Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود أمين العالِم ومعاركه الفكرية مع الثقافة الرسمية

القاهرة تستعيده في ذكرى مئوية ولادته وتحتفل بفكره التنويري الذي يزداد حضورا

المفكر المصري محمود امين العالم في ذكراه (موقع "أدباء مصريون")

سوف تظل قيمة الناقد والمفكر اليساري المصري محمود أمين العالم (1922 – 2009) الذي حلت ذكرى مئويته قبل أيام، شديدة الحضور والفاعلية، لا يغيبها الزمن ولا يختلف عليها أحد، حتى لو كان من رافضي فكره. وقد تجلت هذه القيمة المهمة في عديد من كتبه ومنها، "في الثقافة المصرية". هذا الكتاب أكد العالم من خلاله رفضه للرؤى النقدية السائدة. ثم توالت أعماله ما بين التنظير النقدي والنقد التطبيقي والكتب الفكرية من قبيل، "تأملات في عالم نجيب محفوظ"، و"توفيق الحكيم مفكراً وفناناً" و"ثلاثية الرفض والهزيمة". والأخير يتناول ثلاث روايات لصنع الله إبراهيم. و"معارك فكرية" و"الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر". ويندرج كتابه "البحث عن أوروبا" تحت أدب الرحلات الذي لم يكن شائعاً في تلك الفترة. وربما لا يعلم كثيرون أن محمود أمين العالم قد بدأ شاعراً وله ديوان بعنوان "أغنية الإنسان".

بهذا الاستعراض لبعض كتبه نستطيع أن نلاحظ هذا الثراء والتنوع اللافتين وقد أدخلته رؤيته النقدية في خلافات مع رموز الثقافة المصرية، ناهيك عن سجنه أكثر من مرة وفصله من الجامعة بسبب مواقفه السياسية.

ضد طه حسين والعقاد

بدأت هذه المعركة عندما نشر طه حسين مقالاً في جريدة "الجمهورية" القاهرية، قدم فيه تصوراً لطبيعة الأدب يقوم على أن "اللغة هي صورة الأدب وأن المعاني مادته". وهو تصور كلاسيكي في الأساس (موقع "ديوان العرب" صلاح السروي 5 مارس 2009). وعبر العالم عن عدم اتفاقه مع ذلك التصور في كتابه المشترك مع عبد العظيم أنيس "في الثقافة المصرية". وخلال حوار أجريتُه معه قال، "التصور الشائع عن هذا الكتاب أنه يدعو إلى المنهج الواقعي، لكن هذا ليس صحيحاً، فالكتاب لا يقدم منهجاً واقعياً بالمعنى الحرفي، ولكنه يدعو إلى إعادة بناء الواقع بشكل يكشف ما هو جوهري على نحو جمالي وتعبيري، ولهذا فقد استبدل بالعلاقة القديمة بين الشكل والمحتوى (أو ما قال به طه حسين) علاقة الصياغة والمضمون والفرق كبير بين الثنائيتين". وتعليقاً على هذا الخلاف تدخل عباس محمود العقاد قائلاً عن العالم وعبد العظيم أنيس، "أنا لا أناقشهما، بل أضبطهما. إنهما شيوعيان". ووصف طه حسين كلام العالم (على الرغم من وضوحه) بأنه "يوناني فلا يُقرأ". وجوهر الخلاف أن العالم لا يرى الصياغة مجرد شكل، بل إعادة تشكيل الموضوع بطريقة جمالية تعطي دلالة أكبر من المظهر ما يؤكد مبدأ الإبداع، أي أن ترى الأشياء رؤية جدلية ثم تبدع مضموناً جديداً.

إن العالِم يبعد (بذلك) عن فكرة الانعكاس الآلي المرآوي التي وصمت دعاة الواقعية الأوائل، مؤكداً قيمة الإبداع التي تفرق بين الأدب والوثيقة الاجتماعية أو السياسية. ومن المواقف الفكرية التي رفضها العالِم عند طه حسين ربطه العقلية المصرية بثقافة شمال البحر المتوسط.

موقف من محمود حسن إسماعيل

والحقيقة أن "في الثقافة المصرية" كان ثورة، ليس فقط على تصورات طه حسين والعقاد، بل على كثير من الأدباء مثل المازني وتوفيق الحكيم وأغلب الشعراء، في ما عدا الشعراء الشبان الذين يكتبون في قالب شعر التفعيلة الذي رأى فيه ارتباطه بالحياة الاجتماعية التي يتمثلها الشاعر من خلال تجاربه الذاتية. هذا الارتباط بين الشعر والحياة الاجتماعية الذي يشترطه العالِم، جعله يصف الشاعر محمود حسن إسماعيل بأنه نمط كامل في الانفصال عن الحياة. وهي مبالغة تتناسى فلسفة الرومانسية وثنائيتها الضدية بين المادة والروح. وعندما سألتُه عن هذه المبالغة قال، "محمود حسن إسماعيل كان يتحدث عن جمال الريف وسحر طبيعته أكثر مما يتحدث عن هموم الفلاح، وعنوان ديوانه "أغاني الكوخ" دال على ذلك، بينما كنا نسعى إلى تغيير حياة الإنسان المقهور". لكن هذا الرد لا يلغى المبالغة وتجاهل أن الإبداع نفسه (بغض النظر عن مذهبه) يؤدي إلى تغيير حياة الإنسان المقهور ويحرره من حكم الضرورة إلى أفق الحرية.

ويبدو أن العالِم قد طور كثيراً من تصوراته في هذا الكتاب حين غير موقفه المقارن بين إليوت وماياكوفسكي، إذ رأى أن الأول (على الرغم من اختلافه الفكري معه) "شاعر كبير وطاقته الشعرية أرحب وأعمق من الثاني". على الرغم من أن ماياكوفسكي أقرب إلى رؤيته الفكرية.

ضد البنيوية الشكلية

كتب العالِم كثيراً ليوضح موقفه من البنيوية بخاصة في مقدمة كتابه "ثلاثية الرفض والهزيمة"، على إثر خلافه مع الناقد بطرس الحلاق الذى قال، إن قهر الإنسان أمام الآلة في الدول الاشتراكية يستوي مع قهره داخل العالم الرأسمالي، وذلك في تحليله لرواية "نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم. وفي رد العالم على ذلك عرض رفضه للبنيوية متعللاً بأنها تعزل النص الأدبي عن سياقه الاجتماعي والتاريخي والثقافي، وأنها ثمرة ترف فكري أفرزته المجتمعات الغربية التي أوصلتها الرأسمالية إلى طريق مسدود كما تقوم على تغييب المفاضلة بين الأعمال الجيدة والأعمال الرديئة، حين تسقط حكم القيمة مكتفية بإرجاع التعبير الإبداعي للأدب لقواعد اللغة وإهمال الذوق في المقاربة النقدية للنص. في حين يرى العالِم أن "المعمار الفني في العمل الأدبي يصبح جميلاً جمالاً أدبياً عندما يتحقق فيه الاتساق والتآزر بين الصورة والمادة، أي بين المضمون الأدبي الذي هو عبارة عن أحداث داخل العمل الأدبي وبين المواقف والوقائع الاجتماعية المعيشة" ("المنهج النقدي لمحمود أمين العالم"- جهاد فاضل جريدة "الرياض" 4 أغسطس 2010).

ولهذا فهو يرفض رؤية سارتر الذي أخرج الشعر من الالتزام ورؤية كروتشه الذي ألغى المضمون تماماً، ورأى العمل الأدبي تهويمات شكلية لا ترتبط بمضمون.

الماركسية والتصوف

ومع ذلك يمكن القول، إن ماركسية العالِم منفتحة متطورة لم تسجنه في تصورات غدانوف. والأغرب أنها امتزجت مع نزعة صوفية. ويرجع ذلك إلى أنه تربى في أسرة متدينة، فقد كان أبوه شيخاً ووكيلاً لفرع "الجمعية الشرعية" في حي الدرب الأحمر في القاهرة، وشقيقه أحمد كان أزهرياً ضريراً وشقيقه محمد كان طالباً في الأزهر، لكنه فصل منه بعد كتابه "الأزهر فوق المشرحة". ثم بدأ اتصاله بالصوفية من خلال ما كتبه ماسينيون عن الحلَّاج، وازدادت تعمقاً عندما قرأ كتاب "هكذا تكلم زرادشت" وما كتبه زكي نجيب محمود عن نيتشه.

وكان العالِم يرى أن مطالب الحداثة لم تتحقق بعد في عالمنا العربي، واصفاً إياها (في مقال) بأنها "تنتسب إلى البنية الرأسمالية وتعبر عن الخصائص التاريخية والموضوعية لهذه البنية". ولأن العالَم العربي لم يشهد نمواً رأسمالياً مستقلاً، فهو بالتالي لم يعرف الحداثة. وهو لا يرى ذلك مدعاة إلى الانتقال إلى "ما بعد الحداثة"، لأنها تؤدي إلى تفكيك الرؤية الموضوعية للظواهر وتؤدي إلى إلغاء التقدم على العكس من رؤية دعاتها الذين يدعون إلى تقوية الأطراف المهمشة ضد هيمنة المركزية أياً كان موضعها. لكن العالِم يرى صعوبة ذلك إلا (بحسب ما قاله لي عام 2006) "بتقوية أواصر التعاون مع الدول المناوئة لهذه المركزية المهيمنة في أفريقيا والصين وكوريا الشمالية وأميركا اللاتينية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي مقاله "الهشاشة النظرية في الفكر العربي المعاصر" الذي نشِر في الكتاب غير الدوري "قضايا فكرية"، لا يقر ما بعد الحداثة بدعوى أن العصر عصر الفردي والهامشي والعابر والفراغ أو عصر نهاية الأيديولوجية والقيم الكلية، مقدماً رؤية جد مختلفة عن هذا، حين يرى هذا العصر "عصر الاختلاف داخل الهوية (الجامعة) والفردية، والتنوع داخل الكلية، والتعدد داخل النظام، والمخيلة والإبداع داخل العقلانية، والثقافي داخل الاقتصادي، والحلم داخل بنية العلم". إنها منهجية العالِم التي تتآزر فيها الأطراف التي تبدو في الظاهر متنافرة وتبقى العقلانية ومعركة تحديث الواقع الأساس الذي ينطلق منه دائماً، فتحديث الواقع أولاً هو التمهيد الحقيقي للتنوير العقلي وإلا سيظل هذا التنوير مقصوراً على النخب الثقافية. ففى إجابته عن سؤال، "لماذا تبدأ حركات التغيير والتحديث في عالمنا العربي دائماً نخبوية، وتظل قاصرة على النخبة سواء كان القائمون بها منتمين إلى الطبقة الأرستقراطية أو الطبقة الوسطى؟ يقول، "لأننا إلى الآن لم نستطع نشر الوعي المطلوب بين الطبقات الشعبية المقهورة صاحبة المصلحة في التغيير. فقد ظل التعليم محصوراً لعهود طويلة داخل هذه الطبقات النخبوية".

هكذا عاش العالِم ومات وعينه ووجدانه مرتبطان بهذه الطبقات الشعبية، بالكلمة والموقف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة