Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من منظور أفغانستان: إذلال روسيا أولوية تسبق نصر أوكرانيا

جهود الوساطة قد تصطدم بدوافع الغرب الدفينة للانتقام من موسكو بإغراقها في وحل "كييف"... فكيف المخرج؟

الرئيس الأميركي رونالد ريغان لدى استقباله زعماء المجاهدين الأفغان (الملف الأفغاني)

هل نظر الغرب إلى حرب روسيا ضد أوكرانيا على طريقة المثل العربي الشهير "لم آمر بها ولم تسؤني"؟ قد يكون هذا مبالغة في إعمال نظرية المؤامرة في الأزمة التي أربكت العالم، لكن المؤشرات التي يخبرنا بها سلوك الغرب مع الاتحاد السوفياتي القرن الماضي، تؤكد أن أميركا وحلفاءها نظروا إلى لحظة غزو "كييف" كما لو أنها هدية من السماء!

وعلى الرغم من الإدانات الشديدة، والدموع التي ذرفت على النساء والأطفال والشيوخ الأوروبيين ذوي العيون الزرق، الذين ضج العالم بمآسيهم المفجعة جراء الهجمات على مدنهم وقراهم؛ فإن التاريخ الماضي يخبرنا كذلك أن اهتمام الغرب بـ"إذلال روسيا"، كان الغرض الأول وأولوية قبل نصرة أولئك وتأمين الحد الأدنى من الكرامة لهم، بإعادتهم إلى ديارهم معززين مكرمين.

بغض النظر عن واقعية الحسابات التي بنى عليها الغرب آماله بإغراق روسيا في أوكرانيا، وما إن كانت ستنجح أم تبوء بالخسران، فإن الذي نحن بصدده الآن هو محاولة تلمس تلك الحسابات، والتعرف إليها، على النحو الذي جرت على تخوم كابل وقندهار وجبال أفغانستان قبل عقود، في تكرار للمشهد يعيد صدقية مقولة "التاريخ يعيد نفسه"، لولا أن استدعاء تكراره هذه المرة على غير الأرض ومع الرجل الخطأ الذي رأى الكاتب اللبناني غسان شربل أنه من صنف "لا يستطيع أن يخسر".

الانتقام قبل صد العدوان

في السبعينيات كانت الغاية التي اندرج تحتها المجهود الحربي، ليست تحرير شعب مغلوب على أمره من قوة باطشة، أرادت فرض قيمها وأيديولوجيتها الشيوعية عليه، وإنما "الانتقام" من الاتحاد السوفياتي، لقاء تشفيه من أميركا ودوره السلبي في حرب "فيتنام".

ولذلك اشتهر في ذلك الحين قول بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر "إنها فرصة تاريخية لمنح الاتحاد السوفياتي فيتنامه"، فمعظم الأحلام كانت أن يتعاظم ألم الكرملين، أما أن يقود ذلك إلى تفكك الاتحاد، فهو الجائزة الكبرى التي لم يكن أكثر المتفائلين يؤملها من البوابة الأفغانية في الأقل، ولذلك سجل بريجنسكي في مذكراته أنه "فوجئ بمدى عدم فاعلية الروس وإحجامهم عن إرسال عدد كبير من القوات، وهو ما كان متوقعاً لضخامة جيشهم".

طابع الانتقام أخذ وتيرة متدرجة، فكلما قدر البيت الأبيض أن النتائج تظهر سلبية أكثر على تحالف وارسو، أغدق أكثر على المجهود الحربي، واجتهد في إيقاع الخصم في شركه.

ويروي رئيس الاستخبارات السعودية الأمير تركي الفيصل شهادته التاريخية عن تلك المرحلة قائلاً "كان الهدف هو جعل التدخل السوفياتي مكلفاً قدر الإمكان لجعلهم (يغرقون في المستنقع) كما قال بريجنسكي لاحقاً... لكن لم يكن من المتوقع أن تحرز وكالة الاستخبارات العسكرية والمجاهدون نصراً مؤكداً في ساحة المعركة".

وفي الأزمة الأوكرانية الراهنة، كانت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون صرحاء في أن هدفهم الرئيس هو "تعظيم كلفة غزو أوكرانيا على روسيا" في تعبيراتهم الأكثر تهذيباً، بينما كان الأقصى قول كاتب في "اندبندنت" الإنجليزية، على الغرب أن يقوم "بلكم أنف بوتين حتى يدميه"، كي لا يفكر مرة أخرى في مغامرة مماثلة، فإن بريطانيا وأميركا لو قامتا بذلك بعد جورجيا والقرم لما كنا اليوم نشهد اجتياح كييف.

وذهب الرئيس الأميركي جو بايدن أبعد، حين أخذته الحماسة إلى القول "إن بوتين لا ينبغي أن يبقى في السلطة"، قبل أن يتراجع ويعتبر مقالته تلك زلة لسان.

وكما في السبعينيات فإن أحداً لم يجرؤ على إعلان الرغبة بأن هدفه إسقاط النظام في موسكو، وإنما القصد ردعه لا أكثر، إلا أن السوشيال ميديا والإنترنت في هذا العصر، سمحت حتى بتسرب هذا النوع من الآمال المتفائلة، كأحد آثار العقوبات المرجوة على المدى البعيد، وهو أن تحمل الروس على السخط والانتفاضة ضد رأس النظام، وهو ما قالت تقارير إن عكسه الذي حدث، فشعور الروس بأن الغرب يستهدفهم في معيشتهم وحياتهم الخاصة وليس فقط المتورطين في الحرب، جعلهم يقتنعون بمقاربة بوتين بأن الحقد يحرك الغرب ضد شعبه لتجويعه بالحرب أو من دونها!

إطالة أمد الحرب ضرورية

ليحصل الانتقام من قوة عظمى طبقاً لما حدث من قبل، فإن أهم خطوة هي إطالة أمد الأزمة لاستنزاف الخصم، وتحويل المواجهات إلى حرب عصابات بدلاً من الصراع المباشر بين جيشين نظاميين، الذي تعذر بسبب فارق القوة، وسيتعذر أكثر مع تحييد الطرف المتفوق ما يملك الأضعف من عتاد استراتيجي مثل المقاتلات والمضادات والسفن الحربية وأجهزة الاتصالات.

وعلى الرغم من كلفة هذا النوع من الاستراتيجيات الحربية مدنياً، فإن الغاية دائماً في مواقف كهذه تبرر الوسيلة، ففي الحرب الأفغانية يوثق الفيصل أنه على الرغم من إعلان الاتحاد السوفياتي الانسحاب من أفغانستان، فإن الأميركيين لم يهتموا كثيراً بالأمر، بل زادهم اهتماماً بتسجيل الأهداف تلو الأخرى.

وهنا يبرز الفارق بين الحرب رغبة في "دفع الصائل"، والانتقام من المعتدي حتى وإن أعلن الجنوح إلى السلم، كما فعل الأميركيون في الحرب العالمية الأولى عندما استهدفوا المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناغازاكي بالقنبلتين الذريتين، بعد انتهاء الحرب ورفع طوكيو الراية البيضاء.

موسكو التي فطنت باكراً في خطاب رئيسها وتصريحات مسؤوليها إلى هذه الجزئية، قالت إنها تعلم أن الناتو والغرب يستخدم أوكرانيا أداة لاستدراج روسيا وإنهاكها بحرب طويلة، وليس همها إنهاء معاناة الأوكرانيين، وهو ما ينفيه الغرب، الذي حض روسيا بكل الوسائل على إيقاف تدخلها، ويدعوها بعد الحرب إلى وقف إطلاق النار.

