ليس هناك وقت أفضل من المرحلة الراهنة كي يتصدر كتاب عن الرئيس الروسي قائمة مبيعات الكتب في بريطانيا، إذ طالما كان فلاديمير بوتين موضوعاً مثيراً لكثير من المؤلفين والصحافيين الاستقصائيين. وعلى الرغم من صدور كتاب "رجالات بوتين" "Putin’s People" عام 2020، وتعرض كاتبته الصحافية كاثرين بيلتون لسلسلة من الدعاوى القضائية من أفراد الـ "أوليغارشية" الروسية، إلا أن نجمه لم يصعد إلا هذا الأسبوع، إذ بات "الكتاب غير الخيالي الأكثر مبيعاً في المملكة المتحدة" بحسب دار "ويليام كولينز بوكس" للنشر التي طبعت الكتاب، واحتل الأسبوع الماضي المركز السابع في قائمة صحيفة "صنداي تايمز" للمؤلفات الأكثر رواجاً.
لكن كما أسلفنا فإن هذا النجاح لم يأت بسهولة، فخلال السنوات التي استغرقتها الصحافية كاثرين بيلتون للقيام بالبحث اللازم وتأليف كتابها الهائل والمتقن عن المال والسلطة في الكرملين، جرب عدد من الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات تكتيكات مختلفة لتقويض عملها. وبحسب ما أوردت صحيفة "نيويورك تايمز"، أصر أحدهم وهو حليف وثيق لبوتين، كان منزعجاً على ما يبدو من أسئلتها حول أنشطة الرئيس الروسي عندما كان عميلاً للمخابرات الروسية في دريسدن خلال الثمانينيات، أصر بشكل قاطع على أنه لم يتم إثبات أي شائعات تتحدث عن روابط بين الـ "كي جي بي" والمنظمات الإرهابية، وحذرها من "محاولة القيام بذلك".
حدث كل هذا
وبينما حاول مصدر آخر يدافع عن فترة ولاية بوتين كنائب لرئيس بلدية سانت بطرسبرغ، اتباع أسلوب ألطف، فعند سؤاله عن سياسية محلية تدعى مارينا سالي وجدت أدلة على الفساد في خطة أشرف عليها بوتين أوائل التسعينيات وكانت تحمل اسم "النفظ مقابل الغذاء"، لم يكلف نفسه عناء إنكار النتائج التي توصلت إليها، فقد رفض ببساطة الاعتراف بأن النتائج التي توصلت إليها مهمة أساساً، وقال بعجرفة "حدث كل هذا لكنها كانت عمليات تداول عادية تماماً. كيف تفسرين ذلك لامرأة تمر بمرحلة اليأس مثلها؟".
تقول بيلتون إن الكرملين كان يتبع هذه الاستراتيجية المزدوجة في سعيه وراء مصالحه في داخل روسيا وخارجها، نشر التهديدات والمعلومات المضللة والعنف لمنع الأسرار المدمرة من التسرب، أو اللجوء إلى السخرية الهادئة التي تستخف بكل شيء على اعتبار ألا قيمة له بكل الأحوال.
لكن بيلتون الشجاعة لم تسمح لأي النهجين بإخافتها أو ردعها عن التحدث إلى شخصيات ذات اهتمامات متباينة من جميع الأطراف، والبحث عن الوثائق وتتبع حركة الأموال، فكانت النتيجة صورة تم تجميعها بإتقان لدائرة بوتين، وظهور ما تسميه المؤلفة "رأسمالية الـ (كي جي بي)"، وهي شكل من أشكال التراكم الذي لا يرحم للثروة، مصمم لخدمة مصالح الدولة الروسية التي تقول بيلتون إن "مساعيها لا تعرف الشفقة".
شخصية مبهمة
بيلتون مؤلفة هذا الكتاب الذي نال استحسان النقاد، والتي تعمل حالياً مراسلة استقصائية لمصلحة وكالة "رويترز" للأنباء، كانت مراسلة سابقة لصحيفة "فاينانشال تايمز" في موسكو، وقد رفعت ضدها سلسلة دعاوى قضائية من أفراد في الـ "أوليغارشية" الروسية، من بينهم رومان أبراموفيتش مالك نادي تشيلسي الإنجليزي لكرة القدم، وقد صدرت في حق أفراد هذه الفئة عقوبات من الحكومة البريطانية بسبب صلاتهم مع الكرملين عقب حرب روسيا الأخيرة لأوكرانيا.
وعلى الرغم من محورية بوتين في السرد، إلا أنه يظهر في الغالب كشخصية مبهمة، إذ إنه ليس مبدعاً أو يتمتع بكاريزما بشكل خاص، لكنه يمتلك قدرة حاذقة على جعل الناس يرون انعكاس توقعاتهم فيه، مثلما كان أيام عمله عميلاً سابقاً في "كي جي بي"، لكن الأشخاص الذين سهلوا صعود بوتين لم يفعلوا ذلك لأسباب مثالية بشكل خاص.
يتناول الكتاب كيفية صعود فلاديمير بوتين وهذه المجموعة الصغيرة من رجال المخابرات الروسية المحيطة به إلى السلطة ونهبهم بلادهم، وكان بوريس يلتسين المريض والـ "أوليغارشية" الذين ازدهروا في الفوضى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يبحثون عن شخص يحافظ على ثروتهم ويحميهم من تهم الفساد، فقدم بوتين نفسه كشخص يحترم الصفقة، لكنه استبدل لاحقاً أي لاعب من عهد يلتسين تجرأ على تحدي قبضته المشددة على السلطة، بأشخاص موالين يمكنه وصفهم بأنهم أزلامه الذين دمروا بدورهم الاقتصاد والنظام القانوني في روسيا، ووسعوا نطاق وصول الكرملين إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
انهيار وصعود
بدأت القصة مع انهيار الاتحاد السوفياتي عندما تمكنت شبكات العملاء من سحب مليارات الدولارات من مؤسسات الدولة ونقل غنائمها إلى الغرب، وبعد ذلك أكمل بوتين وحلفاؤه الأجندة، مؤكدين القوة الروسية مع السيطرة على الاقتصاد لأنفسهم وقمع الأصوات المستقلة وإطلاق عمليات التأثير السري في الخارج.
كما أن كتاب "رجالات بوتين" يروي قصة عدد من الشخصيات التي اصطدمت في النهاية بنظام الرئيس، إذ تم تجريد أباطرة الإعلام مثل بوريس بيريزوفسكي وفلاديمير جوسينسكي من إمبراطورياتهما وفرّا من البلاد، لكن بيلتون تقول إن نقطة التحول الحقيقية كانت المحاكمة التي أجريت العام 2004 وأدت إلى نفي ميخائيل خودوركوفسكي الذي كان أغنى رجل في روسيا ذات مرة، ويمتلك حصة مهمة في شركة "يوكوس" المنتجة للنفط، إلى معسكر اعتقال في سيبيريا لمدة 10 سنوات، ومنذ ذلك الحين ترأس بوتين البلاد ومواردها مثل القيصر، بحسب تعبير المؤلفة، مدعوماً ببطانة من الـ "أوليغارشية" الودودين وعملاء المخابرات، وتحول النظام القانوني الروسي إلى سلاح وورقة توت.
كما سمح بوتين لبطانته، بل وشجعها، على جمع ثروات شخصية هائلة، لكن كان يتوقع منهم أيضاً ضخ بعض الأموال من مشاريعهم في صندوق جماعي كانت أمواله الوافرة مفيدة في إبراز روسيا بصورة قوية على المسرح العالمي، وكان تعريف الكرملين الراسخ للسلطة متشنجاً وعلى حساب مصلحة الآخر، إذ تم استغلال الموارد لتقويض البلدان الأخرى بكلفة رخيصة نسبياً من خلال تمويل متصيدي الإنترنت والتدخل في الانتخابات والحركات المتطرفة.
كان ذلك نهجاً قديماً لـ "كي جي بي" تم تكييفه مع العصر الجديد، بينما كان بوتين يسعى إلى تحقيق أجندة قومية احتضنت الماضي الإمبراطوري للبلاد الذي كان قبل الثورة، حتى إن رجال بوتين تمكنوا من الوصول إلى طريقة لتحويل المحكمة العليا في لندن إلى أداة تخدم مصالحهم الخاصة، وتجميد أصول الـ "أوليغارشية" المنافسة لهم، بينما كان المحامون البريطانيون يتقاضون أجوراً باهظة من كلا الجانبين.
تجادل بيلتون بأن "الغرب وبقدر ما كان هدفاً للإجراءات الفعالة للكرملين، فقد كان أيضاً راضياً بها بل وحتى متواطئاً، واتخذ التراخي شكل إيمان فاضح بقوة العولمة والديمقراطية الليبرالية، وهو إيمان ثابت أنه بمجرد انفتاح روسيا على رأس المال الدولي والأفكار الدولية، فإنها لن تنظر إلى الوراء أبداً".
لكن كانت هناك دوافع مرتزقة كثيرة أخرى تلعب دوراً أيضاً، وأدركت المصالح التجارية الغربية مقدار الأرباح التي يمكن جنيها من شركات النفط الروسية العملاقة والمبالغ الضخمة من الأموال المتدفقة، وحتى عندما كان بوتين هو المستفيد من مثل هذه الترتيبات كان يحتقرها، فقد أكدت قدرته على استخدام الشركات الغربية لمصلحة روسيا وجهة نظره الراسخة "بأنه يمكن شراء أي شخص في الغرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما دور ترمب؟
يختتم كتاب "رجالات بوتين" بفصل عن دونالد ترمب، وما تسميه بيلتون "شبكة عملاء المخابرات الروسية وكبار رجال الأعمال وشركاء الجريمة المنظمة" التي أحاطت به منذ أوائل التسعينيات، وحقيقة أن ترمب كان غارقاً في الديون في كثير من الأحيان، أتاحت الفرصة لأولئك الأشخاص الذين يمتلكون السيولة التي يحتاجها بشدة، وتوثق بيلتون كيف استخدمت الشبكة المذكورة صفقات عقارية على مستويات رفيعة لغسل الأموال بينما تتهرب من اللوائح المصرفية التي باتت أكثر صرامة بعد 11 سبتمبر (أيلول).
تتعامل الكاتبة بحيادية مع ما إذا كان ترمب شريكاً ذكياً على دراية بأنه يتم استغلاله بطرق معينة، وعلى الرغم من أن الرئيس قد لا يستشف كثيراً من تلك الأفعال ويتجاهل حتى التقارير الاستخباراتية حول مدفوعات المكافآت الروسية لمقاتلي "طالبان"، فمن المفترض أن هناك عدداً لا بأس به من الأشخاص في البيت الأبيض وحزبه الذين يفعلون ذلك.
على كل حال، عند قراءة هذا الكتاب لا يمكنكم إلا التساؤل عما إذا كانت السخرية قد تغلغلت بعمق في الطبقات السياسية الأنجلو-أميركية، لدرجة أن المعلومات التي يوثقها العمل، بما فيها تلك التي تجرم أشخاصاً بعينهم، لن تحدث فرقاً من الناحية العملية.
أخبر شخص على معرفة بأصحاب المليارات في روسيا المؤلفة بيلتون أنه بمجرد حدوث التآكل فإن عكسه صعب للغاية، "دائماً ما يقدمون ثلاث أو أربع روايات مختلفة، وبعد ذلك تضيع القصة في الضوضاء".
وعلى الرغم من تعرض الكتاب لسيل غير مسبوق من الدعاوى القضائية العام الماضي، إلا أن دار النشر أكدت حرصها على إبقاء "رجالات بوتين" على رفوف المكتبات لترتفع مبيعاته مجدداً مع غزو أوكرانيا الذي زاد الاهتمام لدى العامة بالرئيس الروسي.
يذكر أن دار النشر توصلت أخيراً إلى تسوية بالتراضي للخلاف بينها وبين رومان أبراموفيتش في ديسمبر (كانون الأول) 2021، ووافقت على تعديل بعض المقاطع عنه في الطبعات المستقبلية من الكتاب، ولا سيما تلك التي تتناول دور الكرملين في استحواذه على نادي تشيلسي عام 2003، وكانت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني قد اسمتعت إلى كاثرين بيلتون يوم الثلاثاء في شأن الإجراءات القانونية التي بدأها أفراد الـ "أوليغارشية" ضدها.