Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أطلانتيس" قارة اخترعها أفلاطون وأعاد جذورها إلى مصر الفرعونية

العالم الضائع بين محاورتي "تيمايوس" و"كريتياس" وطوفان ما قبل التاريخ

لوحة متخيلة تمثل دولة الأطلانتيس (الموسوعة البريطانية)

في البدء، هناك ذلك الطوفان الذي تروي الكتب المقدسة كيف أنه أحل الخراب على الأرض، وكاد يفني البشرية وكل مخلوقاتها، لولا أن العناية الإلهية أمرت النبي نوح ببناء ذلك الفلك الذي جمع فيه إلى أهله وذويه، أزواجاً من كل أنواع المخلوقات للبدء لاحقاً ببناء العالم الجديد، ولكن هناك أيضاً، وعلى الأقل كما يروي لنا عالم تاريخ الأديان ميرشيا إيلياد في كتابه العمدة "تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية"، تلك الحضارات القديمة التي تعد بالمئات، ولدى كل منها أسطورة تتحدث عن طوفان اختفت على أثره جزر ومناطق من عالمها في القارات كافةً، وقد ابتلعتها مياهه. والحال أن هذا الإلحاح على حدث على مثل هذه الضخامة والمكانة في تاريخ مجموعات بشرية موزعة على شتى القارات، ولا تاريخ مشتركاً بينها، يضعنا أمام صدقية لا يمارى فيها تتجلى في الحكاية التوراتية نفسها. ومن هنا لا شك أن الفيلسوف الإغريقي المؤسس أفلاطون الأثيني، لم يكن ينطلق من فراغ وهو يجعل لحكاية الأطلانتيس تلك المكانة التي شغلتها في ما لا يقل عن حوارين من حواراته البديعة ترويان على ألسنة شخصيات، وغالباً في حضور سقراط بطل عديد من تلك الحوارات، وسيقول الباحثون لاحقاً إن أفلاطون إنما أوردها لدوافع وعظية من دون أن يكون هدفه التأكيد على حقيقة وجودها.

عندما أنكر أرسطو الحكاية كلها

والحقيقة أن تلميذ أفلاطون، أرسطو سيكون أول من ينكر وجود ذلك العالم الذي "اخترعه" أستاذه مستنداً إلى تفكير عقلاني همّه نفي الأبعاد الأسطورية عن التاريخ الشفهي. ونعرف أنه منذ أكد أرسطو "أسطورية" الحكاية الأفلاطونية، ساد انقسام كما سادت فوضى في عالم الدراسات الهيلينية من حول الأطلانتيس، وذلك قبل أزمنة طويلة من التقاط الآداب والفنون للحكاية وتحويلها إلى مادة بالغة التنوع إذا أضفناها إلى المرويات الأكثر تاريخية وعلمية نصبح في حضرة ما يزيد على أربعة آلاف كتاب ورسم ورواية ودراسة، وصولاً في الأزمنة الأقرب إلينا إلى الأفلام وألعاب الفيديو وكتب الشرائط المصورة، ناهيك بالأعمال الموسيقية والأغاني إلى آخر لائحة تطول، بحيث لا تتسع لها هذه السطور، من أعمال كان همّها، وربما دائماً لأسباب ترويجية، اعتبار الحكاية حقيقة لا مراء فيها من قبل أصحاب مصلحة يرى جان بيار فرنان، أحد كبار علماء الإغريقيات في زمننا هذا، أنهم تجاهلوا دائماً البعد الأخلاقي الذي توخاه أفلاطون من بعث تلك الحكاية، كما سها عن بالهم كم أن صاحب الحوارات الرائعة كان يمزح حين اخترع حكاية الأطلانتيس، راوياً إياها على ألسنة آخرين. وبالتحديد كي يرسم معالم يوتوبية خاصة به. ونعرف أن هذه المعالم سيلتقطها من بعده كل أصحاب ما يسمى عربياً "المدن الفاضلة" ليرسموا صوراً أخّاذة ومثالية لعوالم نعرف أن أفلاطون نفسه كان رائدهم في رسمها، انطلاقاً من اختراعه تلك القارة الغابرة، وذلك في كتابه "الجمهورية" الذي نظر فيه لأول "مدينة فاضلة" في تاريخ الفكر الإنساني.

دولة نموذجية في عمق التاريخ

وتلك "المدينة" التي رسمها أفلاطون على غرار ما يقول إن قارة أطلانتيس كانت عليه أول أمرها حين أقامت دولتها الأولى في تلك الجزيرة التي سوف تعطي اسمها للبحر المحيط بها، المحيط الأطلسي، بعد أن استمدته أول الأمر من جبال الأطلس الواقعة في دولة المغرب الحالية، والتي تضم أعمدة هرقل المطلة على المحيط المذكور، والتي يقول أفلاطون على الأقل في المحاورتين المذكورتين، إن جزيرة أو قارة أو مدينة أو أي شيء آخر يحمل دائماً اسم "أطلانتيس"، تقع غربيّه، تلك "المدينة" كانت قد قامت وعمرت بفعل زواج إله البحر بوزييدون من كليتو ابنة عائلة من السكان المحليين، فكان أن أنجب الزوجان خمسة أزواج من توائم حكموا المكان، وسيروا شؤون سكانه بالعدل والإنصاف، ما جعل الشعب الأطلسي شعباً راقياً ناجحاً مزدهراً، وعلى الأقل حتى استبدّت به لعنة أن يتحول إلى شعب من المحتلين. وهكذا نراه، وبحسب رواية أفلاطون، ينطلق من عالمه البحري المغلق إلى الشرق كقوات احتلال تستولي أول ما تستولي على مناطق في الشمال الأفريقي تمتد بين ما يسمى جبال الأطلس، وصولاً إلى مصر التي سيقيم فيها ذلك الشعب المتحدر من خليط ألوهي – دنيوي مدة طويلة يبني خلالها حضارة متكاملة، ويخيل إليه أنه سيبقى هناك إلى الأبد حتى اليوم الذي يصطدم فيه بالهيلينيين تحت زعامة أثينا.

أثينا المنقذة

لاحقاً، ستنفرد أثينا بالصراع ضد الأطلانتيسيين حتى تهزمهم وتدفعهم إلى تراجع مهين يأخذهم إلى حيث أتوا... أي إلى مدينتهم، ولكن هذه المرة مصحوبين بغضب إله البحر بوزييدون، الذي يحل عليهم لعنته، فتطوف مياه المحيط لتغمرهم وتنهي وجودهم، بحيث لا يبقى منهم سوى الذين كانوا قد آثروا الانصهار في مجتمعات البلدان التي احتلوها. ومن الواضح هنا أن هذه الحكاية، الخرافية في نظر الكثيرين على مدى التاريخ، إنما كانت خرافة أراد مخترعها منها أن توصله إلى عدة أهداف، أولها أن يتحدث عن الحضارة حين تزدهر دون أن تعتدي على ما يجاورها من حضارات، وثانيها عن الحكم العادل والنزيه الذي يقتصر على إدارة شؤون الشعب دون أن يتدخل في شؤون شعوب الآخرين، وثالثاً عن الديمقراطية التي يعتبرها أفلاطون، وحتى تحت هيمنة مستبد عادل، خير أنواع الحكم، بمعنى أن أفلاطون إنما كان يضرب مثلاً من عنده للتأكيد على النموذج العملي لـ"المدينة الفاضلة" كما تخيلها في كتابه "الجمهورية"، وسار من بعده في تخيلها مفكرون وفلاسفة، من أمثال توماس مور وتوماسو كامبانيلا، وحتى الفارابي والمفكرون اليوتوبيون الأكثر حداثة، ولكن بالتحديد الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون الذي لم يتوانَ عن إعطاء كتابه اليوتوبي عنوان فصيحاً "أفلاطونيا" هو بالتحديد "أطلانتيس الجديدة" الذي سيعتبر، وعلى خطى أفلاطون طبعا، انطلاقة الفكر النهضوي الإنساني في مجال استنباط أساليب في الحكم وفي تسيير أمور الشعوب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

البحث عن مكان ملائم

من الواضح أن هذا هو جوهر الموضوع بالنسبة إلى الأساس الفكري، والسياسي بالتالي، الذي بنى عليه أفلاطون حكايته، أما ما عدا ذلك، ولا سيما الجانب الأسطوري، وربما الديني أيضاً من الحكاية برمتها، فإن الفيلسوف الإغريقي يبدو وكأنه استقاه مباشرة من أساطير وصلته خاصة من مصر التي نعرف أن جزءاً كبيراً من الحكاية ولد فيها. ويبقى هنا أن كثراً من الباحثين والمفكرين سوف يشتغلون بدأب وطوال قرون تالية لتحديد المكان الذي "يزعم" أفلاطون أن القارة المختفية قد وجدت فيه، وذلك نقلاً عن الحكيم صولون، في محاورة "كريتياس" أولاً، حيث يعلن سقراط رغبته في معرفة المكان الذي يقول الراهب المصري ساييس إن المدينة المثالية كانت موجودة فيه قبل حروبها مع أثينا. ولقد دلت بحوث العلماء على عدة أماكن كان يمكن لأطلانتيس أن تكون قد وجدت فيها كسيراكوزا، أو جبال الأطلس نفسها، أو حتى مصر، أو مناطق شرق القوقاز، أو حتى فلسطين، وصولاً إلى القارة الأميركية. فكل الأماكن قد تكون ممكنة لقيام تلك المدينة التي حصنها بوزييدون بنفسه وقسم مجتمعها، كما سيفعل أفلاطون في "الجمهورية" إلى ثلاث شرائح، وهم: الكهنة والمحاربون والحرفيون، يحكمون معاً بديمقراطيتهم المبتكرة. ولقد كان لهذا النظام أن يحكم العالم لولا الوهن الذي أصابه وحوله إلى كيان عدواني احتلالي تمكنت قوة أثينا الجبارة من وضع نهاية له.

وصارت الخرافة تاريخاً مقدساً

لقد كانت تلك، على أية حال، الأسس الأولى لقيام الفكر اليوتوبي لدى البشرية حتى ولو كان منبثقاً أصلاً من أسطورة ربما تكون حقيقية تاريخياً تتعلق بذلك الطوفان الذي ستقوم على أساس حقيقة وجوده واحدة من الحكايات التوراتية التي سرعان ما باتت راسخة في الأذهان في أوروبا مع انتشار المسيحية لترتبط بحكاية أطلانتيس فتصبح الحكايتان حكاية واحدة، ويتحول نصّا أفلاطون من درس في السياسة إلى جزء من تاريخ ذهبي يتلقفه المبدعون ناسجين من حوله أعمالاً فكرية وفنية وأدبية ندر أن كان لأسطورة أخرى من أساطير التاريخ قوة انتشار تضاهيها، وربما أيضاً قوة إقناع لو كان أفلاطون حياً بيننا لانقلب على قفاه من الضحك وهو يتأمل حكاية اخترعها ذات يوم، وقد أضحت جزءاً من تاريخ لا يستهان بقداسته!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة