Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ستكون الإدارة الأهلية واجهة للنظام السياسي في السودان؟

تخوفات من استخدامها أداة انتخابية والخلافات تثبت أن المجتمع لم يتجاوز الكيانات التقليدية

 الإدارة الأهلية كتنظيم إداري قضائي قديم وراسخ في أغلب أقاليم السودان المختلفة، وبخاصة الأرياف البعيدة (حسن حامد)

اشتدت الخلافات بين مكونات الإدارة الأهلية للوفاق الوطني منذ انعقاد مؤتمرها عام في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي بالخرطوم، في ظل الانشقاق بين داعم للمكون العسكري، ورافض لإجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول). هذه الخلافات ظهرت بشكل واضح بين اللجنة وهيئة الإدارة الأهلية بجبال النوبة، التي استنكرت استبعادها من المؤتمر، لتنضم إلى الحراك النشط في الإدارة الأهلية بدارفور وشرق السودان.

ولم تكن الإدارة الأهلية في وسط السودان بعيدة من ذلك، إذ عبرت زعاماتها عن رفضها لتنصيب صديق ودعة رئيساً للمكتب التنفيذي للإدارة الأهلية ورئيس مجلس إدارتها، مشيرين إلى أنه كان عضواً في برلمان النظام السابق حتى سقوطه، وينتمي إليه ومنحه الرئيس السابق عمر البشير لقب "سلطان" بإجراءات فرضها النظام السابق، وعلى أثر خلاف مع ناظر قبيلة "الميما" في ولاية شمال دارفور، ومحاولته الانقلاب عليه.

 الإدارة الأهلية كتنظيم إداري قضائي قديم وراسخ في أغلب أقاليم السودان المختلفة، وبخاصة الأرياف البعيدة، اعتمدت على الأعراف الاجتماعية لفض النزاعات وتسويتها، وهي نزاعات حول المرعى أو الأرض الزراعية أو مصادر المياه المختلفة والحدود بين القبائل المختلفة، وحتى بعد العمل بالقانون المدني، ظلت هذه الإدارات فاعلة، تستعين بالزعماء والشيوخ التقليديين، وشيوخ الطرق الصوفية التي ظلت حاضرة كثنائية مع نظام الإدارة الأهلية حتى في مؤتمرها الأخير. وتستعين في الأساس بمجلس "الجودية"، وهو مؤسسة اجتماعية تتكون من عقلاء أفراد القبيلة الملمين بالأعراف والتقاليد أمام الخصوم، وتنشأ الجودية في أغلب الأحيان بمبادرة للتوسط بين أفراد النزاع برغبة من طرف واحد أو من الطرفين، ولا تسمح الضغوط الاجتماعية التي تمارسها "الجودية" بالخروج عليها.

ويقوم نظام الإدارة الأهلية على حكم رؤساء هذه الإدارات في المجتمع المحلي، وتسمياتها حسب موقعها الجغرافي، ومنها المشايخ والعمد والنظار والشرتاي. ودور الإدارة الأهلية قديم منذ سلطنات الفونج ودارفور وتقلي والمسبعات، وعندما جاء نظام الاستعمار الإنجليزي المصري، قننت الإدارة البريطانية عمل الإدارة الأهلية في الفترة بين 1937 و1942، في ما عرف بتقرير مارشال "تطوير الإدارة والخدمة المدنية في السودان"، ثم تبعته الحكومات الوطنية بعد الاستقلال.

خلاف سياسي

بعد أن كانت الإدارة الأهلية تختص بالشأن الاجتماعي، وتدير شؤون مكوناتها القبلية، حصلت على مزيد من الصلاحيات، وحاول النظام السابق توظيفها لكسب الولاءات القبلية، لكن انقلب ذلك إلى صراعات بين مكونات هذه الإدارات، ما أدى إلى زعزعة المناطق المستقرة، مثل مكونات شمال ووسط السودان، وتفاقم عدم الاستقرار في مناطق النزاعات والخلافات، مثل دارفور وشرق السودان، أما الإدارات الأهلية في ولاية كردفان غرب السودان، فقد تأثرت بالوضع في ولاية دارفور التي تحدها من الغرب والاستقطابات القبلية فيها.

وهذا ما دفع رئيس مجلس شورى نظارة عموم الجوامعة في ولاية شرق كردفان، الفريق أول ركن محمد بشير سليمان، إلى أن يصدر بياناً يوضح فيه ما يهدد التعايش السلمي في المنطقة، وترابط النسيج الاجتماعي بكل مكوناته القبلية، بسعي بعض من منسوبي قبيلة البزعة الذين تؤوي بعض من عمدهم نظارة الجوامعة، إلى إنشاء نظارة لهم على مستوى السودان، ما أدى إلى رفض ناظر عموم الجوامعة لذلك.

الخلاف الحالي بين مكونات الإدارة الأهلية سياسي، ولا يغوص في الخلل الإداري لهذه المؤسسة، لمعالجة بنيتها التنظيمية وهيكلها ودورها، ونشأ الخلاف حولها منذ إسقاط الرئيس السابق عمر البشير، ونشاطها السياسي المساند للثورة، ثم ظهورها بعد ذلك في مؤتمرات عدة مع الحكومة الانتقالية، وإعلانها عن "تفويضها المجلس العسكري لتشكيل حكومة مدنية بالاتفاق مع قوى التغيير أو بدونه". ظهر الانشقاق بعد ذلك في صفوف الإدارة الأهلية، وجاء الاستنفار الحالي لأصوات من داخلها ترفض هذا التوجه، من واقع دورها بأن تكون حكماً بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير.

تحجيم الدور

هناك نداء بضرورة حل أو تحجيم دور الإدارة الأهلية، بعد أن تجاوزت حدودها المرسومة في حل النزاعات القبلية وعقد مجالس الصلح وغيرها من شؤون المكونات القبلية في مناطق السودان المختلفة، وبرزت ككيان قبلي وجهوي وذراعاً سياسية للحكومات السودانية، خصوصاً النظام السابق. أما نظام جعفر النميري الذي قام بحلها مطلع سبعينيات القرن الماضي، فاستعاض عنها بالضباط الإداريين، وبعد مجيء انقلاب البشير أبقى على الضباط الإداريين والإدارة الأهلية معاً.

ويخشى هذا التيار الرافض لتضخيم دور الإدارة الأهلية من أنها تؤسس لترسيخ مفهوم الإدارة الأهلية السياسية، وعلاقتها الوثيقة بالحكومة ستحول بين العلاقة المباشرة بين المواطن وحكومته، إضافة إلى اكتساب زعماء هذه الإدارات نفوذاً يوظفونه لمصالحهم الخاصة، قلص من صلاحيات دور المحليات والمعتمديات إدارياً وقانونياً، وحدوث صراع بين زعماء مجموعة معينة بعضها رافض لسياسات الحكومة وللانسجام التام معها، وبعضها متوائم معها ويتحدث باسم مكونه القبلي ونيابة عن أهل المنطقة المعينة على هذا الأساس مع وجود معترضين على هذا التوجه.

ولكن الانتقال من ظاهرة القبلية والإدارة الأهلية يحتاج إلى عمل اجتماعي ضخم، يأتي على رأسه نشر الثقافة القانونية وتنظيم المجتمع وتوعيته عبر قوانين ونظم صارمة، وهذا الانتقال يحتاج إلى الإصلاح القانوني في الدولة بأكملها، وقد تعثر هذا المشروع بعد إجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول)، ولا يزال المواطنون يطالبون به كواحد من مقومات الدولة الأساسية، وللحاجة إلى إصلاحات شامل لإرساء قوانين حقوق الإنسان وحرية التعبير وغيرها.

أما التيار الذي يرى استحالة الاستغناء عن نظام الإدارات الأهلية، فذلك لطبيعة المناطق الجغرافية ذات التكوينات القبلية التي تعاني أزمات عدة، وتقترح تكوين مجلس للإدارة الأهلية غير متحيز على أن يضم زعامات القبائل المختلفة، ولحل المشكلة القائمة حالياً، يمكن فصله عن مجالس الحكومات المحلية في الأقاليم، وعن أجهزة الدولة التنفيذية.

ويرى هذا التيار أن تجريد الإدارة الأهلية من السلطة السياسية وتوظيفها شأن منظمات المجتمع المدني سينظم شؤون القبائل الاجتماعية وأمورها المحلية الاقتصادية، ولكن فض النزاعات يكون الاحتكام فيها للقانون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حزب سياسي على أساس قبلي

تعارض بعض الأحزاب السياسية مضي الإدارة الأهلية في تشكيل حزب سياسي جديد مكون من زعاماتها الذين ينتمون في الأصل إلى أحزاب قائمة، وأبرزها أحزاب الأمة، والاتحادي الديمقراطي، والمؤتمر الوطني المحلول. وأعلنت هذه المكونات، في لقائها مع نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي محمد حمدان دقلو (حميدتي) في يونيو (حزيران) عام 2019، عن تأسيس حزب باسم "الحزب الأهلي السوداني".

وفي رأي أعضاء الحزب الجديد أنه يخرجهم من الحزبية الضيقة إلى كيان وطني واسع، ولكن معترضين على هذا الإعلان يرون أن ذلك سيكون خصماً على الإدارة الأهلية وسيخرجها من حياديتها لتكون واجهة سياسية للمكون العسكري يستخدمه حميدتي في خوض الانتخابات المقبلة.

هذه المواقف من الإدارة الأهلية يحركها شعور بأنها تستقوي بالمكون العسكري، وهو ما برز بشكل واضح خلال السنوات الثلاث الأخيرة منذ قيام الثورة السودانية، ونجح في حشدها للاستقواء بها في جو مشحون بانقسامات القوى السياسية الأخرى ونفورها، ما سيزيد من إرباك الساحة السياسية.

وبعد إكمال إجراءات تسجيل الحزب لدى مسجل الأحزاب السياسية، أعلن رئيس الحزب يوسف أحمد أبو روف، ناظر عموم قبيلة رفاعة الهوي، عن تدشين عمله السياسي بتبني مشروعات تنموية.

وعن توقعات مدى إحراز "الحزب الأهلي السوداني" مكاسب سياسية. قد تتبدد الآمال نظراً للأساس القبلي الذي يرتكز عليه. وتنبع عدم الثقة في هذا المكون من وقائع تاريخية، بتجاذب نظام الإدارة الأهلية من الأحزاب الطائفية حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، وميولها الجهوية لمكونات في دارفور وشرق السودان.

وتحتفظ الذاكرة الشعبية السياسية بوقائع خلافات بين الإدارة الأهلية منذ الثورة المهدية عندما نشب الخلاف بين الخليفة عبد الله التعايشي مع نظارة الرزيقات، ثم تعرضها للحل من النميري على أثر خلاف معه، وخلاف ناظر عموم قبائل الهدندوة مع الأمير عثمان دقنة حول حروبه مع القبائل المناصرة للطائفة الختمية، وخلاف ناظر الهدندوة وناظر الأمرأر مع حكومة النظام السابق حول حشد وتعبئة قبائل البجا بشرق السودان ضد إريتريا بسبب احتواء الرئيس الإريتري أسياس أفورقي للمعارضة السودانية في أسمرا خلال تسعينيات القرن الماضي.

تحديد الصلاحيات

تثبت الخلافات حول البناء الجديد للإدارات الأهلية أن المجتمع السوداني لم يتجاوز الكيانات التقليدية، وأن بعث كيان جهوي وقبلي بثوب سياسي لن يغير من طبيعته، والبحث الدائم عن كيان أقوى لتعويض فشل الكيانات السياسية القائمة، فقد ظلت الإدارة الأهلية ضحية تارة للصراع الأيديولوجي عندما حلها النميري، وصعد منها البشير، وأداة للتوظيف السياسي مثلما يحدث الآن.

إن كان لا بد من بقاء الإدارة الأهلية كمجالس للحكم المحلي، فينبغي ربط عملها بالقانون، والاستعانة بالأعراف الاجتماعية الداعية للسلم والحكمة لحل النزاعات المحلية ودمج الأعراف الاجتماعية في استراتيجيتها الإدارية بالارتكاز على أساس قانوني محدد وغير فضفاض، وذلك بتطوير مشروع قانون تنظيم الإدارة الأهلية لسنة 2018، والذي جاء بديلاً عن 2007، تماشياً مع تطورات الوضع في السودان، واستعداداً للتغيير المقبل. كما أن التمسك بشكل الإدارة الأهلية ورفض هيكلتها ينم عن عصبية قبلية أدت إلى انقسامات داخل هذه الإدارات، وتفرع نظاراتها.

ونظراً للصلاحيات الواسعة الممنوحة لها، ما أدى إلى فوضى إدارية وأمنية، فسيكون ملائماً تحديد هذه الصلاحيات والسلطات بحسب ما تقتضيه حاجة المنطقة وليس استرضاءً لزعيم أو ناظر، وتحديد وضع الإدارات في الدستور المقبل إن تم التوافق على أن تظل الإدارة الأهلية ضمن مؤسسات الحكم الأخرى على مستوى الولايات والمحليات.

المزيد من تحلیل