Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شعراء أوكرانيون وقصائد احتفاء باليوم العالمي للشعر

"أناشدكم ادفنوا بعد موتي بقايا رمادي بين سهوب أوكرانيا بلادي العذبة"

مشهد أوكراني للفنان أندرو ميللغين (صفحة الفنان على فيسبوك)

تحتفل اليوم عواصم ومدن في العالم بـ"اليوم العالمي للشعر" الذي ارتأته منظمة اليونسكو في الحادي والعشرين من شهر مارس (آذار) من كل عام، وهو اليوم الذي يصادف بداية الربيع، فصل انبعاث الحياة في الطبيعة، بحسب التقليد القديم، وانتشار النور والدفء وعطر الأزهار الخارجة من براعم الشتاء الطويل.

ليس أجمل من أن يحتفل العالم بهذا اليوم، حتى وإن بات الشعر "كائناً" ضعيفاً وشبه معزول في عصرنا الاستهلاكي الذي لم يعد يُبالي بهذه "الصنعة" القديمة، وبأصحابها الشعراء الذين ما عادوا يملكون أيضاً الهالة التي طالما ملكوها سابقاً. ولعل ما زاد من عزلة الشعر، رواج الرواية وسيطرتها على المشهد الأدبي،  وهيمنتها على المبدعين أنفسهم، وبينهم شعراء، وعلى القراء الذين أضحوا يميلون إليها، عطفاً على الناشرين الذين أقصوا الشعر من دورهم، فاتحين أبوابهم أمام الروائيين والجوائز التي تزيد من أرقام المبيعات.

لعل السؤال الذي طرحه غابراً الشاعر الألماني هلدرلن، وأعيد طرحه مراراً، خصوصاً في زمن جائحة كورونا التي أنهكت البشرية، يُعاد طرحه اليوم حيال الحرب المدمرة التي يشنها النظام الروسي على أوكرانيا: ما جدوى الشعراء في زمن المحنة؟ هذا السؤال الذي لا جواب نهائياً عليه، يُطرح اليوم في أوج المأساة التي يحياها الشعب الأوكراني، قتلاً وتهجيراً وخراباً. وهذه المأساة تجسد في ما تجسد، أزمة العالم الجديد، عالم ما بعد العولمة و"نهاية التاريخ" والحداثة الرهيبة وما بعدها.

ليس المطلوب من الشعر اليوم أن يصنع المعجزات، لا سيما في الزمن المادي والتكنولوجي والاستهلاكي الذي سحق إنسانية الإنسان. لقد مُدح الشعر كثيراً منذ فجر الإنسانية، وما برح يُمدح حتى الآن، لكن هذا المديح لم يحُل دون تراجعه اليوم وتلاشي أثره العميق، وجدانياً وحضارياً وجمالياً، حتى أضحى الشعر أضعف الكائنات وأكثرها عزلة وانكفاءً.

لا أحد يدري إن كان الشعر قادراً وحده على هذه المواجهة. كان بورخيس يقول إن الحياة مكونة من الشعر، وإن الشعر يترصّد الحياة عند المنعطف فيطل كالأعجوبة. مثل هذا الكلام يُعزّي فعلاً ويخفف من وطأة المأساة التي يحياها الشعر والشعراء. وقد قيل مثله الكثير على مر العصور، لكن هذا الكلام لم يتمكن يوماً من الحد من تقهقردور الشعر والشعراء، في العصر الراهن.

تحية إلى شعراء أوكرانيين

يُصادف اليوم العالمي للشعر هذه السنة اندلاع حرب لا تعني فقط روسيا المعتدية، ولا أوكرانيا المعتدى عليها، بل تعني البشرية كلها، الناس كلهم، مواطني العالم الجديد. وحيال المآسي العديدة التي تنجم يومياً عن هذه الحرب التي تهدد الأرض، لا سيما إذا غرقت في البحيرة نووية، لا بد من إلقاء تحية على الشعراء الأوكرانيين، الراحلين والأحياء، وعلى الشعر الأوكراني الذي كان خير شاهد على مآسي هذه الأمة، المتوالية منذ عصور، والتي ما برحت مستمرة حتى اليوم.

