Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أيها الحاكم إن كنت بليغا تسيطر على الرأي العام

 مجلة "فلسفة" تعالج فن الخطاب السياسي من أرسطو إلى باراك أوباما

الإغريقي باريكليس يخطب ببلاغة (متحف الفن الإغريقي)

عدد خاص متفرد بموضوعاته أصدرته، أخيراً، مجلة "فلسفة" الفرنسية (Philosophie magazine, hors-série, n°51) يقدم للقراء نصائح وحيلاً واستراتيجيات لامتلاك ملكة البلاغة أو البراعة في الكلام والخطبة والجدال والإقناع. في مقدمة العدد يطرح رئيس تحرير المجلة الكاتب الفرنسي سيفين أورتولي سؤالاً تردد لقرون خلت: أيهما أولى، الكلام الصحيح أم الكلام البليغ؟

يطرح هذا العدد من مجلة "فلسفة" أسئلة مفيدة ومهمة في عصرنا اليوم: ما أصول فن التكلم ببلاغة، ما صفات المتحدث الفصيح البليغ البارع، ما وسائل الإقناع، كيف يكسب المرء جدالاً ويُقنع الآخر بوجهة نظره، كيف يفرض المرء سيطرته على المحيطين به ويسيرهم بحسب رؤيته للأمور؟

طالما كان الكلام أداة تعبير وتفكير وميزة الجنس البشري، فالإنسان حيوان ناطق، بحسب الفيلسوف الإغريقي الغني عن التعريف أرسطو. إن الكلام من أساسيات الحياة البشرية، ومن شروط بقائها، فهو ضروري لتبادل الأخبار والمعلومات والمعارف والأحاديث والاكتشافات. إن كل فرد في المجتمع قادر على التحدث في شؤونه وشؤون محيطه وبيئته من دون الحاجة إلى أن يكون فصيحاً أو بليغاً طبعاً، لكن المتحدث البارع وحده هو الذي يقنع ويحفز ويسير ويسيطر.

إن الفصاحة (éloquence) التي هي شرط البلاغة، والتي تعني سلامة اللغة من تنافر الحروف وتنافر الكلمات وغرابة الألفاظ ومخالفة قواعد اللغة، ليست شرطاً للكلام، لكنها شرط للكلام بحنكة ومهارة. أما البلاغة (rhétorique) فهي مستوى أعلى وأرفع من الكلام، لا يمتلك زمامه وملكته كل من تحدث. إن البلاغة والقدرة على التلاعب بالكلمات والمراوغة والإقناع ملكة قد تنوجد في الفرد بالفطرة أو اكتساباً بالتعلم والتثقف. فبينما ليس كل متحدث فصيحاً أو بليغاً بالضرورة، فليس كل فصيح بليغاً، إنما كل بليغ هو فصيح بالضرورة، وكل قائد لا بد من أن يكون بليغاً لا محالة. من هنا جمالية هذا العدد من مجلة "فلسفة" الذي يقدم نصائح واستراتيجيات لامتلاك موهبة المجادلة والإقناع والمراوغة بالكلام.

تحضير وتنظيم وحفظ وإلقاء

في تحرير منطقي أنيق، يقدم هذا العدد مادته بطريقة منطقية متسلسلة، فيبدأ بعودة تاريخية كرونولوجية إلى أصول الفصاحة والبلاغة في الغرب ويعرض لمقولات أبرز الفلاسفة والمفكرين في الحضارة الغربية في أصول فن التخاطب والمجادلة، مع ذكر عناوين مؤلفاتهم بحسب تواريخ صدورها. ثم تُقسم استراتيجيات أصول الكلام إلى ثلاث مراحل: مرحلة التحضير؛ مرحلة بناء النص؛ مرحلة الإلقاء. إن كل خطبة تمر بهذه المراحل الثلاث، وفشل الخطيب بإيصال مرسلته هو دليل على زلة أو هفوة في إحدى هذه المراحل.

بلاغة الخطيب وقدرته على الإقناع تعتمدان على تحضيره لخطبته واستراتيجياته الكلامية، كما تعتمد على بنائه نصه بإيجاز ووضوح ومنطق وفصاحة وبلاغة وتألق ومراوغة وبساطة وحيوية وسواها، ليكون العامل الأخير الذي لا بد من التنبه إليه هو الإلقاء، وهو أمر بالغ الأهمية يعتمد على كاريزما الخطيب وحفظه لنصه وتمكنه منه واقتناعه بأفكاره وشغفه بموضوعه. عناصر كثيرة تحدد درجة نجاح خطبة وبلاغة متحدث وقدرته على الإقناع. عناصر ومراحل يفصلها هذا العدد من مجلة "فلسفة" بحنكة وجمالية ممتعتين لكل قارئ.

وقد شارك في تقديم هذا العدد كتاب ومحامون وأساتذة لغة ومفكرون معاصرون غربيون قدموا نصائحهم وعصارة فكرهم، فوردت خُطب حفظها التاريخ كمثل خطبة الفيلسوف شيشرون أو خطبة بوسوييه وهوغو ومالرو وحتى باراك أوباما لدى تسلمه منصبه رئيساً لجمهورية الولايات المتحدة الأميركية. كما ضم العدد نقداً لحلقات جدال بين مرشحين إلى الرئاسة الفرنسية، تم فيه تحديد زلات كل مرشح، أكانت على صعيد اللغة أم حركة الجسد.

الفصاحة والبلاغة والديمقراطية

نحن اليوم في زمن الفصاحة والبلاغة بحسب المحامي والأستاذ الجامعي في أصول التحدث بيرتراند بيرييه (Bertrand Périer). لقد بات من الضروري بحسب هذا الأخير أن يجيد المرء التعبير عن أفكاره ورغباته ليمتلك وجوداً وحضوراً ويلمع نجمه في الحياة الاجتماعية. باتت البلاغة قوة عظمى تتلاعب بالحقيقة وتفرض حقائق الخطيب الخاصة، وتغير الآراء والوقائع بحسب وجهة نظره. لم يعد السلاح أو المال وحدهما السلطتان المتحكمتان بالجنس البشري، فالحاكم هو المتحدث اللبق، هو الذي يستطيع أن يقنع الآخرين بوجهة نظره وبرأيه. من هنا تأتي خطورة الديمقراطية التي هي قبل كل شيء سيطرة المتحدث الأكثر جاذبية والأكثر قدرة على الإقناع على عقول الآخرين.

من مخاطر الديمقراطية أنها لعبة مراوغة وديماغوجيا، فالحاكم المسيطر هو الفرد البليغ الذي يستطيع التحكم بالرأي العام واستمالته إليه. فيعتبر أفلاطون مثلاً أن الديمقراطية تفتح الطريق أمام الاستبداد والطغيان لأنها تسمح للمتحدث اللبق والمحنك الماهر في فنون الكلام أن يتلاعب بالكلام وبالتالي بالحشود. نُضيف ما يقوله الفيلسوف جورجياس في هذا الشأن إذ يعتبر أن الكلام طاغية شديد القوة والتأثير على الرغم من أنه عنصر غير مرئي وغير ظاهر. فبحسب جورجياس المعاصر لأرسطو يمكن للكلمة أن تُنهي خوفاً، أن تبدد حزناً، أن تثير فرحاً، أن تثير شفقةً، فسطوتها هائلة وقدراتها لا حد لها.

تشكل اللغة اليوم حاكماً مستبداً يتحكم بالمجتمعات ويحركها، فالمتحدث الأذكى والأكثر حنكة والأشد براعة هو الآمر الناهي والمسير للحشود. وقد أشار تودوروف إلى هذا المأزق الاجتماعي حين قال، إنه يجب ألا يتم الخلط بين فصاحة اللفظ وصحة الفكر، فقد يكون الكلام فصيحاً وبليغاً ومقنعاً لكن الفكر الذي يعبر عنه ملتوٍ والحقائق التي يقدمها متلاعب بها وغير صائبة. إن أبسط فرد في المجتمع إن عرف متى يجب التكلم، وأين يجب التكلم وكيف، وإن عرف إلى أي جمهور يتوجه وعبر أي باب يقتحم الأذهان، ملك بين يديه تأييد الحشود (les masses).

استراتيجيات الخطبة والإقناع

إن ذروة البلاغة بحسب مفكرين كثر تكمن في أن يقول المرء ما لم يفكر فيه أحد من قبله ويجعله تماماً ما يفكر فيه الجميع من بعده. إذا تكلم المرء فليجهد أن تكون ألفاظه عذبة سهلة سليمة لا يُمل سماعها ولا يقوم فيها لبس ولا تخرج على ما وُضع في مقدمة القول. إن الإطناب ممل لكن الإيجاز قد يخل بالمعنى، فليكن الكلام بمدلوله صحيحاً يُراعى فيه السامعُ ومستواه الفكري والعلمي والاجتماعي كما يراعى فيه الاعتدال، فليس كل لفظ مقبولاً ولا كل مدلول معقولاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن الفصيح أقدر وأجدر في الدفاع عن حقه وانتزاعه من المعتدين، وذلك إذا كان الميدان ميدان حجاج وكلام وسياسة. ومن فوائد الفصاحة أنها تدعو السامع للعمل بالكلام الذي يسمعه، فهي تملك القدرة على الإقناع والاستمالة. يقول بروتاغوراس مثلاً إنه لا وجود لحقائق عامة، وحدها القدرة على الإقناع هي المؤثرة، وحده فن البلاغة والمحاورة هو الذي يغير ويفرض الحقائق.

وتقوم نظرية أرسطو في الإقناع على استراتيجيات ثلاث لا بد من توظيف إحداها في كل جدال أو خطبة: الإيتوس (éthos) وهو استمالة المتلقي عبر أخلاق الخطيب والقيم التي يقول بها؛ الباتوس (pathos) وهو فن اجتذاب تأييد الجمهور عبر العاطفة؛ واللوغوس (logos) وهو فن الإقناع باعتماد منهجيات عقلية ودلائل منطقية. بحسب أرسطو، إن أي متحدث يرغب في إقناع جمهوره لا بد من أن يلجأ إلى إحدى هذه الطرق. ويضيف الفيلسوف شيشرون إلى هذه النظرية أن الخطيب المثالي هو المتحدث البارع القادر على إتقان مستويات اللغة الثلاث: المستوى البسيط الذي يكون في متناول جميع المتلقين؛ المستوى المتوسط وهو الذي يكون أرفع شأناً من سابقه؛ والمستوى الرفيع وهو الذي يحرك ويؤثر بعمق ولباقة لغوية مثالية. ويتم تقسيم استراتيجية التحدث إلى خمس خطوات: تحديد موضوع الكلام؛ تنظيم الأفكار؛ تحديد طريقة الإلقاء؛ الجمع بين الكلام وحركة الجسد؛ إلقاء الكلام غيباً ومن دون العودة إلى ورقة ملاحظات التي تسلب الخطيب كثيراً من سطوته.

الفصاحة والبلاغة والـبيان والبراعة ألفاظ مترادفة مع فروقات دقيقة، وليس كل متحدث فصيحاً أو بليغاً أو بارعاً بالضرورة. الفصاحة بالقياس أو بالسماع، قدرة تطورها القراءات وتهذبها الثقافة، أما البلاغة فلها هي الأخرى أصول ومناهل، ومن تمكن منها تمكن من التحكم بعقول المحيطين به وإقناعهم بأفكاره ورؤاه. من هنا أهمية هذا العدد وجماليته، فنحن في زمن الإقناع والديماغوجيا والمراوغة: إنمـا الناسُ أحاديـث، وأشدهم سطوة هو أحسنهم حديثاً.

المزيد من ثقافة