لكن الخارجية الروسية لا تزال ترى في رسالة تحذيرية، علقت بها على قمة الناتو الأخيرة في بروكسل قائلة "قرار الحلف مواصلة دعم أوكرانيا يؤكد رغبة الحلف في استمرار النزاع".

ومن الأدوات التي بدا أنها ترجح هذه الرؤية رفع الأوكرانيين سقف مطالبهم في المفاوضات، مثل اشتراط عودة "القرم" إلى سيادة كييف، على الرغم من أن قضيتها طويت قبل الأزمة الراهنة.

المقاتلون الأجانب

كي يتمدد الصراع ويغدو "ثورة" شعبية وأممية، لا بد من التجييش باستخدام مختلف المؤثرات الأيديولوجية لشيطنة الخصوم، وتعبئة الحلفاء والمتعاطفين، حكومات كانوا أو أفراداً.

ولأن الحرب تأكل الأخضر واليابس جنوداً وموارد وعتاداً، فإن إطالة أمدها تقتضي الاستعانة بمختلف القوى، ثأراً للكرامة ونصرة المظلوم تارة، وغضبة للعرق والدين تارة أخرى، وهذا ما وجد فيه الأميركيون معيناً لا ينضب أيام السبعينيات، فما إن أعلن حلفاؤها المسلمون الجهاد ضد السوفيات الغزاة في أفغانستان، حتى تدفقت الأموال والجنود إلى بيشاور والمدن الباكستانية من كل حدب وصوب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من أن الضرر الذي أحدثته تلك الاستراتيجية فيما بعد كبيراً، فإن تأثيرها وقت المعارك السياسية والعسكرية في الميدان كان بالغ الأهمية، في الإبقاء على جذوة الروح المضادة حية في النفوس، قبل أن ترتد تلك الروح إلى واشنطن بعد الفراغ من أفغانستان، كما هو شائع في قصة الجهاد الأفغاني واستغلاله من جانب تنظيمات الإسلام السياسي، وعلى رأسها "الإخوان المسلمون" الذين ذاع صيت رجلهم القوي هنالك عبد الله عزام وتلميذه أسامة بن لادن.

لكن تركي الفيصل في كتابه "الملف الأفغاني"، قال إن مزاعم أولئك ومن خلفهم من الإسلاميين بأن من سماهم "المجاهدين" كانوا من أسقط الاتحاد السوفياتي، مجرد وهم اخترعوه وصدقوه.

وقال "أثبتوا أنهم ليسوا أهلاً للقتال، وقد اعترف قادة المجاهدين أنفسهم أن هؤلاء ما زادوهم إلا خبالاً" (ص 111)، بينما وصف اعتقادهم بأن لهم دوراً في إسقاط الاتحاد السوفياتي بـ"الساذج"، فأولئك المقاتلون "في حدود ما تمكنت من اكتشافه، لم يكن لهم أي دور على الإطلاق في ذلك. ويبدو أن المعركة التي ادعى أسامة بن لادن أنه خاضها في أفغانستان لم تدر أحداثها إلا في مخيلته فقط".

أما على الأرض الأوكرانية، فإن السباق نحو قتال الروس، سرى على النمط القديم من دون أي مراجعة أو استفادة من دروس الماضي، سوى أن التحريض على "الجهاد" هذه المرة كان يتجه في عمقه الأكبر إلى "ذوي العيون الخضر" بالتعبير الأوروبي، فجاءت الاستجابة سخية، خصوصاً من تنظيمات "اليمين المتطرف" التي تكن للروس والأقليات الضغينة، وعاودت الظهور في الغرب منذ سنوات خصوصاً في ألمانيا وأميركا، التي وجدت في خطاب ترمب وقوداً لها تثير حماستها.

وفي اتصال "اندبندنت عربية" بما سمته الحكومة الأوكرانية "فيلق المقاتلين الأجانب"، أحالني الكولونيل أنتون مايروفيتش المسؤول عن الفيلق إلى القوات المسلحة الأوكرانية، التي أفادت بأنها لا تزال تستقبل المقاتلين، وأن المعلومات الواردة في الموقع الذي أنشأته للمهمة، يجري تحديثها باستمرار بما يجعلها موثقة وكافية.

وهنالك وجدنا دليل أسئلة وإجاباتها، عن كل ما يرد في البال لمن يشاء التطوع في أوكرانيا للقتال إلى جانب رجال كييف الثائرين ضد عدوان الكرملين "للدفاع عن أوكرانيا وأوروبا" كما يعبرون. وبين الإرشادات أنك "عند الوصول إلى نقطة التجميع في أوكرانيا، انضم إلى فيلق الدفاع الدولي لأوكرانيا (وقع العقد) واشتبك مع المحتلين الروس مع مقاتلين من جميع أنحاء العالم وجنود أوكرانيين"!

وكان لافتاً أن الموقع أحال على روابط وأرقام الاتصال بسفارات أوكرانيا في نحو 60 دولة، بينها ثلاث عربية هي "العراق والإمارات والكويت"، عند الرغبة في الذهاب إلى الجبهات، كي تسهل مهمة المتطوع. إلا أن المسؤول الأوكراني في سفارة بلاده بالكويت، نفى لدى الاتصال به أن يكون معنياً بتجنيد أي مقاتلين عرب، فيما بدا أنه اتفاق مع حكومات الخليج على عدم السماح لمواطنيها بالخطوة التي تدعو إليها "كييف" -خلافاً لدول غربية مثل بريطانيا صرحت بأنها لا تمانع في ذلك- لأن سفارة أوكرانيا في الرياض، أيضاً تجنبت التعليق على الموضوع بتاتاً.

أما أميركا التي قادت التعبئة على المستويات المختلفة، فإن المتطوعين فيها للقتال في أوكرانيا يتم ترميزهم كما لو أنهم "مجاهدون" عرب، متجهون نحو أفغانستان في السبعينيات والثمانينيات، حتى إن مجلة "التايم" الرصينة، خصصت لعدد منهم قصة تقدمهم للقراء كأبطال هبوا لنجدة أوروبا، كما فعلت صحيفة "ديلي ميل" الأمر نفسه.

وتابعت قصة الشاب أريحا سكاي الذي لم يمنعه صغر ابنه البالغ عامين وكبر والديه، أن يجود بنفسه وينضم إلى آلاف المتطوعين في الدفاع عن الأوروبيين الذين يحرق الروس مدنهم، بل إن أخته روبيكا بدلاً من أن تثنيه عن مغامرة كهذه، أطلقت نداء بجمع التبرعات له، كي تعينه على مهمته. وحين حددت سقفاً للمبلغ المستهدف قدره خمسة آلاف دولار، وصلت حتى الآن التبرعات إلى أكثر من 13 ألفاً، مما يكشف عن مدى الحماسة التي يستقبل بها حتى الناس العاديين في الغرب تصرفاً كهذا، يتجاوز التضامن وإغاثة اللاجئين والمنكوبين إلى القتال وجهاً لوجه ضد الروس. وحفزت روبيكا المتبرعين باقتباس يقول "عندما تتغلب قوة الحب على محبة القوة، سيعرف العالم السلام".

وهكذا يعيد التاريخ نفسه في جانب المقاتلين بين الأمس واليوم، ولم يبقَ إلا أن نرى المقاتلين الأوكرانيين الرسميين والشعبيين، في البيت الأبيض يستقبلهم الرئيس بايدن كما فعل رونالد ريغان حين أقام استقبالاً رسمياً للمجاهدين الأفغان آنذاك، تم تداوله على نطاق واسع، قبل أن نعرف من الفيصل في شهادته، أن بعضاً من أولئك المقاتلين لفرط نظرتهم لقداسة المهمة التي يقومون بها تورعوا عن التصوير مع الزعيم الأميركي، الذي اعتقدوا أنه لا غرض له بلقائهم غير توظيفهم في الدعاية لمشروعه وبلاده السياسي.

أميركا تنسحب في المنتصف

مع أن تاريخ أميركا في الحرب العالمية الثانية كان مختلفاً لنهجها الذي ساد في أفغانستان، إلا أننا لا ندري حتى الآن أي من النهجين ستختار في الأزمة الأوكرانية. ما ندريه أن تحريضها الأوكرانيين على رفع سقف مطالبهم أمام الروس الأشد قوة، أدى وفق الكرملين إلى الغزو، الذي قد يكون من صالح واشنطن وفقاً لما سبق أن يطول عكس الأوكرانيين الذين مع كل يوم تزداد معاناتهم.

لكن ما هو أسوأ من زج الغرب الأوكرانيين في الحرب، ثم تخليهم عن حمايتهم تحت ذرائع الخوف من قيام حرب عالمية ثالثة؛ هو الانسحاب في المنتصف من المشهد برمته، وترك أوكرانيا وجوارها الأوروبي لمصيرهم، وويلات ما بعد الحرب من لاجئين ودمار ومقاتلين أجانب وانقسامات عرقية ودينية، لكأن إلحاق الأذى بالروس مهما كان -قليلاً أو كثيراً- تتضاءل أمامه كل الغايات.

إن لم يكن هذا ما سيفعله الأميركيون في كييف، فإن تجربتهم في أفغانستان في الأقل تدعو إلى الخشية من قيامهم بذلك، مثلما يروي لنا الفيصل في كتابه الذي صدر حديثاً وإن تحدث عن وقائع قديمة، للمصادفة كان الطرفان الأميركي والروسي طرفين رئيسين فيها أيضاً.

في أكثر من موقع لم يستطع رجل الاستخبارات القوي في ذلك العهد أن يخفي خيبة أمله من الأميركيين حلفائه في الحرب، وهم يولون ظهورهم أفغانستان مخلفين وراءهم أمة متناحرة منقسمة، ولاجئين في الجوار وسط أوضاع إنسانية مزرية، وتنظيمات متطرفة من كل المشارب تثير تحركاتها الشبهة، كل ذلك لم يجدوا فيه ما يستدعي فعل أي شيء على كل المستويات الإنسانية والعسكرية والاستخباراتية، فبمجرد أن اندحر الروس، ذهبت السكرة، وبقيت البلاد التي جرى تحريرها من الروس ملجأ لقوى أشد خطراً، فيما تبين لاحقاً بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

وكانت السعودية وباكستان ومعهما معظم دول منظمة التعاون الإسلامي، لعبت في أفغانستان دوراً شبيهاً بالذي تلعبه اليوم بولندا وألمانيا والاتحاد الأوروبي في أوكرانيا بالتعاون مع أميركا وبريطانيا، إذ قال الفيصل إن بلاده توزعت الأدوار مع باكستان والأميركيين "فدفعنا نحن والأميركيون، ووفر الأميركيون وبدرجة أقل الباكستانيون السلاح ووزعه الباكستانيون"، وذلك وسط دوافع تعلق معظمها بأجواء الحرب الباردة، في ظل "تطابق واضح بين الاعتبارات الأخلاقية والاستراتيجية والسياسية، وكلها تشير إلى ضرورة القيام بدعم المقاتلين الأفغان"، لكن الأميركيين خذلوا الجميع في نهاية المطاف، ووجدت السعودية نفسها فيما بعد تواجه مشكلات لا حصر لها، جراء تلك الحرب، التي كان تحميلها بعض مساوئها، بين الأسباب التي دفعت الفيصل إلى إخراج الكتاب بعد عقود.

وفيما يحاول الأميركيون مرات عدة إلقاء اللوم على السعوديين، كان رد الرياض جاهزاً بأننا "قمنا بذلك معاً، فلماذا علينا تحمل المسؤولية وحدنا"، وهذا ما يُعتقد أنه سيظهر تباعاً في المسألة الأوكرانية على الرغم من الفوارق القائمة بين مجتمع على أبواب أوروبا وآخر في وسط آسيا، بعيد من نقاط التأثير في القارة العجوز.

غير أن البون في الظرفين المكاني والزماني لا يمنع من توقع نشوء تطورات خطرة مشابهة أقل أو أكثر مما وقع في أفغانستان، فنرى على سبيل المثال مفكراً أميركياً هو صموئيل هنتنغتون يشير إلى ما يمكن تسميته بالقنابل الدينية والقومية الموقوتة في هذه المنطقة من أوروبا والعالم، وأي استثارة لها على النحو الذي يجري الآن، قد تحدث شروخاً يصعب إصلاحها، لدى تنظيره لتفاصيل رؤيته حول صراع الحضارات الشهيرة، ومن بين تلك الحضارات والقوميات "الروسية في مقابل الغربية، والأرثوذكسية في مقابل الكاثوليكية"!

المفاوضات لا تسكت البنادق

من مفارقات النزاعات من هذا النوع أن المفاوضات بين مختلف أطرافها لا تنقطع، إلا أنها على الرغم من ذلك "لا تُسكت البنادق"، ذلك أن المتحكمين في اللعبة يريدون أن يبقوا على هامش من السيطرة على الحرب، كي لا تتطور إلى ما لا يريدون، أو بالتعبير المؤامراتي لتصب في صالحهم.

وفي هذا السياق يمكن فهم المفاوضات القائمة بين روسيا وأوكرانيا، إلا أنها إن كانت مثل الأفغانية فإنها لا يعول عليها، فطرفا الصراع الفعليان هما روسيا وأميركا، وليس أوكرانيا والكرملين، وإلى حين يتفق الطرفان الأولان ستبقى رحى الحرب دائرة على الأرجح.

وفي حرب أفغانستان لم تنقطع المفاوضات قط بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، إلا أن أفغانستان ليست سوى موضوع بين قضاياها المتعددة، وحين تم تسوية كل الملفات مع "غورباتشوف" كما توثق المراجع، لم تزد أفغانستان غير الخراب والدمار، إذ استغل الأميركيون ما لمسوه من ضعف خصمهم في إذلاله عسكرياً، فيما وظف الجيش الأحمر قواته المنسحبة في توديع الأفغان على طريقة تبقى في ذاكرتهم، نكثوا فيها حتى عهودهم لأمثال رجل وادي بنجشير المعروف أحمد شاه مسعود، وهو الذي اتفق معهم على هدنة، ينسحب بموجبها الروس من دون أن يتعرضوا لأذى، إلا أن للجنود الناقمين طريقتهم المأساوية في الانتقام والتشفي من الخصوم، فشنوا غارات لم تزد الأفغان إلا يقيناً بما يكن غزاتهم من الضغينة.

تجربة الشيشان وحلب أقرب

لدى قراءة المشهد في أوكرانيا، وتشابه العديد من أبجدياته مع سابقه في سبعينيات القرن الماضي عند غزو السوفيات أفغانستان؛ لا يزال العديد من الباحثين والكتاب يدافع بأن ورطة كبيرة مماثلة أو تكاد تنتظر الروس في أوكرانيا، طبقاً للمؤشرات السابقة وسواها، إلا أن ذلك السيناريو قد لا يتكرر في الشق الروسي، لاعتبارات عدة، ليس أقلها أن موسكو اليوم أكثر قوة وشباباً من الاتحاد الذي كان منهكاً في ذلك الحين ومثقلاً بالأعباء وهرماً اقتصادياً وأيديولوجياً وبنيوياً.

 على النقيض من روسيا اليوم، إذ تردد أنها أعدت للمعركة واختارت توقيتها عن روية، بعد أن مهدت لها لسنوات عدة، منذ سيطرتها على أجزاء من جورجيا، ومن ثم القرم، واختبرت لياقتها في كازاخستان وبيلاروس، في وقت تقف فيه أميركا والغرب موقف العاجز، إلا من التنديد وعقوبات اقتصادية، هي في أكثرها شكلية ولا أثر لها في الأرض، هذا إن لم تنقلب على الغرب نفسه، كما يؤصل الاقتصادي المخضرم أنس الحجي في أحد تعليقاته حول الأزمة، إلا أن بايدن يرى العكس، فيعتبر حزم العقوبات كفيلة مع الوقت بنقل اقتصاد روسيا من الرقم الحادي عشر عالمياً إلى خارج مجموعة العشرين كلية.

وفي وقت يراهن فيه الغرب على عامل الوقت لاستنزاف روسيا وتحويل المواجهة إلى "حرب عصابات"، طالما استبعد المواجهة أو حظراً جوياً، تلاحظ صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية التي تساءلت "هل ستكون أوكرانيا أفغانستان بوتين"؛ أن مثالاً آخر لما يجري في كييف اليوم، هو "حرب الشيشان" في نهاية الألفية الماضية، التي أعجزت روسيا يلتسين، إلا أن مقاربة بوتين لها، كانت فعالة في إنهاء التمرد في نهاية المطاف، على الرغم من تجاوزها الحدود الزمنية والكلفة المتوقعة على مختلف الأصعدة.

التجربة نفسها كررها الجيش الروسي مع حلفائه في سوريا، إثر المواجهات الدامية والبراميل المتفجرة في مدن الجمهورية العربية، التي ما لبثت أن دانت للقيصر بفعل قوة النار وانتهاج سياسة "المدينة المحروقة"، في قصة غدت شائعة ومعروفة.

وفي ظل افتقار أوكرانيا إلى طبيعة جغرافية حصينة كالتي تتمتع بها أفغانستان، يصعب التكهن بنجاح حتى حرب العصابات على النحو الذي يؤمل الغرب، علاوة على كلفتها الباهظة في خراب المدن، وفقدان الأرواح والممتلكات.

هل يعني ذلك أن طريق بوتين إلى كييف مفروش بالورود والغرب كله يتربص به؟ ذلك ما تخشاه أميركا والناتو، ولذلك لا يستطيع كثير من المحللين أن يروا في أوكرانيا إلا "مستنقعاً روسياً"، فيما يرى آخرون أن بوتين ليس بالرجل الذي يمكن جره إلى فخ كهذا، وبالتالي يرى مثل شربل أن الحل في إيجاد مقاربة تنتهي بها المعاناة على نحو لا يجرح كبرياء "رجل لا يستطيع أن يخسر"، وتلك فكرة بدا أنها لمعت أخيراً في ذهن فولوديمير زيلينسكي وأعلن أن كل مطالب روسيا مثل الحياد، وتجنب الانضمام إلى حلف الناتو يمكن بحثها، ولمَ لا مصير "القرم" وإقليم "دونباس"؟

أما على المنظور الأفغاني، فإن ما يثير شهية الغرب غالباً، هو خلاصة سقوط الاتحاد السوفياتي بعد غزو أفغانستان، فإن الكارثة التي أودت به لم تكن في الحرب نفسها وإنما "كانت في تأثيرها في المجتمع من الداخل (الروسي)، فقد مثلت الحرب عبئاً على اقتصاد البلاد المنهار، وأضعفت معنويات الشعب السوفياتي".

وهكذا وفقاً لكاتب "الملف الأفغاني" الفيصل، عندما حان وقت الانسحاب "كان أكثر من نصف مليون جندي ومدني قد خدموا في أفغانستان، تبلغ عامين للضباط و18 شهراً للرتب الأخرى، وقد عادوا إلى الوطن وهم محملين بقصص شديدة القسوة يروونها عن الحرب والفساد وعدم الكفاءة والفشل... ساعدت في جعل المواطنين السوفيات أكثر وعياً بعدم جدوى ونفاق النظام الذي يحكمهم". (ص 148).

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير