أقيمت الدولة القومية الفارسية، أو الدولة الأمة، في إيران في نهاية الربع الأول من القرن العشرين على أنقاض الدولة القاجارية، التي كانت تتشكل من اتحاد عدة ممالك توصف بالممالك المحروسة. فمنذ العهد الصفوي في القرن السادس عشر، مروراً بالعهدين الإفشاري والزندي، وختاماً بالعهد القاجاري، كان النظام الاتحادي (الفيدرالي) التقليدي سائداً في الدولة، التي أطلق على قسم منها اسم إيران في مارس (آذار) 1935. وبعد انقلاب 22 فبراير (شباط) 1921، عرّف رضا خان، أحد المشاركين في الانقلاب والذي أصبح الشاه رضا بهلوي في 1925، الدولة القومية بأنها "دولة ذات لغة واحدة وقومية واحدة وبلد واحد"، منتهكاً بذلك دستور ثورة المشروطة (1906- 1909)، الذي ينص على تعدد الممالك والقوميات في إيران، ويمنحها نوعاً من الحكم الذاتي.
تاريخ من الاضطراب
فعلى رغم إقامة جمهورية كردستان وسلطة الحكم الذاتي في أذربيجان (1945- 1946)، غير أن الشعوب غير الفارسية شهدت فترة مشفوعة بالقمع والوهن حتى قيام الثورة في 1979. وقد أدى ذلك إلى إدراج مادة تتعلق برسمية اللغة الفارسية في الدستور الإيراني عام 1980، فيما لم ينص دستور ثورة المشروطة، القائل بالتنوع الإثني واللغوي، إلا على رسمية المذهب الشيعي الاثنى عشري. وقد فجرت ثورة فبراير 1979، القوة الكامنة والمقموعة بين هذه الشعوب في عربستان وكردستان وأذربيجان وتركمن صحراء، ولم تتمكن السلطة الإسلامية من القضاء عليها كلها إلا بعد سبع سنوات من قيام الثورة.
وبانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال جمهورية أذربيجان، انبثقت فترة جديدة أخذت معالمها تتضح عاماً بعد عام. إذ منح ذلك الاستقلال، جرعة معنوية وحالة من الثقة بالنفس للشعب التركي في الشطر الجنوبي لأذربيجان، وأعني أذربيجان الإيرانية. وقد تضاعفت تلك الجرعة إثر انتصار جمهورية أذربيجان على أرمينيا في حربها لاستعادة منطقة ناغورني قره باغ في 2021.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وللأتراك الذين يشكلون نحو ثلث سكان إيران دور مهم في أي تغيير مقبل في البلاد، بسبب دورهم التاريخي في التحالف مع الفرس وانتصار ثورتين كبيرتين في إيران القرن العشرين: ثورة المشروطة وثورة فبراير، لكنهم أخذوا يبتعدون من القومية المهيمنة رويداً رويداً بعد أن خذلهم الفرس في الثورتين، وقضوا على أمانيهم المتمثلة في إقامة سلطة الحكم الذاتي من جهة، وانبثاق الدولة المستقلة لأشقائهم في باكو من جهة أخرى، وشهدنا ذلك في عدم مشاركتهم في ما سمي بالثورة الخضراء، بقيادة ميرحسين الموسوي ومهدي كروبي في 2009.
ويخشى النظام الإيراني الأتراك أكثر من أي قومية أخرى في إيران، بسبب ثقلهم الديمغرافي، ودورهم الاقتصادي والتاريخي، فخلافاً للكورد والبلوش والعرب، لم نشهد إصدار أي حكم إعدام بحق المئات من نشطائهم، الذين يناضلون من أجل حقوقهم القومية، ويرزحون في السجون الإيرانية.
على طريق النضال
وتجلت أكثر فأكثر سمات الفترة التي أصفها بالعصر الجديد في تاريخ نضال الشعوب الإيرانية خلال انتفاضة يوليو (تموز) 2021 التي شهدتها مدن وقرى إقليم عربستان. وفي ظاهرة لم يشهدها التاريخ الإيراني المعاصر، تحدى المتظاهرون الترك الشرطة ورصاصها، وخرجوا إلى الشوارع في مدينة تبريز عاصمة إقليم أذربيجان الإيرانية، تضامناً مع الأحوازيين العطاشى، الذين سالت دماؤهم في عربستان، ويرزح بعض المعتقلين منهم، نساء ورجالاً، في سجون تبريز حتى اللحظة. وبذلك غيّر الترك تحالفهم مع الفرس إلى التحالف مع العرب والقوميات المضطهدة الأخرى، ووضعوا بذلك اللبنة الأول لمنعطف في التاريخ الإيراني المعاصر.
وقد تأخر الوعي القومي بين أتراك إيران على أثر فصلهم ثقافياً من أبناء جلدتهم في تركيا وجمهورية أذربيجان، ما اضطر معظم أدبائهم ومفكريهم وصحافييهم للكتابة باللغة الفارسية بدل التركية الأذرية. ويعود ذلك إلى عهد الشاه رضا بهلوي عندما حاول تغيير الأبجدية العربية إلى اللاتينية تقليداً لكمال أتاتورك، إلا أن النخبة الفارسية الفاعلة آنذاك منعته عن ذلك، كي لا يتأثر أتراك إيران بالأدب والفكر في تركيا، لا بالثقافة السائدة في جمهورية أذربيجان، التي كانت تستخدم الأبجدية السيريلية ومن ثم اللاتينية خلال العقود العشرة الماضية.
ولم يقتصر التضامن مع العرب في يوليو الماضي على الأتراك، بل شمل البختياريين واللور والكورد والبلوش وبنسب متفاوتة. فوفق الإحصاءات الحكومية، وأخرى من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، فإن أكبر نسبة للسجناء والمعدومين سنوياً في إيران (نحو 80 في المئة) تعود لغير الفرس. وإذا ما قارنا هذه النسبة مع الفئات الاجتماعية الأخرى كالعمال والنساء والطلاب، تقع هذه الشعوب في طليعة النضال ضد النظام الديني الشمولي في إيران، غير أن نضالها لا يزال يشبه الجزر المنفصلة ولم يلتصق بعضها ببعض على رغم ما شاهدناه من تعاطف مع الأحوازيين في يوليو الماضي، وهو تطور في حد ذاته، قياساً للتشتت التام الذي كان سائداً بينها قبل عقد ونيف من الزمن. ولم يتم التضامن مع الأحوازيين لولا مناشدات القوى السياسية التركية الأذرية لشعبها، غير أننا لم نشهد ذلك من قبل القوى الكوردية الإيرانية، أو أنه ليس في المستوى المطلوب. وبما أنه لا يمكن لأي شعب في إيران أن ينال حقوقه القومية وحده، فلا مناص من التنسيق بين: أولاً فصائل كل شعب على حدة، وثانياً بين الأحزاب والمنظمات السياسية للشعوب غير الفارسية مجتمعة. وعلى رغم وجود بضعة منظمات تضم مجموعات وأحزاباً سياسية مؤتلفة من الشعوب المختلفة، غير أنها ليست على المستوى المطلوب، ولم تضم كل الأحزاب والمجموعات والشخصيات المستقلة، وتعاني ضيق الأفق وعدم الانسجام ونوع من الشللية يعرقل التنسيق بينها.
فالجماهير غير الفارسية ونخبتها (وعلى رأسها الأحوازيون) تمارس على الأرض أوسع عملية نضال سياسي ومدني، وأحياناً عسكري، يمكن على أثره أن تصبح على رأس نضالات الفئات الاجتماعية والمنظمات السياسية الأخرى في إيران، إذا اتحدت أو تقربت كل الفصائل غير الفارسية أو في الأقل معظمها، لكن ذلك لم يتم حتى الآن لأسباب تعود للخلافات الجغرافية والسياسية بين بعض القوميات. فإذا وصلنا إلى تلك المرحلة المطلوبة يمكن أن نتحدث عن أقوى كتلة قد تنافس المجموعات الأخرى، كاليسار، ومنظمة مجاهدي خلق، والأحزاب القومية الفارسية، ومجموعة الملكيين بقيادة رضا بهلوي، بل ومن الممكن أن تلتمس تلك القوى التقرب منها.
القومية المفروضة
ويطرح القوميون الفرس، مقولات غير تاريخية، كالشعب (الإيراني) التاريخي الواحد المعمر لعدة قرون، ولا يعترفون بشعوب متنوعة في إيران، بل ويهملون عمداً ذكر الممالك المحروسة والنظام الاتحادي التقليدي الذي كان قائماً قبل حكم بهلوي.
وقد اعترف حاجي بابائي، وزير التعليم والتربية في عهد الرئيس أحمدي نجاد (2005- 2013) بأن 70 في المئة من سكان إيران مزدوجو اللغة، أي أن الفرس (أحاديو اللغة) لا يشكلون إلا 30 في المئة من تعداد إيران. فإذا استطاع هؤلاء السبعين في المئة التنسيق بينهم لشهدنا تطوراً في تغيير النظام السياسي، بل وانهدام الدولة - الأمة وإقامة نظام لا مركزي بدل ذلك. وحتى لو جرى تنسيق أقل من ذلك بين الشعوب الفاعلة حالياً، كالعرب والترك والكورد والبلوش، لحدث التغيير المنشود.
أما هذا التنسيق فيمكن أن يتم على عدة مستويات: في الداخل، على سبيل المثال، يجب أن يتقارب الطلبة والناشطون من جميع الشعوب غير الفارسية، وأن ينسقوا في ما بينهم في المجالات النضالية والثقافية، بخاصة في العاصمة طهران التي تحتضن الملايين منهم، بما فيها التظاهرات أو المناسبات الخاصة بكل قومية. وفي الخارج، وبسبب أجواء الحرية، يمكن أن يشمل التنسيق مجالات مختلفة لا حصر لها، أقلها الأمور التنسيقية.
وفي الختام، يمكن القول إنه لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقة في إيران إلا بأن تقود النخب غير الفارسية عملية النضال ضد النظام الإيراني، أو أن يكون لها دور حاسم في ذلك، وألا يقتصر الأمر على تغيير نظام إلى نظام آخر، بل أن يتم تهديم الدولة - الأمة، القائمة على وحدانية اللغة والقومية، وتحويلها إلى الدولة - الأمم في إيران.