إذا كان اسم الفيلسوف الإسكندري أفلوطين يلي، في القواميس والموسوعات الفلسفية العربية، وربما غير العربية أيضاً، اسم سلفه الإغريقي الكبير أفلاطون، فإن الأمر لا يعدو كونه مصادفة أبجدية، لكنها مصادفة سعيدة لا تكتفي بأن تجمع بينهما في مكان واحد على الرغم من نصف ألفية من السنين تفرق بينهما، بل تتجاوز ذلك لتجمع بينهما من ناحية الفكر كما لو كان الأمر تطبيقاً لظرية تفترض أن الأسماء قد تصنع أصحابها بقدر ما تنصنع بهم. ففي نهاية الأمر يعتبر الفيلسوف الإسكندري أفلوطين نوعاً من الاستكمال فكرياً للفيلسوف الأثيني. وربما أكثر من ذلك قليلاً، نوعاً من المزج بين أفلاطون وتلميذه الأعظم أرسطو، ولكن مع تنويعة صوفية وميتافيزيقية سيكون من شأنها أن تبهر أجيالاً تالية من الفلاسفة. ولعل في مقدمة تلك الأجيال الفلاسفة العرب الذين، حتى من دون أن تعني لهم إسكندرية أفلوطين كثيراً، ولا كون كاتب سيرته الأبرز وجامع أعماله ومنسقها الأهم هو الفيلسوف فرفوريوس الصوري، أي ابن مدينة صور الواقعة اليوم في أقصى الجنوب اللبناني، اهتموا به اهتماماً كبيراً، بل نسبوا إليه أعمالاً ليست له ربما في مقدمتها ما يحاول أن يجمع بين "رأيي الحكيمين"، أفلاطون وأرسطو، على النحو الذي سيسعى إلى تحقيقه فلاسفة مسلمون كبار من طينة الفارابي. غير أن ذلك ليس، طبعاً، أهم ما عند أفلوطين.
"تاسوعات" صعبة المنال
المهم إلى حد كبير في ما بقي من نتاج أفكار أفلوطين كتابه "التاسوعات" الذي، كما أشرنا، نسقه وجمعه ونشره فرفوريوس، ولعب دوراً كبيراً في التوسط بين الفلسفة الأفلاطونية بخاصة، وبين الفلسفة الحديثة، على الرغم مما اشتهر عنه من صعوبة في اللغة والأسلوب، ومن أن نقيصته الكبرى تكمن في كونه لم يُبالِ بالمسيحية التي كانت قد بدأت تعم مناطق كثيرة من العالم في زمنه فارضة فلسفات متنوعة لعل من أبرزها تلك التي حاولت، ولا سيما من طريق بولس الرسول، ومن ثم آباء الكنيسة، أن تطرح نفسها بديلاً للفكر الإغريقي السابق عليها. ولكن، في المقابل وفي السياق نفسه، نعرف أن الفكر المسيحي، ولا سيما كما عبّر عنه، بل جدده أيضاً، القديس أغسطينوس، ابن الشمال الأفريقي بدوره، والذي كما حال أفلوطين سينهي حياته ويصوغ أفكاره في روما، نهل من أفلوطين بشكل أو آخر. ففي نهاية الأمر لئن كان الأكبر بين أبناء الكنيسة في ذلك الزمن، وربما في كل الأزمنة، قد افتتح بفلسفته المسيحية عصور الإيمان الجديدة في ذلك الحين، يمكن القول إن أفلوطين كان من ناحيته الخاتمة المنطقية الكبيرة للفلسفة الإغريقية، ما جعله يعتبر رابع ذلك الرباعي المؤلف من سقراط وأفلاطون وأرسطو، مع ميل خاص نحو أفلاطون الذي اعتبر دائماً مجدداً لفلسفته، ما نتج عنه كما يذكر المفكر المصري الراحل فؤاد زكريا في تقديمه لترجمته العربية لتاسوعته الرابعة "اختلاط بين نظريات أفلاطون الأصلية وآراء أفلوطين في نظر مؤرخي الفلسفة حتى أوائل القرن التاسع عشر"، وأدى إلى جعل فلسفة أفلوطين تعتبر "أفلاطونية محدثة"، بالتالي ما يشبه التنويع على الفلسفة الأفلاطونية العريقة.
أفلاطونية لأزمنة جديدة
بيد أن الأفلوطينية – ولنسمها "الأفلاطونية المحدثة" كنوع من التقريب – لم تكن كذلك، بل كانت، وربما استناداً بخاصة إلى محاورة "طيماوس" للمعلم القديم، كما إلى بعض فقرات "الجمهورية"، نوعاً من إضافة صوفية وحلولية إلى الفكر الأفلاطوني يبتعد عن الجوانب السياسية والاجتماعية من هذا الفكر ليغوص في جوانب تنشغل أساساً بالبحث عن معاني الألوهية والسعي لفهم متعمق للوجود الإلهي وعلاقته بالخليقة وصفاته، قبل انشغالها بقضايا الحكم والمجتمع، وحتى قبل أن تطل على القضايا الأخلاقية الكبرى مركزة جزءاً كبيراً من اهتمامها على النفس والعقل، ودائماً في علاقتهما بالعناية الإلهية، لكن أغرب ما في الأمر هنا، وفي هذا السياق تحديداً هو انشغال أفلوطين، وعلى الأقل بحسب ما قدمه تلميذه ابن مدينة صور، بالنهل في فكره هذا من مصدرين أساسيين يتعارضان كلية في هذا المجال تحديداً، بل يتعارضان إلى درجة لم يتوانَ الرسام النهضوي الكبير رافائيل عن التعبير عنها بكل وضوح في البؤرة المركزية للوحته "مدرسة أثينا"، إذ يرسم أفلاطون وأرسطو يسيران جنباً إلى جنب ليعبر الأول عن تمسكه المزدوج بالبعد السماوي لفكره (بيده المرفوعة مشيرة إلى الأعلى، ناهيك بكونه يحمل في يده الأخرى نسخة من محاورته "طيماوس" تلك التي اشتغل عليها أفلوطين بالتحديد في بناء فكره الصوفي) ويعبر الثاني عن فكره الواقعي من خلال يده المنسطة مشيرة إلى اهتمامه بالحياة الدنيا.
مزاوجة بين متناقضين
فكما عند رافائيل إذاً، أوضح أفلوطين في "تاسوعاته" بقوة تلك المزاوجة بين الفكرين المتناقضين، فكر أفلاطون والفكر الرواقي الذي يعبر عنه أرسطو، معتبراً إياهما متكاملين في تناقضهما، معرباً عن تأثره بهما معاً في مجال صياغته فكره الإلهي – الحلولي – الصوفي كطريق ثالثة. وهنا لا بد أن نشير إلى أن أفلوطين لم يتأثر بالإغريقيين الكبيرين هذين فقط، بل كذلك بالفيثاغورية والأورفية، ما جعل فكره، حتى من دون أن يتأثر بالفنون الفكرية الشرقية، مرحباً به في الفلسفات المشرقية اللاحقة عليه، ولكن بعد هذا كله لا بد من أن نعود هنا إلى المؤلف الرئيس الذي ارتبط به نتاج أفلوطين الفكري، أي "التاسوعات". فما هو هذا الكتاب؟ وما معنى عنوانه؟ وكيف تراه يعبر عن فكر صاحبه؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصعيد حتى السمو الروحي
"التاسوعات" هي في الأصل 54 مقالاً كتبها أفلوطين خلال حياته، لكنه لم يجمعها بنفسه، كما أشرنا أعلاه، بل جمعها تلميذه فرفوريوس بعد موته في ست مجموعات تتألف كل واحدة منها من تسع مقالات، ما يبرر الاسم الذي سوف تعرف به مذاك وصاعداً أي "التاسوعات". وتفيدنا سيرة أفلوطين أنه صاغ المجموعة الأولى (21 مقالاً) بين عامي 255 و263، وأملاها على بعض تلاميذه قبل أن يتعرف على فرفوريوس، ثم صاغ المجموعة الثانية (25 مقالاً) بين 263 و268، خلال اتصاله بفرفوريوس، فيما صاغ المقالات الأخيرة (وعددها 6) بعد ذلك الاتصال. ولئن كان فرفوريوس قد أخلص في جمعه ونقله لمؤلفات أستاذه هذه، فإنه أحدث الكثير من الخلط في ترتيبها وتصنيفها تبعاً لتاريخ كتابتها، ما فاقم من تصعيب قراءتها لاحقاً، وبخاصة انطلاقاً من البعد الموضوعي – بحسب الموضوعات – الذي قسم به المقالات إلى ستة أقسام وزّعها على المواضيع المختلفة، وبخاصة على المواضيع الثلاثة المركزية: النفس والعقل والواحد الذي هو الخير المحض كما سيوصف في الترجمات والتفسيرات العربية لاحقاً. ولنُضف هنا أن التاسوعات تتوالى على الترتيب التالي: في التاسوعية الأولى ركز أفلوطين – ولكن بحسب التوزيع الذي ارتآه تلميذه – على الأمور المتعلقة بالإنسان والأخلاق، بينما ركز في التاسوعيتين الثانية والثالثة على المحسوس والعناية الإلهية كتعريف عام، لينصرف في التاسوعات الثلاث المتبقية إلى الجزء الأهم من أفكاره في تصاعد مدهش من النفس إلى العقل إلى الخير والواحد.
سمو الروح بحسب هيغل
ولنُضف هنا إلى أن فرفوريوس عرف كيف ينقل في التقسيم الكرونولوجي الذي اتبعه، نوعاً من تصعيد منطقي لنظرية معلمه التي كانت ترتكز إلى حد بعيد على مفهوم "وحدة الوجود" الذي يقوم على التعبير عن سمو الروح فكرياً، ولكن منهجياً أيضاً. ومن هنا لن يكون غريباً أن يرى هيغل لاحقاً أن "السمة الأهم والأكثر تميزاً لدى أفلوطين هي تحمسه السامي والخالص سمو الروح نحو ما هو خير وحق، نحو المطلق، هو الذي تقودنا فلسفته كلها نحو الفضيلة ونحو المعاينة العقلية للأبدية". ونشير أخيراً إلى أن أفلوطين (ربما 202 – وحتى 266 أو 267م.) وُلد في مصر، وعاش فيها في حمى مدرسة الإسكندرية، الأعوام الأربعين الأولى من حياته، ليرافق بعد ذلك حملة الإمبراطور الروماني غورديانوس على فارس لمجرد رغبته في الاطلاع على الفلسفات الآسيوية. وهو توجه من هناك إلى روما، حيث عاش في حمى الإمبراطور والأعيان، وأضحى ابناً مُدللاً للإمبراطورية في زمان كان يبدو فيها فيلسوفاً أوحدَ مسموعَ الكلمة حتى قبل حلول المسيحية التي سيتأثر بعدها الرومان بأفكاره، بادئين بـ"التخلي" عن أفلوطين، فانتقل هذا إلى العرب.