ولعل المشكلة التي يواجهها الباحث عن الشعر الأوكراني هي نُدرة ترجمة هذا الشعر إلى اللغات العالمية، وحتى الأوروبية منها. نادرة هي الترجمات فعلاً، ونادرة هي الأنطولوجيات التي تقدم صورة شاملة أو جزئية عن هذا الشعر العريق الذي وقع بين هويتين لغويتين، روسية متاخمة ومفترضة تاريخياً، وأوكرانية هي الهوية الأم. بعد بحث طويل وقعت على أنطولوجيا يتيمة باللغة الفرنسية، اختار قصائدها وترجمها الكاتب والشاعر والأكاديمي الأوكراني الفرنكوفوني دميترو تشيتسياك، لكنه لم يكتب سوى مقدمة صغيرة للأنطولوجيا، وقدم سيراً مختصرة للشعراء الذين ترجم لهم، وهم ينتمون إلى القرن التاسع عشر والعشرين والحادي والعشرين، ويمثلون بإيجاز، المراحل التي اجتازها الشعر الأوكراني والتجارب المُتوالية بخصائصها اللغوية والأسلوبية ومدارسها المتعددة.

ومن يقرأ المختارات يدرك، ولو باختصار، فرادة هذا الشعر، ومسار تطوره عبر المراحل المعروفة في الشعر الأوروبي عموماً، والشعر العالمي، انتقالاً من الفترة الكلاسيكية، فإلى الرومنطيقية، فالرمزية، فالحداثة في كل تجلياتها. لكن ثمّة خصوصية تُلقي بظلالها على هذا الشعر، تعود إلى طبيعة المكان الجغرافي والإرث التاريخي والبعد الغنائي المرتبط ارتباطاً متيناً بعناصر الطبيعة وحركتها الفصلية. وضع دميترو تشيتسياك عنواناً لافتاً للمختارات التي صدرت عام 2018 عن دار "لارماتان"، وفي طبعة أخرى عن دار "بوغداني" في بلجيكا هو "كلارينيتات شمسية"، والكلارينيتات جمع كلارينات وهي آلة موسيقية معروفة جداً تسمى بالعربية "قرنيطة". ومما يقول في المقدمة الصغيرة، إن الشعر الأوكراني هو أرض تكاد تكون مجهولة لدى القارئ الفرنكوفوني. إنها "لملاحظة حزينة"، فأوكرانيا هي بلاد 64 مليون مواطن، يمثلون شعباً ذا تاريخ عريق، وذا ثقافة غابرة ترجع إلى ثمانٍ من الألفيات. أما أدب هذا الشعب فأعطى للعالم أدباء متفردين من أمثال غوغول وبولغاكوف وتشيفتشينكو، ومعروف أن غوغول وبولغاكوف اختارا الروسية لغة تعبير، لكنهما حافظا على الروح الأوكرانية الشعبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقدم المترجم ما يشبه الاعتذار من القارئ على حصر المختارات بصفحات قليلة (170)، وبقصائد قليلة نسبياً لخمسين شاعراً يحتاجون إلى تقديم المزيد من إبداعهم. ويوضح أن المختارات عادةً تتطلب أكثر من مترجم لئلّا تقع في ما يسمى اختياراً شخصياً و"اعتباطياً". ويعترف بأن ثمّة هنات قد تعتري بعض القصائد المترجمة، لا سيما أنه اعتمد الوزن في بعضها.

غير أن هذه المختارات اليتيمة في اللغة الفرنسية، تُلقي ضوءاً ساطعاً على الشعر الأوكراني، وعلى بعض شعرائه الكبار والجُدد الذين يخوضون تجاربهم الخاصة، منفتحين على ثورات الشعر العالمي.

هنا قصائد اخترتها وترجمتها عن الفرنسية إسهاماً في التعريف بمناحي الشعر الأوكراني وبعض أسمائه، في اليوم العالمي للشعر.

 

 وصية

أناشدكم، عند موتي،

ادفنوا بقايا رمادي

بين السهوب الفسيحة

سهوب بلادي العذبة أوكرانيا

أوكرانيا التي أعشق حقولها التي بلا تخوم

وصخورها الصلدة،

التي أسمع نهرها يهدر

رغم توالي العصور.

عندما يسيل دم الأعداء القُساة

من أوكرانيا

نحو البحر الأزرق البعيد

أهجر تلك السهوب

وتلك الربى متوجهاً

صوب الله لإحياء الصلوات،

ولكن قبلاً، يا أبي

ما عدت أثق بك البتة...

عند موتي، انتصبوا، يا إخوتي،

قطّعوا قيودكم

التي يضمخها دم العدو

حياتكم سيكون ملؤها الحرية والعفاء،

ومن العائلة الكبيرة

ستنبثق عائلة جديدة،

كلمة فيها من التقوى والطيب

تدفعني إلى التذكار أحياناً.

 (تاراس تشفتشنكو)

 

 قصيدة

لا أحد يحبك كمثل هذا الحب... وحدي أنا

أحبك مثل شاعر ملعون حتى الموت. في الأرض،

في السماء، في الثلوج التي يدمرها الماء،

في أدخنة المساء، في الأفراح المرّة.

ذاك أن كل ما في العالم لا يعني إلا أنت.

العصور تحترق بالمياه والقوى.

أنت ذاكرة السهوب والنبات،

صوت الكواكب، الحرية، الحظ،

لتصغي جيداً: صوتي ملك لك،

وكل فجر يلمع بنعومة رقيقة جداً.

أنت الملح الذي يعبده مصب النهرالقديم،

الورقة الأخيرة في غابة شهري، ديسمبر.

 (ميكولا فينغرانوفسكي)

 

 زهرة

جلب زهرة زرقاء

بزرقة الزرقة

زرقاء جداً

كما لو تاه في الزرقة.

ثم جلب زهرة حمراء

وتاه في الحمرة.

حانت الساعة

فجلب لها زهرة بيضاء

ثم تلاشى في الأبيض

هو.

*

الكأس

كأس مساء شتائي

برَد يساقط غزيراً على الشجر

شفاه نساء رطبة باردة

لا شيء

البتة.

 (ليونيد دافيدينو)

 

 القرن العشرون

يطلب المرء ماءً ليشرب

يعطونه رشاشاً

ويرسلونه

كي يقتل.

يطلب المرء

زهرة شجرة رمان

يهيئون له

مفاعلاً نووياً.

يريد المرء

أن يبني

عشاً صغيراً ذهبياً للسنونوة

يجرّونه على الأرض

بقميصه الممزق،

عليك أن تلعب الشطرنج

مع رجل شيخ

ولكن ليس على رقعة الشطرنج

بل على أسنانك المكسورة

وراء القضبان المتينة.

يريد المرء أن يُحيّي

بقبّعته الخضراء

الفتيات اليافعات

الأصدقاء في الحقل

وكي يقبّلهم يعطونه

نار رشاش.

ما همّ

هنا أو هناك

أو في ثلج الأورال

امرؤ يطلب

امرؤ أبله

لا شيء لديه ليطلبه

هذا هو اللعب.

*

لم يبقَ من قلب - شاحن

في الصدر،

عش تبيض فيه ضوار.

 قلب من حديد،

قلب ميت،

شمس مستة،

جبين مضفور بالشوك.

لا تقل: "مصير شنيع"

هذا الذي التقطك عن الأرض ثم ضربك

لن يكون في قلبه رحمة.

يتكلم جيداً جداً

لغتنا نحن هنا،

لغة أهل مدينة تشيرنوبل.

الأفق المنسرح

إلى هذا الحد،

لنتشبع من الدم.

(تاراس ملنيتشوك)

 

 دم من فضة

يغرق الكلام في الصمت، والصدى الفضي يتلاشى

عند كل خطوة تنتهي ولا تعود قادراً على الحسبان

قرائنك الملتصقة بظهرك

تلاحقك راكضة، راكضة...

تلتفت إلى الوراء، وإذا القرين الأقرب يسقط في الثلج،

بينما القرين التالي يركع على البياض...

اهرع سريعاً، ابعد، وإلا فالقرائن يقضون جميعاً من غير أثر

لكنك لا تعلم كيف ترفع قدميك من الزفت الأبيض.

ترومبيت رئيس الملائكة ترفع صوتها الفضي،

صداها يدفعك إلى الركض، يدفعك أقوى وأقوى،

وفي الجو تبرق مغنيات بأصواتهن الفضية الرقيقة، يغنين

في حين يغدو لك بياض الثلج مغرياً...

ثم تتوقف، قطعة بيضاء تنطلق من تزلجك، تلتفت: المغنيات يقطعن تواؤمك،

وها أنت ذا محاطاً بالمعدن، تتكوم على نفسك، وحيداً،

تُصغي إلى الجليد يرن آلاف الرنات...

المعدن يجمّدك، الفضة تنسل إلى حدقتيك،

وشفتان من مرمر تنطبقان بصمت...

لقد نزلت عن قاعدة تمثالك، القريب بضع خطوات من منزلك

وتسمع المغنيات يصفّرن بالقرب من عقبيك.

هو ذا أنت تبصرك عيون الموتى الذين سقطوا في المعركة،

كانت تتبعك بوداعة، صف طويل من الموتى.

الآن تبقى وحيداً، وقد سلت في المعدن،

بغية شهقة أخيرة، هي الجرعة الأخيرة من الفضة.

(بافلو موفتشان)

 

 الجبل والزهرة

الأيل الذي يبصر

غمامة بيضاء

تطفو على المستنقع

يبلل قرنيه في الغيم.

*

جبل عالٍ

زهرة ضئيلة

الثلج يغطي

الجبل والزهرة.

*

من يمنع الليل

لا يعلم أمراً عن النهار

من يحمل الحجر

يثقل بحجره

يحمل الحجارة

منذ الحجر الأول

*

وجه بلا قناع

هو وجه مزدوج

*

إلى أين تتهيّأ للرحيل؟

أنت لا تعلم حتى

عُد...

ولكن إلى أين؟

أوه. كبير هو العالم.

*

صوب الخريف

في أعشاش التترب

الساقان بخثارتهما البرتقالية

ينبتان بوفرة

قدما شخص

تتصلبان بخثارتهما.

الجبال والسهوب تتلاقى

ورقة صفراء

صالحت بينهما

أوه. كبير هو العالم.

 (ميكولا فوروبيوف)

 

 قصيدة

لم تبقَ أم

أرض باردة فقط

تنبسط أمامي

تنظر إليّ كما المساء

تعزّيني

ما وراء الضفاف

السهب في البعيد

كمثل جناح.

على الذراع الساكنة للموت

يعبر واثقاً، انعكاس ضوء الشمس.

الأم ألقت أزهارها

هذا الصباح فوق هذه الضفة الخضراء

استيقظت الطريق والزورق

شمس الوداع بين يديّ

تملأ العالم

الغربان المثابرة

بمعاطفها المسودّة

تحمل الشساعة

المتكاثفة أكثر فأكثر على أكتافها

دمعة بيضاء

من يعلم كيف تظهر الروح

طائر قرقف الزرقة

من يطرق على نافذتك هي أمّ

تشق الكائن

في الشتاء

الضوء الذي ينبثق

كلام صفصافة ترتجف.

 (رايسا ليشا)

 

عبور اللامرئي

لقد عبر اللامرئي، غصنٌ انتفض ثم هدأ.

اختراع زورق

ثم الغرق، العبور،

ثم نعبر من هناك، الأمطار تدلف على راحاتنا،

هذا الجو ينسجك والزورق ينزلق

شريان أزرق ينبثق على جباهنا.

أيدينا التي من رحيق، فراشة بجناحين من حبور.

في الصندوق ملح، دمعة تبترد، تتقاسم ابترادها.

أوه، يا عناكب الحقل المجنحة، حلقي صوب مياهي المتوحشة.

شهر آب يرن لنا - أجراس جوفاء - في الصخب الكبير.

برهةً، أيها الدم الأبدي، الضوء سوف يذوي.

سمكة في الماء، الأطفال في الحقول المعشبة، زهرة النحلات...

سوف نعبر من هنا - امرأة تستيقظ في النهر،

تنهدات بكاء لخطيبة مسكينة، طفلك بين سنابل القمح يضحك.

لمّا ينطلق عصفور، نعقد حدقاتنا،

من غير أن تدركي هذه النظرة، شعرك الفاحم السواد، يتكسر لها

الزورق ينسج نفسه - والصرخات وتنهدات البكاء تتآلف.

الهواء انزلق صوب البومة، إنها تحصي السنوات، السنوات تلمع...

(لوبوف هولوتا)

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة