Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بورتريه ليو العاشر" لرافائيل... اللوحة التي مثلت الحبر الأعظم في العرس

تبديلات جذرية تحولها من عمل فردي إلى تعبير عائلي وسياسي

"ليو العاشر وقريباه" لرافائيل (غيتي)

في التراتبية المعتادة لكبار رسامي عصر النهضة الإيطالية، يحتل ليوناردو دافنشي المكانة الأولى، فيما تعطى المكانة الثانية غالباً لميكائيل آنجلو، بينما لا يحل رافائيل إلا في المكانة الثالثة، التي قد يشاركه فيها أحياناً تيتسيانو. أو هذا ما تأخذ به المخيلة الشعبية أحياناً، ونقول هذا لأن كثراً من النخبويين يفضلون إعطاء المكانة الأولى لرافائيل، وربما تحديداً انطلاقاً من جداريته الكبيرة "مدرسة أثينا"، ولكن قد يكون ذلك أيضاً انطلاقاً من كونه الأعظم بين الذين رسموا البورتريهات في تلك العصور، ومنها بشكل خاص "بورتريه بالداسار كاستليوني" الذي يعد النموذج الأكثر نبلاً ودلالة على هذا الفن. لكننا نعرف أن رافائيل رسم بورتريهات كثيرة إلى جانب ذاك. ولعل البورتريه اللافت أكثر من غيره هو ذلك الذي يمثل البابا ليو العاشر، وأنجزه الفنان في عام 1517، ولغاية قد تبدو لنا غاية في الطرافة هنا. ولكن السؤال يبقى: هل تراه أنجزه في ذلك العام حقاً بالشكل الذي يمكننا أن نتأمله اليوم، حيث يشغل مكانة مميزة بين معروضات "غاليريا بالارينا" في قصر بيتي بمدينة فلورنسا؟

بين البداية والنهاية

على الإطلاق تقول لنا أحدث البحوث التي أجريت خلال العقود الأخيرة لمناسبة الترميم الذي خُصت به هذه اللوحة. وهي تميل إلى التأكيد بأن ثمة تغييراً جذرياً قد طرأ عليها بعد أن أنجز رافائيل صياغتها الأولى في العام الذي ذكرناه، وبالتحديد هنا بعدما تم استخدام اللوحة للغاية التي رسمت من أجلها. وما تلك الغاية سوى استخدام اللوحة لتمثل البابا كضيف شرف في عرس ابن أخيه الذي أقيم في فلورنسا في ذلك الحين، وكان من المرجو أن يشارك فيه البابا آتيا من روما، لكن ذلك الحضور بدا مستحيلاً، لذلك اأجزت اللوحة على شيء من العجل وأرسلت إلى فلورنسا، حيث وضعت على الكرسي الذي كان مخصصاً أصلاً لليو العاشر فـ"حضر" الحبر الأعظم هذا، عرس ابن الأخ لورنزو دوق اوربينو على مادلين ديلا تور دوفرني، وتمت الأمور على خير. ولكن يبدو أن كل الجهد الذي بذل من أجل إنجاز اللوحة على ذلك الشكل كان مؤقتاً.

ومن هنا لا بد من القول إن هذا البورتريه الثلاثي كان في الأصل يمثل البابا جالساً وحده على خلفية نوع من جدار خيمة خضراء اللون، وليس برفقته سوى مكتبه الفخم وتلك الأكسسوارات الرائعة التي تنم عن ثقافته كما عن ذوقه الفني الرفيع هو الذي عرف برعايته للفنون في زمنه.

سؤال الكيف وسؤال الـ "لماذا"

إذا كانت الأمور في البداية على هذا النحو لا بد من التساؤل: كيف إذاً، ولماذا تحول البورتريه إلى ثلاثي؟، علماً بأن الشخصين الذين أضيفا إليه كانا أيضاً من أفراد عائلة البابا نفسها، آل مديتشي، بل كان كل منهما كاردينالاً حين أنجزت اللوحة بصيغتها الراهنة، علماً بأن أحدهما وهو جوليو دي مديتشي سيصبح لاحقاً حبراً أعظم بدوره تحت اسم كليمان السابع، بينما الآخر هو لويجي دي روسي ابن كاترينا دي مديتشي، ما يعني أنهما ابن أخ البابا ليو وابن أخته، وأننا هنا في نهاية الأمر أمام لوحة عائلية ناهيك عن كونها لوحة سياسية، ومن هنا انطلاقاً من هذا ستعود اللوحة وترسل بعدما أضيف إليها القريبان هذان من طريق رافائيل نفسه، أو ربما كما يرجح عدد من الباحثين، على يد عاملين مع الرسام الكبير في محترفه، إلى فلورنسا، حيث ستبقى هناك حتى اليوم بدلاً من أن يتم الاحتفاظ بها في الفاتيكان كما جرت العادة بالنسبة إلى البورتريهات الباباوية، كما كانت حال البورتريه الآخر الذي يقارب الباحثون بينه وبين هذا البورتريه بالنسبة إلى إنجازات رافائيل، أي بورتريه "البابا جوليوس الثاني" الذي بعدما بقي معلقاً في الفاتيكان زمناً قبل أن يهديه ذلك البابا بنفسه إلى كاتدرائية سانتا ماريا ديل بوبولو، ليبقى هناك زمناً طويلاً، ها هو معلق اليوم في ناشنال غاليري اللندني معتبراً واحداً من مفاخره. ولنعد هنا إلى بورتريه ليو العاشر، وتحديداً لأنه يشغل مكانة متقدمة في اإجازات رافائيل في هذا المجال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تأمل باباوي

فإذا كان الفنان قد تمكن في بورتريه جوليوس الثاني من التعبير عن لحظة الانهزام الأخير لهذا البابا بعد زمن عرف فيه بجبروته وقسوته، ها هو اليوم يعيش نوعاً من الإذعان أمام ربقة العمر والإحساس بالنهاية، ها نحن نجد رافائيل، بعد سنوات قليلة من وصول خليفته البابا الجديد من آل دي مديتشي، يصور هذا الأخير بهدوء ملامحه وثقافته الفلورنسية العريقة، جالساً سعيداً أمام تلك النسخة الفاخرة والمصورة من الكتاب المقدس، وبين يديه مكبر يشي بانشغاله بقراءة صفحات الكتاب وتأمل دقة رسومه وروعتها، ويشي كذلك بأن ذلك التأمل إنما هو النشاط الذي يفضل أن يسم صورته التي ستبقى خالدة من بعده. بل هو نشاط قد لا يكون بد من القول إنه يتنافى تماماً مع ما صارت إليه اللوحة، إذ أضيف إليها القريبان المسؤولان بدورهما عن السياسات الفاتيكانية. ما يذكّر هنا أن ثمة إلى جانب القراءة والتأمل واجبات أخرى لا بد من القيام بها. وفي يقيننا أن ذلك التذكير لا يشكل "التناقض" الوحيد في هذه اللوحة.

طغيان غريب للون الأحمر

الحال أن إضافة الكاردينالين الشابين أغرق اللوحة كلها في لون أحمر بفعل أن ذلك هو اللون الرسمي لثيابهما، ولو كان بدرجات لونية، مختلفة عن بعضها بعضاً، بات من الطغيان بشكل لا يمكن أن يكون رافائيلياً حقيقياً، التي تظهر كما يبدو من خلال التناغم بين الجزء الأعلى، المخملي الأحمر، من رداء البابا والخلفية التي كانت خضراء، في تناسق مع غطاء المكتب الأحمر بدوره، تناسقاً كان من شأنه أن يبرز بشكل أفضل التناسب بين الجرس الفخم الموضوع على المكتب ليستخدمه البابا حين يريد أن ينادي أحداً، وأُكرة المقعد التي تعكس ضوءاً آتياً من نافذة ما تبرر مكانة الضوء القوي في مقدمة اللوحة، لكن تشكل كتلة النور عليها يكاد يشبه الشعار الذي تحمله كل ممتلكات آل مديتشي.

وفي هذا السياق يرى عدد من الباحثين أن التغيير الجذري الذي طرأ على اللوحة، بما في ذلك إبدال الخلفية التي كانت تمثل خيمة ما باللون الأخضر، بهندسة نهضوية تعميمية، أسهم في محو الطابع شديد الفردية للوحة، بل حتى لمكانة البابا فيها، بنوع من التركيز على المكانة العامة للبابا.

هل هناك مكان للسياسة؟

وإلى هذا كله يبقى أن نلاحظ في هذا البورتريه وقد أضحى ثلاثياً، كيف أن نظرات كل من الأشخاص الثلاثة الماثلين فيه تتناقض جذرياً بين بعضها بعضاً. ففيما ينظر البابا نفسه في اتجاه هلامي غير واضح يحمل من التأمل ما يعيد النظرة إلى داخل صاحبها، ينظر الكارينال دي مديتشي إلى الناظر إلى اللوحة فيما يقبض بيديه على الكرسي وكأنه يعد بامتلاكه يوماً. أما الكارينال روسي، الواقف إلى يمين البابا فينظر مباشرة إلى هذا الأخير نظرة تعبر عن حيرة وقلق من ينتظر جواباً عن سؤال ما، ويقيناً أن هذا كله يجعل من اللوحة في شكلها الحالي لوحة ذات بعد سياسي قد لا يكون واضحاً، لكن الإيحاءات التي تفصح عنه كثيرة، بل قد تكون متناقضة في معانيها.

الموت في شرخ الشباب والعطاء

ويبقى أخيراً أن نذكّر أن رافائيلو دي سانتي ابن الرسام جوفاني ولد في أوربينو عام 1483 ليتيتم في عام 1494، ويعيش منذ سن الحادية عشرة في كنف عم له ويلتحق كرسام متمرن في محترف الرسام الذي عرف باسم بيروجينو. وقد كان في السابعة عشرة حين نال لقب ماجستير لإبداعه المبكر. وما إن حل عام 1504 وبلغ العشرين حتى انتقل رافائيل إلى فلورنسا التي ستضحي مكان إقامته ونشاطه الفني، منطلقاً في رسم الجداريات واللوحات الدينية لكاتدرائياتها وقصور حكامها وأعيانها، حتى وإن كان سينتقل لحقب تتفاوت طولاً، إلى روما وقد راحت شهرته ومكانته تكبران ويعهد إليه بأعمال تزداد ضخامة وأهمية عاماً بعد عام، ليصبح أحد كبار الرسامين النهضويين بأعمال لا تزال شامخة حتى اليوم، حتى وإن كان لن يعيش سوى 37 سنةً، ما يجعله الأقصر عمرا بين كبار النهضويين، إذ رحل بحمى أصابته في عام 1520.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة