Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين أدخل الرسام الفرنسي إنغرز فن البورتريه في حلبة الصراع السياسي

مع البارونة والصحافي البورجوازي على الضد من حراك الشارع الثائر

بورتريه الصحافي برتين (موقع ويكيبيديا)

في مرحلة متأخرة من حياته وحين صار واحداً من كبار نجوم الفن في فرنسا وموضع تكريمات لا تنتهي، سوف يقر الرسام الفرنسي جان أوغست دومنيك إنغرز (1780 – 1867) بأن معظم البورتريهات التي رسمها خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأولى من حياته، كانت بدافع طلب الرزق حتى وإن كان قد بقي راضياً حتى النهاية عن معظمها، "لكني بعد ذلك رحت أرسم هذا النوع من اللوحات لمجرد أنني أحببت ذلك، وبت مقتنعاً بجدواها حتى وإن عادت علي في أحيان كثيرة بمردودات رحبت بها". وهذا على أية حال ما قاله خلال خطاب ألقاه لمناسبة احتفال كبير جرى لتكريمه في باريس، وقد بات في السبعينات من عمره. ويومها خصّ الفنان الكبير لوحتين من تلك البورتريهات بالذكر، مؤكداً على أهميتهما بالنسبة إليه، ليس من الناحية الفنية فقط "بل من الناحية السياسية أيضاً"، كما أشار يومها مبتسماً. ولقد أدرك الحضور يومها أنه كان يعني تحديداً اثنتين من أبرز البورتريهات التي حققها في تلك المرحلة المتوسطة من حياته، والمتقدمة من مساره المهني والواقعة بين العامين 1832، حين رسم "بورتريه لوي – فرانسوا برتين" والعام 1848 حين رسم بورتريه "البارونة جيمس دي روتشيلد"، وهما اللوحتان اللتان كان يشير إليهما في حديثه.

حماسة مفاجئة

ومن الواضح أن مستمعيه أدركوا يومها أبعاد ما يشير إليه هم الذين كانوا يعرفون القاسم المشترك بين اللوحتين، حتى وإن كان يفصل بينهما ما يزيد عن 15 عاماً. وحتى وإن كان من البديهي أن الفنان لم يرسم أياً منهما من تلقائه أو بمبادرة منه، بل كان قد أوصي على كل منهما من قبل أصحاب العلاقة، لكنه اندفع في عمله بحماسة لم تكن معهودة لديه، وتحديداً في مرحلة ما كان من شأن مكافأته على أي منهما لتزيد من ثروته. وكانت لحماسته علاقة بمواقفه السياسية بالتأكيد، بل كما سيؤكد هو نفسه مبتسماً على الدوام. والحال أنه يجدر بنا لتوضيح هذا الجانب، أن نتوقف قليلاً عند كل من الشخصيتين المرسومتين كما عند الظرف الذي رسمت فيه كل من اللوحتين، إذ أن الدلالة كلها إنما تكمن ها هنا بالتحديد.

صحفي لا يُمسّ

من ناحيته، كان برتين في ذلك الحين واحداً من ألمع الصحفيين في فرنسا، وكان بصفته رئيساً لتحرير صحيفة "لي ديبا"، يعتبر ناطقاً باسم بورجوازية ليبرالية تساند الحكومة القائمة على الضد من صخب الاحتجاجات الشارعية التي اندلعت في العام 1830، وكان إنغرز نفسه معادياً لها، ومن هنا اعتبرت اللوحة التي رسمها لبرتين يومها نوعاً من التحدي الصارخ للمواقف الشعبوية، وليس فقط لمجرد أن الرسام تجرأ على تحقيقها، بل من جراء النظرة التي عبر عنها برتين في اللوحة وهو يحدق مباشرة في عيني الناظر إلى اللوحة متحدياً إياه بكل هدوء واطمئان وكله ثقة بأنه هو، أي برتين، لا يمس. ويمكننا أن نلاحظ هنا كيف أن بيكاسو حين رسم لصديقته الأميركية جرترود شتاين ذلك البورتريه الذي عبر فيه عن ذاته أيضاً، اقتبس من لوحة إنغرز هذه نفس الجلسة ونظرة التحدي في رسالة وصلت بالتأكيد إلى المرسل إليه تماماً كما وصلت رسالة لوحة إنغرز التي عبرت، كما هو واضح، عن برتين كما عن الرسام نفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

معركة شخصية

وهذا بالنسبة إلى برتين الذي اعتبر إنغرز رسمه له نوعاً من معركة شخصية. فماذا عن البورتريه التي رسمها بعد ذلك بعقد ونصف العقد من السنين للبارونة بيتي دي روتشيلد؟ هنا قد يكون من الأصعب القول إن الرسام عبر عن ذاته أيضاً من خلال جلسة البارونة ونظرتها، وبالتالي من خلال البورتريه ككل. لكنه على أية حال عرف بالتأكيد كيف يعكس موقفاً سياسياً لا يقل دلالة وقوة عن ذاك الذي عبر عنه في بورتريه برتين. فلماذا وكيف ذلك؟ الحقيقة أن تاريخ إنجاز هذه اللوحة لا يمكن فصله عن أهميتها. فإنغرز رسم بورتريه بيتي دي روتشيلد بعد أسابيع قليلة من الاحتجاجات التي عمت الشارع الفرنسي، كما أنحاء عدة من أوروبا، في العام 1948، وكان من بين "ضحاياها" البارون دي روتشيلد نفسه، والذي كان في ذلك الحين واحداً من كبار المصرفيين في فرنسا بل بما في أوروبا كلها. ومن هنا لم يفت ثوار 1948 أن ينددوا به وبأعماله المصرفية التي اعتبروها مشاركة منه في الانهيار الاقتصادي الذي يصيب البلد وأوروبا عموماً، وخصوصاً من خلال إقراضه الدول والحكومات تلك المبالغ الطائلة التي ساهمت في الفساد والفضائح المالية، بل حتى في إشعال الحروب وسباقات التسلح. ومن هنا لم يكن غريباً أن تستشرس حملات الثوار ضد روتشيلد بشكل خاص متضافرة مع نوع من اللاسامية إنطلاقاً من يهودية روتشيلد. ولن تكون شخصية زوجته البارونة بيتي بعيدة عن تنديدات الثوار، وهي التي كانت معروفة بإسرافها في الإنفاق وإقامة الحفلات الصاخبة. ومن هنا تمكن بعض المؤرخين والنقاد من الربط بين تلك المواقف الصاخبة من البارونة وبين حماسة إنغرز في رسمها بصورة تقف على الضد، هنا أيضاً، من المواقف المتفاقمة في الشارع. ففي نهاية المطاف كان إنغرز معادياً هنا أيضاً للحراك الشارعي يقتنص المناسبات للتعريض به ولو مواربة.

لعبة التحدي السياسي

ومن الواضح أن المناسبة واتته هنا حين طلب آل روتشيلد من الرسام أن يرسم للبارونة بورتريه يخلدها فيه. وهو ما اندفع يحققه من دون أدنى تردد، وبحماسة تزيد عن حماسته لأي بورتريه كان قد رسمه من قبله. وهو لفرط حماسته حضّر لهذا البورتريه في عشرات الدراسات بشكل لم يسبق له فعله بالنسبة إلى أي بورتريه آخر، ومن هنا أتت النتيجة "أكثر من فوتوغرافية" بحسب تعبير النقاد في زمن تال، حين بدأ الفن الفوتوغرافي ينافس الرسم ولكنه يبدو مقصراً، في مراحله الأولى على الأقل، مقارنة مع ما توصل إليه إنغرز هنا. والحقيقة أننا لا نشير بهذا فقط إلى ثوب البارونة البديع الذي اشتغلت عليه ألوان الرسام وخطوطه بمهارة حرفية نادرة، ما جعله مدرسة في حد ذاته لهذا النوع من الإبداع وصولاً حتى إلى أدق التفاصيل، بل نشير أيضاً وخصوصاً إلى تلك السكينة البادية في جلسة البارونة، وصولاً إلى نظرتها الهادئة والتي لا تخلو من نفس ذلك التحدي الذي كان إنغرز قد صوره قبل ذلك بأعوام طويلة، بادياً في نظرة الصحفي برتين، علماً بأن الظرف السياسي الخاص بالصحفي كما بالبارونة كان هو نفسه من حراك غاضب في الشارع، ما يعني أن التعبير الذي رسمه الفنان في تفاصيله كان هو نفسه، وكان يعبر كذلك عن موقف هذا الرسام من حراك الشارع في الحالين معاً. كان موقفاً سياسياً من رسام رأى نفسه معنياً في الحالين، وتمكن في البورتريهين من أن يترك وصية سياسية بقدر ما هي فنية. ومن الواضح أن هذا بالتحديد ما أراد إنغرز أن يؤكد عليه لاحقاً في خطاب الحفل التكريمي الذي أقيم له، راغباً في أن يذكر بعد عقود من حراك العام 1830 ثم من حراك العام 1848، كم أنه كان هو نفسه، وسياسياً بالتحديد على حق في "اقتناصه تينك الفرصتين الفنيتين لقول السياسة من خلالهما" في اللوحتين.

عدة تواريخ في رواية ولوحة

وهنا لا بد من أن نشير على سبيل الختام إلى أن الكاتب الفرنسي المعاصر لنا بيار آسولين، أصدر في العام 2007 رواية "تاريخية" بعنوان "البورتريه"، جعلها تدور من حول لوحة إنغرز التي تصور البارونة روتشيلد، لكنه جعل اللوحة نفسها راوية لتاريخها منذ أنجزها الرسام حتى زمن صدور الرواية، واصفاً فيها تقلبات التاريخ الفرنسي خلال أزيد من قرن ونصف القرن من الزمن. ولقد أعادت هذه الرواية التي حققت نجاحاً كبيراً، إلى الأذهان، ليس فقط تاريخ هذه اللوحة التي تنقلت من ملكية آل روتشيلد إلى مالكين عديدين قبل أن تستقر اليوم في مجموعة باريسية خاصة، وليس تاريخ تطور فن البورتريه في فرنسا، بل كذلك تاريخ العلاقة بين الفن والسياسة وحتى بين الفن والحراكات الشعبية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة