Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لغزان كبيران وقسيسان في حياة وموت رينيه ديكارت

هل حارب صاحب "أنا أفكر إذن أنا موجود" إلى جانب الفرسان الثلاثة وقتلته مؤامرة في ستوكهولم؟

الفرسان الثلاثة في رواية دوما: هل قاتل ديكارت إلى جانبهم؟ (من الكتاب ـ أمازون)

حين يغرق القارئ في تصفح كتابات الفرنسي رينيه ديكارت الفلسفية والمتسمة بنوع من عقلانية شديدة الخصوصية، لطالما أثارت إعجاباً وخصومات في صفوف الفكر الفلسفي منذ أن كان لا يزال حياً في هذا العالم خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، لن يكون عليه أن يخمن أن حياة ديكارت كانت حافلة بأسرار بل غرائب لن تنتهي مع موته. بل إن موته نفسه زاد تلك الأسرار أسراراً بغرابته والمكان غير المتوقع الذي حدث فيه والظروف التي سيقال دائماً إنها قد رافقته حتى وإن صعب الحصول على تأكيدات موثوقة لها. ومن هنا، حين صدر قبل عشر سنوات من الآن، وفي باريس نفسها كتابان متزامنان يخرجان عن نطاق البحوث الفكرية التي تتناول عادة حياة ديكارت وأفكاره، عادت إلى الأذهان تلك الأمور التي اعتاد تاريخ الفكر أن يضعها جانباً، مركزاً على عمق أفكار صاحب "مقالة في المنهج".

أمور غريبة في حياة فيلسوف وموته

ولعل ما يلفت النظر حقاً هنا، في هذين الكتابين، تلك الأمور الغريبة التي تواكبت مع سيرة الفيلسوف وتبدو متناقضة تمام التناقض مع ما هو معهود من شخصيته، ولا سيما في ما يتعلق بمشاركته ذات مرة في معارك حربية بالنسبة إلى الكتاب الأول وهو "حياة السيد ديكارت"، الذي كان قد صدر للمرة الأولى في عام 1691 ليطويه النسيان بعد ذلك قبل أن ينفض الغبار عنه ويعاد إصداره في عام 2012 في طبعة جديدة ومنقحة؛ أو في ما يتعلق بموته في العاصمة السويدية بالنسبة إلى الكتاب الثاني وهو "لغز موت ديكارت" للكاتب الألماني المعاصر ثيودور إيبرت، الذي صدرت ترجمته الفرنسية في العام نفسه مثيرة قدراً كبيراً من السجالات. حتى وإن كنا نعرف أن ما يطرحه الكاتب حول موت ديكارت لم يكن جديداً. فمنذ زمن بعيد ثمة تكهنات وفرضيات تقول إن إصابة ديكارت بالتسمم حين كان يعيش آخر حياته في ستوكهولم ضيفاً على ملكة السويد غريبة الأطوار كريستين، لم يكن صدفة بل من نتائج مؤامرة دبّرت للتخلص منه. لكن ما يثير قدراً كبيراً من الفضول في هذا السياق هو أن المؤلف الألماني يجعل المؤامرة من تدبير القسيس الفرنسي دي فيوغيه، الذي كان يهتم في السويد بالشؤون الدينية للجالية الفرنسية!

 

ألغاز تنتظر حلولاً

إذاً بالنسبة إلى إيبرت كان موت ديكارت على الأرجح من تدبير رجل كنيسة لأسباب ستطالعنا بعد سطور، وفي المقابل كان رجل كنيسة آخر كشف عن ألغاز أخرى تتعلق بحياة ديكارت، ولكن هذه المرة ليس من موقع العداء للفيلسوف، بل من موقع استعادة ذكراه بكل ود وتحبب. والقسيس هذه المرة هو بالتحديد الكاتب الفرنسي آدريان باييه، مؤلف السيرة المبكرة التي تشغل أول هذين الكتابين، وكانت واحدة من أولى السير التي تناولت حياة ديكارت بعد رحيله في عام 1650. ولئن كان الكاتب يتابع هنا تفاصيل حياة ديكارت وأفكاره ومؤلفاته فإنه يتوقف مطولاً عند فصول من حياة الفيلسوف لكم ستبدو طريفة لنا هنا، وتحديداً على ضوء ما كان في إمكاننا أن نتصوره من دعة تلك الحياة واستقامتها وتطابقها مع زهده الفكري وعقلانيته. ونحن حتى ولو كنا نعرف مسبقاً أن تلك الحياة لم تكن دائماً على تلك الاستقامة بل إنها عرفت ترحالاً ومغامرات، بل حتى ضروب منافٍ واضطرار إلى نشر مؤلفات خارج فرنسا بعيداً من رقابتيها الدينية والسياسية الصارمتين، حتى وإن كانت الكنيسة ستتبنى القسم الأكبر من أفكار ديكارت في مراحل لاحقة، فإنه سيكون علينا بالتأكيد أن نتصور ما يخبرنا به باييه من أن ديكارت ربما كان قد حارب إلى جانب الفرسان الثلاثة الذين سيكرس لهم ألكسندر دوما روايته الشهيرة "الفرسان الثلاثة" تحديداً، لاحقاً.

بين الفضول والدماء

وكان ذلك كما يروي لنا باييه خلال ما يسمى "حصار لا روشيل" حيث اندلعت معارك بادية القسوة هي تلك التي شارك فيها ديكارت متطوعاً، كما شارك فيها، تاريخياً وكما في رواية دوماس، أولئك الفرسان الذين تحولوا إلى أسطورة في التاريخ الفرنسي. غير أن الكاتب – القسيس ينبهنا هنا أن ديكارت لا يمكن أن يكون قد خاض معارك فعلية، بل إنه بالأحرى "حصل على تلك الشارة التي تعلق حول الرقبة معلنة خوض حاملها الحرب، لمجرد أن يشفي فضوله ما يؤكد الموقف السلبي للفيلسوف من الحرب"، بحيث إنه لم يستخدم "شارته إلا كنوع من جواز يمكنه من المشاركة من دون أن يدنو من أماكن القتل والذبح نفسها". ومع ذلك يطرح بعض المعلقين سؤالاً أساسياً هنا عما إذا كان الفضول وحده يكفي لتبرير بقاء ديكارت في ساحة القتال طوال أربع سنوات مراقباً كل ضروب الفظاعات والذبح؟ وهو نفس ما يطرحه باييه من أسئلة يبدو فيها وكأن غايته عدم "توسيخ صورة فيلسوف فرنسا الأكبر بجعله مقاتلاً بالفعل في تلك الحرب". ولنتذكر هنا أن باييه إنما دوَّن سيرة ديكارت هذه في زمن كان منهمكاً فيه في تدوين سير العديد من القديسين مشيداً بإنسانيتهم ونزعتهم السلمية، ما يزيد من حيرة القارئ أمام الصورة الغامضة التي يرسمها لديكارت "محارباً".

بين التكهن واليقين

في المقابل يبدو الكاتب الألماني المعاصر إيبرت في كتابه الأكثر حداثة بكثير، الذي يطرح فيه أسئلة لا تقل غموضاً عن أسئلة باييه، ولكن هذه المرة حول نهاية ديكارت، يبدو أقل رغبة في التغطية على أحداث يفترض أنها حدثت فعلاً. ففي التاريخ المعروف يذكَر دائماً أن ديكارت قد وجد نهايته في العاصمة السويدية التي كان يعيش فيها، وقد دعته إمبراطورة البلاد الملكة كريستين المعروفة بحبها للفكر والمفكرين. وتقول الحكاية التاريخية التي لم يعترض عليها كثر على الرغم مما استغربوه من خضوعها للمصادفة التاريخية التي جعلت فيلسوفاً وعالماً من طينة ديكارت يتناول سماً يقضي عليه من دون أن يتنبه إلى ذلك، وهنا يأتي تدخل الكاتب عبر ما سماه معلقون على الكتاب "تحقيق يغوص في التاريخ البعيد مستلهماً شهوداً ونثرات مكتوبة متنوعة عفا عليها الدهر منذ زمن بعيد". وهي نصوص يجمعها إيبرت ويقارن بينها ممحصاً، ليتوصل إلى نوع من تكهنات قد لا يعطيها سمة اليقين المطلق، لكنه يدفع بها كنوع من فتح ملف جديد لقضية يرى أن لا بد من عودتها إلى الواجهة. حتى وإن كان الكاتب يبدو متردداً في التأكيد أن ديكارت قد قتل عمداً بفعل مؤامرة ضده، فإنه يجد أن لا مفر من المقارنة والربط بين عدد من الفرضيات التي نجده يطرحها على صورة أسئلة حائرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فرضيات أغرب من الخيال

ففي المقام الأول يورد إيبرت تساؤلات وفرضيات تتعلق بطبيعة المرض الذي أصاب ديكارت وقضى عليه. ويدعم هذا رسالة من الطبيب الذي أشرف على تفحص ديكارت في يومه الأخير يقول فيها الطبيب أن لا شك لديه في أن العوارض التي لاحظها تتطابق مع عوارض التسمم القاتل. وبين التسمم والتسميم، يقول إيبرت، خطوة يمكن قطعها بسهولة. وبعد ذلك والأهم، وطبعاً على طريقة هركول بوارو (تحري روايات أغاثا كريستي الشهير) لا يتوانى إيبرت عن تقديم متهم له دوافعه لارتكاب مثل تلك المقتلة في حق ديكارت، وهو بالتحديد وكما أشرنا أول هذا الكلام فرانسوا فيوغيه، مندوب الكنيسة الفرنسية في ستوكهولم والمكلف بالقيام على شؤون الفرنسيين المقيمين في العاصمة السويدية شكلياً، لكنه إلى ذلك المكلف بالسهر على عدم السماح لديكارت بأن يشكل عقبة في وجه مسعى الكنيسة الفرنسية لإعادة الإمبراطورة المزاجية إلى الصراط المستقيم للإيمان الكاثوليكي، في وقت كان يداعبها إغراء أن تتبنى البروتستانتية، وبدا لفيوغيه أن ديكارت قد يعينها على سلوك ذلك الانحراف. وفي النهاية، إذ يتساءل إيبرت عما يمكن أن يكون القسيس قد اتبعه لتسميم الفيلسوف الذي كان فطناً بطبيعته، يورد فرضية قد تكون روائية متخيلة، لكنها ستبدو منطقية: من طريق القربان المقدس الذي يناوله إياه في الكنيسة خلال الصلاة. وهو القربان الذي يتناوله المؤمن من يد القسيس دون أن يجرؤ على الاشتباه فيه. ولنذكر أخيراً هنا نقلاً عن المعلقين على الكتابين أن باييه بالتحديد يذكر في كتابه أن ديكارت تناول بالفعل القربان المقدس من يد فرانسوا فيوغيه يوم 2 فبراير (شباط) 1650، أي تماماً في التاريخ المعروف لتسمم ديكارت قبل رحيله بتسعة أيام!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة