالولايات المتحدة في عهده مازالت تولي قوتها العسكرية وتفوقها النوعي عالميا أهمية واضحة، بخاصة مع تزايد المنافسة بين القوى العظمى. على سبيل المثال، رفعت واشنطن خلال العام الحالي موازنتها الدفاعية بنسبة 8 في المائة، وطلب البنتاغون للسنة المقبلة رصد 133 مليار دولار لتطوير الصناعات العسكرية، وتحديداً برنامج الطائرات المسيرة. كما يكشف قانون الإنفاق الحكومي الأميركي الصادر في منتصف مارس (آذار) الماضي، عن مخطط لشراء أسلحة بـ 3.5 مليار دولار.

وبدلاً من بناء خطاباته على أساس اعتبار القوة ملاذاً أخيراً، ترى مجلة "فورين أفيرز" بأن على بايدن بناء سياساته إدارته وخيارات الإنفاق العسكري أيضا لتكون متمحورة حول هذا التوجه، إذا ما أراد بناء عقيدة ملموسة توضّح متى يجب اللجوء إلى القوة، وما الذي يبرر استخدامها، إضافة إلى تعريف جدوى القوة العسكرية في عصرنا الحالي. وتدعو المجلة الرئيس الأميركي إلى دفع بلاده إلى التقيد بقواعد استخدام القوة التي تتوقع من الدول الأخرى الالتزام بها، وللقيام بذلك، فعليها تقليل إنفاقها العسكري وإعادة النظر في خطتها التريليونية للإنفاق على ترسانتها النووية في العقود المقبلة.

تدخلات عابرة للقارات

وترى "فورين أفيرز" بأن على بايدن إثبات جدية التزامه في القيادة بقوة المثال عبر إلزام بلاده بالمثل الموجودة سابقاً التي استثنت نفسها منها خاصة في السنوات التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهذا يعني أن تتخلى واشنطن تماماً عن فكرة "الحرب الوقائية"، في تذكير بخطاب بوش الابن في صيف 2002، حين أعلن بأن هجمات 11 سبتمبر كتبت نهاية مبادى عصر الحرب الباردة من الردع والاحتواء، ليمهّد لتشكّل عقيدة بوش التي استخدمت استراتيجية الضربات الاستباقية للدفاع عن الأمن القومي الأميركي من التهديدات المستقبلية، واُستخدمت هذه السياسة لتبرير الحرب على العراق والتدخلات الأميركية لمكافحة الإرهاب.

وليست مبالغة لو قيل إن هوليوود ليست وحدها المسؤولة عن تغذية عقولنا بمشاهد الحروب التي لا تخطر على البال، وإنها ليست السبب الوحيد في كون الذاكرة الأميركية زاخرةً بصور المعارك التي يكررها التاريخ كما يكرر كاتب سيناريو سيء نفسه وغيره، فهاهو مشهد المروحية الأميركية المحلّقة فوق سماء سايغون الفيتنامية لإجلاء رعايا أميركا وحلفائها بعد سقوط المدينة في يد القوات الشيوعية يعود إلى الأذهان بعد قرابة نصف قرن، حين تناقلت وسائل الإعلام صورة لطائرة أميركية تهبط على مبنى السفارة في كابول الأفغانية التي سقطت في يد طالبان.

وفي القرن الواحد والعشرين، تبدأ قائمة الحروب الأميركية من أفغانستان حيث بقيت الولايات المتحدة عقدين، ولا تنتهي عند حرب العراق في 2003 بحجة امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل قبل أن يتضح أنه لم يمتلكها. وسجّل العقدان الماضيان، تدخلات أميركية مختلفة الأهداف في العراق وسوريا وليبيا، ومن الأمثلة الأقل شهرة، التدخل الأميركي الذي استهدف آلاف الأهداف في شمال غرب باكستان بين عامي 2004 و2018 أو ما وُصف حينها في عهد بوش الابن بـ "حرب الدرون" التي تصاعدت وتيرتها في عهد خليفته باراك أوباما، الذي اعترفت إدارته في 2019 للمرة الأولى بمقتل أربعة مواطنين أميركيين نتيجة لتلك الغارات.

وهناك أيضا التدخل الأميركي في الحرب الأهلية في الصومال منذ 2007 حتى الآن. وعلى نحو أضيق، لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في عملية درع المحيط بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وهي مبادرة بدأت في 2009 وانتهت في 2016، بهدف مكافحة هجمات القراصنة في المحيط الهندي، وقناة جواردفوي، وخليج عدن، وبحر العرب، وحماية السفن التي تعبر مياه المنطقة.

رؤية مغايرة: لا بديل للقوة

وعلى الرغم من شعبية الخطاب المناوئ للحرب في واشنطن، إلا أن مايكل جونز كاتب خطابات جورج بوش الأب سابقاً، يرى بأن "الدرس الذي تعلمته الولايات المتحدة من هجوم بيرل هاربور في 7 ديسمبر 1941 خلال الحرب الباردة، ومن تهديدات القرن الحادي والعشرين، الذي أظهر لأول مرة تهديد الإرهاب الإسلامي المتطرف، والآن تهديد الحزب الشيوعي الصيني، هو أن إرساء السلام يتم في نهاية المطاف من خلال القوة، إذ أن الضعف يجلب العدوان".

ولم يتوانَ جونز في حديثه لـ "اندبندنت عربية" من التحذير من خطة بكين لتحلّ محل الولايات المتحدة، مشيراً إلى "انتهاك الحزب الشيوعي الصيني اتفاقية استقلال هونغ كونغ"، و"معاملة أقلية الأويغور المسلمة" و"السلوك المستمر الذي يهدد سيادة تايوان". وأضاف، "قدرتنا على مضاهاة القوة البحرية للصين في بحر الصين الجنوبي وحدها ستمنعهم من تنفيذ مخططهم الكبير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويرفض المحلل في مجال الأمن القومي تصوير أميركا بأنها "قوة مسلحة في العالم"، قائلاً، "تاريخنا يثبت عكس ذلك"، ويستشهد بـ "البطء في استخدام القوة، والبطء في استخدامها من جانب واحد على وجه الخصوص". وتابع، "يعتقد العديد من مؤرخي الحرب العالمية الثانية أن الولايات المتحدة تأخرت للتحرك ضد قوى المحور حتى هُوجم ميناء بيرل هاربور الأميركي... بحلول ذلك الوقت، سقط جزء كبير من أوروبا في يد هتلر وقُتل ملايين من الأبرياء".

وعن عوائد التدخلات، كالتدخل في أفغانستان الذي انتهى بمرارة العام الماضي، قال جونز إن "العالم واجه بعد الحرب العالمية تهديداً حقيقياً من الشمولية التي يمثّلها الاتحاد السوفياتي الذي غزا أفغانستان في عام 1979 واحتلها لما يقرب من عقد من الزمان"، لافتاً إلى أن الاتحاد السوفياتي "سعى إلى تعطيل حلفاء الولايات المتحدة والديمقراطيات وفي بعض الأحيان نجح، لكنه لم ينتصر في النهاية، لأن واشنطن حافظت على القوة الكافية لمنعه من تنفيذ مخططاته المتشددة والعالمية".

ودافع جونز عن سياسات بوش الابن مذكّراً بأن الولايات المتحدة كانت ضحية لأكبر هجوم إرهابي في تاريخ العالم. وقال "يجب أن نتذكر أن الحرب على الإرهاب لم تكن حرب جورج دبليو بوش. في تصويت الأمم المتحدة عام 2002، انضم إلينا جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين، الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة". وتابع، "الولايات المتحدة تحمّلت العبء العسكري للدفاع عن الحرية والسيادة عالميا، لكنها لم تخلق هذه الصراعات ففي كل مرة تصرفنا بشكل متجاوب، وليس استباقياً، والعالم محظوظ لأن لدينا القوة العسكرية لصد هذه التهديدات"، داعياً في هذا السياق إلى "تقسيم أعباء الدفاع مع حلفاء واشنطن بشكل متساوٍ".

محدودية سلاح العقوبات

وعما إذا كان بوسع بايدن أن يكون الرئيس الذي يضع حداً لعسكرة الدبلوماسية، قال ديفيد دي روش مدير مكتب الخليج وشبه الجزيرة العربية بوزارة الدفاع سابقاً في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "الولايات المتحدة تفصل عموماً بين الدبلوماسية والجيش باعتبارهما مجالين مختلفين للقوة الوطنية". وأضاف، "عندما يتحدث المراقبون عن الدبلوماسية العسكرية فإن ما يصفونه في الواقع يميل إلى أن يكون غياب الدبلوماسية وحالة يميل فيها الجيش الأميركي إلى أن يكون الممثل الوحيد للحكومة الأميركية في الخارج".

وأسباب اللجوء إلى الدبلوماسية العسكرية كثيرة بحسب دي روش، إلا أن أكبرها على الأرجح نقص تمويل وزارة الخارجية، إضافة إلى عدم قدرتها على العمل في أراضي النزاع، فمنذ أزمة الرهائن مع إيران، حافظت وزارة الخارجية على نهج متشدد في تجنب المخاطر، وتَعزّز هذا النهج بعد مقتل السفير الأميركي في ليبيا، ولذلك تميل وزارة الخارجية إلى أن يكون لها وجود أقل في مناطق الصراع من الجيش. وأضاف المسؤول السابق، "حتى عندما يكون لـ (وزارة الخارجية) ممثلين على الأرض، فإنهم يميلون إلى ألّا يكونوا متنقلين ومرئيين مثل الجيش. وقد أدركت الإدارات المتعاقبة من الحزبين المشكلة، ولكن يبدو أنها مشكلة من دون حل على المدى القصير".

وعما إذا كانت العقوبات كافيةً لردع أعداء الولايات المتحدة وحلفائها من دون اللجوء إلى الحل العسكري، يرى المسؤول الأميركي الذي قضى 3 عقود في الجيش، وأدار عمليات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، بأن العقوبات على مر التاريخ كانت فعالة بشكل محدود، إلا أن فعاليتها لا تصل إلى حد تغيير النظام، معتبراً "العقوبات الموجّهة ضد "الأنظمة الاستبدادية والفاسدة مثل روسيا وإيران غير فعالة بشكل خاص لأن مثل هذه الأنظمة لا تستجيب للرأي العام".

ومع ذلك، ينوّه دي روش بقدرة العقوبات الموجّهة على حرمان هذه البلدان من مزايا معينة كما حدث بعد وقف الدول الغربية إرسال تقنيات متقدمة إلى روسيا، مما أدى إلى توقف الإنتاج في مصنع دبابات رئيسي في روسيا بسبب نقص هذه الأجزاء، وفق تقارير صحافية.

حرب يصعب تسويقها

من جانبه، يتفهّم هشام الغنام، الباحث الرئيس في مركز الخليج للأبحاث، النظرة العامة والمتكررة تجاه الخشية الأميركية من التدخلات العسكرية عموماً بعد ما حدث في العراق وأفغانستان، لكنه يرى أن هناك أسباب أخرى هي أكثر علاقة وأهمية وخصوصية تتعلق مباشرة بحرب روسيا وأوكرانيا حيث تحاول الولايات المتحدة تجنب أي مواجهة مباشرة مع موسكو. وقال "أميركا تنظر إلى أن غزو روسيا لأوكرانيا غير شرعي، لكنها في الوقت نفسه تراها حرباً إقليمية بامتياز لا تستدعي تدخلا عسكرياً من جهتها وسيكون صعباً على الإدارة الأمريكية تسويق حرب مثل هذه في الداخل الأميركي".

واعتبر الغنام حرص الولايات المتحدة على تجنب صراع نووي بأنه "لا يعني أن أميركا لا تريد رؤية روسيا مهزومة هزيمة مذلة، وهذا كما يعتقد الأميركيون، ممكن من خلال تقديم الدعم للقوات الأوكرانية بطرق أخرى ليس منها إرسال جنود أميركيين"، ونوّه بتأثير العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على موسكو، قائلاً، "رغم ما ينطوي عليه الأمر من مخاطر كثيرة، فقد اُستهدف القطاع الروسي المصرفي بضراوة، وجُمّدت الأصول المالية الروسية، وفرضت عقوبات متعددة على شركات التعدين والصناعة والنقل والخدمات اللوجستية الروسية الكبرى التي تمثل عصباً مهماً وشرياناً  للاقتصاد الروسي".

المزيد من سياسة