Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزياء السجناء... وصم مقصود وتأديب بالتمييز

اللبس الموحد يدفع المذنبين لعدم التخطيط طويل المدى ويمنحهم شعوراً بأنهم مسلوبو الإرادة والتعبير

أزياء السجن الموحدة تدفع السجناء إلى الإحساس بالتمييز السلبي والعار (أ ف ب)

في البدء كان الخلق، ثم التكاثر، ثم السجن. في عصور ما قبل التاريخ لم يكن البشر ملائكة، ومع أي تجمع بشري، تنشأ عادات وأعراف، في الوقت نفسه الذي تتولد فيه محاولات لخرق العادات وكسر الأعراف. وعلى الرغم من شح توثيق سُبل عقاب الخارجين عن الأعراف في عصور ما قبل التاريخ، فإن المرجح أن مبدأ "العين بالعين" كان سائداً كشكل من أشكال العقاب.

تنظيم للمخطئين

لكن يبدو أن أشكال العقاب المتطورة مع أشكال حياة البشر تتفق على أن المخطئ تسلب حريته، سواء مؤقتاً لحين إنهاء حياته أو لحين إشعار آخر. أقدم سجلات تاريخية تشير إلى أن ولادة الحضارات القديمة شملت ضمن ما شملت من مظاهر تنظيم الحياة تنظيماً للمخطئين. في بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة توجد وثائق تشير إلى أن "المخطئين" كانوا يودعون في أبراج محصنة، لكن كمرحلة انتقالية لحين قتلهم عقاباً لهم على ما اقترفوا.

لكن، إنهاء حياة المخطئ كان يعني إهدار فرص، لذلك تشير سجلات التاريخ أن شكلاً آخر من أشكال العقوبة نشأ في تلك الآونة ألا وهو سلب الحرية والانتفاع بالعمل دون حقوق. وجانب من عقوبة المخطئين في العصور القديمة كانت العبودية.

الرومان مالوا إلى قسوة الأساليب في عقوبة المخطئين، حيث الحبس في دهاليز تحت الأرض، وتقييد بسلاسل حديدية مدى الحياة أو بعض الوقت، مع كثير أو قليل من التعذيب الجسدي. كما استخدموا لعروض المصارعة الدموية "الترفيهية" أو للقتال بعد فترة تدريب.

سجون تصحيحية

وفي المقابل، فإن الإغريق قدموا شكلاً مختلفاً للسجون التصحيحية، إذ كان يجري احتجاز المخطئين في مبان رديئة البناء، ويتم الحد من حركتهم بربطهم بكتل خشبية. وكان يسمح لذويهم بزيارتهم في أوقات محددة.

وعلى الرغم من قلة المعلومات المتاحة عن السجون في مصر القديمة، فإن المؤكد أن شكلاً من أشكال العقوبة بالحبس كان موجوداً. مدير متحف الآثار في مكتبة الإسكندرية، حسين عبد البصير، يقول في كتابات عدة إن الوثائق والمعلومات المؤكدة عن العدالة في مصر الفرعونية ترجح وجود أماكن يجري فصل المذنب فيها عن المجتمع تحقيقاً للعدالة، وأن هذا الفصل كان يعني تقييداً لحريته، وإخضاعه للتأديب بغرض تأهيله للعودة إلى المجتمع.

ويشير عبد البصير إلى أن كلمة "سجن" وردت في اللغات المصرية القديمة، إذ "إيتح" و"خنرت". كما وردت كلمة "خنري" أي سجين. ويضيف أن عصر الدولة الوسطى شهد سجوناً في مصر الفرعونية، لا سيما للخارجين على القانون من غير المصريين. وكان سجن "اللاهون" في الفيوم أحد أشهر هذه السجون، وعثر فيه على أسماء لسجناء.

التمييز بالإبعاد

فصل المخطئ يعني تمييزه بالإبعاد. لكن تمييزاً من نوع آخر جرى التخطيط له، وسنّه وفرضه حتى أصبح تقليداً في الغالبية المطلقة من سجون العالم في العصر الحديث. العصر الحديث عامر بـ "الأزياء الموحدة". الطلاب والأطباء وضباط وجنود الجيش والشرطة والنادلون والرياضيون وعمال محطات الوقود وكذلك السجناء.

وإذا كان الغرض من الزي الموحد هو إظهار انتماء فئة ما إلى كيان بعينه، فإن الزي الموحد في السجن يهدف إلى إظهار انتماء فئة المسجونين إلى السجن، مع إضافات "بسيطة" تشمل تحذير المواطنين منهم، وسرعة العثور عليهم في حال هربهم، ناهيك بمسحة إذلال، وفي قول آخر العلاج بالعار.

عصابة القناع الأسود

"عار" زي السجن واضح وصريح ودوره مباشر وثاقب. أول ما يقوم به السجين الهارب هو التخلص من ملابس السجن وارتداء غيرها. أغلب الظن أنه يفعل ذلك لتأمين نفسه أولاً قبل أن تكون إزاحة للعار والذل، وذلك حسب فقه الأولويات.

العصر الفيكتوري في بريطانيا الذي بدأ في عام 1837 رسخ قاعدة زي السجن للمسجونين لفترات طويلة، وهي القاعدة التي انتقلت إلى غالبية سجون العالم بأشكال وألوان وتصميمات مختلفة. لكن تبقى أزياء عصابة "القناع الأسود" أو Beagle Boys الأشهر والأعرق.

مبتكر العصابة الكرتونية الأشهر هو كارل باركس، الذي ابتدع عصابة في عام 1951 لصالح "والت ديزني"، وهي أسرة من المجرمين تتراوح أعدادهم بين ثلاثة وعشرة. وكان أفراد العصابة يرتدون ملابس "العصابة" الشهيرة، وتبدلت تصاميمهم بين خطوط الأبيض والأسود، ثم الأحمر وكذلك الأزرق مع عصابة عينين سوداء، ولذلك أطلق عليهم عربياً اسم "عصابة القناع الأسود". الغريب أن أغلب ألوان أزياء السجون في العالم لم تخرج عن هذه الألوان، باستثناء الأبيض والبرتقالي.

الأسود الجديد

"البرتقالي هو الأسود الجديد" لم يكن مجرد عنوان مسلسل أميركي بالغ الشهرة يحكي قصة حقيقية عن امرأة أميركية دخلت السجن بسبب حملها أموالاً لصالح صديقتها، بل نقل حياة وألوان ورموز زي السجن بين برتقالي "غوانتانامو" في مقابل "الأسود" سيد الألوان، الذي ظل متربعاً على عرش الموضة، إلى أن تغيرت وفرضت ألوان جديدة نفسها على عالم الموضة، وكلما تسيد لون جديد الساحة أُطلق عليه "الأسود الجديد".

اللون الأسود نفسه لم يكن يوماً عنواناً لزي السجون. لكن ألواناً أخرى فرضت نفسها، بعضها كُتِب له لبقاء والبعض الآخر اندثر وبقي حكراً على أفلام كرتون اندثرت هي الأخرى، وصور قديمة في متاحف تؤرخ لتاريخ السجون.

تاريخ السجون الحديث يشير إلى أن اللونين الأبيض والأسود، سواء بخطوط طولية أو عرضية، تسيدا أزياء سجون عدة قبل عقود. "تم إدخال الخطوط الموحدة باللونين الأسود والأبيض التي ترمز إلى قضبان السجن في نظام السجون الأميركية في نيويورك في عشرينيات القرن الـ 19. قبلها كان أغلب السجناء يرتدون ملابسهم الخاصة"، حسبما تقول الباحثة في "إندكس أون سنسورشيب" المعنية بحرية التعبير جان فوكس في مقال لها عن الزي الموحد في السجون.  

خطوط بيضاء وسوداء

أسباب اختيار الخطوط البيضاء والسوداء تخضع لتفسيرات وتأريخات عدة. فبين قائل بأن الخطوط تشبه قضبان السجن، وآخر يشير إلى أن الخطوط العرضية، التي ذاع صيتها في السجون أيضاً في القرن الـ 19 تشير إلى تقاطعها مع قضبان السجن الحديدية، ما يعني استحالة الهروب، وثالث يرجح أن الخطوط هي الأكثر جذباً للانتباه، والأقل استخداماً من قبل الناس العاديين، ما يجعل من يرتدونها في السجون مميزين بالنظر، ومنبوذين في الوقت نفسه.

الألوان الأكثر انتشاراً في سجون العالم حالياً تتراوح بين الأزرق والبيج والأحمر والأبيض مع وجود ألوان أخرى غريبة مثل الزهري والأصفر.

فائدة العار

وتتبنى جان فوكس نظرية مفادها أن أزياء السجن الموحدة بغرض دفع السجناء للإحساس بالتمييز السلبي والعار ربما لا تؤتي ثمارها. فالمطلوب هو مساعدة السجناء على تقوية وتنمية شعورهم بالكرامة والقيمة كحق أساسي من حقوق الإنسان من جهة، ومن أجل تأهيلهم للعودة إلى المجتمع بعد انقضاء فترة العقوبة من جهة أخرى.

وعلى الرغم من شح الأبحاث، التي أجريت في العالم على تأثير أزياء السجن الموحدة على الحالة النفسية للسجناء، فإن أستاذ علم النفس في جامعة "كاليفورنيا ستايت" في أميركا أبراهام راتشيك، أجرى بحثاً في ذلك الشأن وخرج بنتائج مفادها أن زي السجن الموحد يدفع السجناء لعدم التفكير أو التخطيط طويل المدى، بل التركيز في اليوم المعاش فقط، إضافة إلى شعورهم بأنهم مسلوبو الإرادة والتعبير.

راتشيك، الذي يجري عديداً من البحوث عن الملابس وأثرها في مرتديها، وجد كذلك أن الزي الموحد في السجون لا يعني عدم اهتمام السجين بمظهره، بل وجد أن شباب السجناء غالباً يلجأون إلى التميز عبر إدخال تغييرات بسيطة في الملابس تنمي شعورهم بأنهم "مختلفون"، لكن بالمعنى الإيجابي. هناك من يثني البنطلون إلى أعلى قليلاً أو يكشف عن ساعديه أو يرفع ياقة القميص وهكذا.

"الارتجال مقابل تبدد الشخصية" هو ما تصف به جان فوكس فرض زي موحد على السجناء. ترى أن محاولات البعض من السجناء المستمرة لمقاومة عملية تبديد شخصياتهم الممنهجة من قبل نظام السجون وإدارتها وذلك عبر الارتجال والابتكار في حدود الزي الموحد المفروض، ولو كان ذلك عبر تلميع الأحذية بشكل مبالغ فيه مثلاً.

البرتقالي يكتسح

وبين الأزرق والأبيض والبيج وحتى الأحمر، يظل اللون البرتقالي الأعمق أثراً والأكثر رمزاً، وكلمة السر "غوانتانامو" أو "غيتمو" على سبيل الاختصار. بدل السجناء البرتقالية وقصص التعذيب الوحشية، ومنها إلى اقتداء تنظيم "داعش" بالنهج البرتقالي واختيار البدلة نفسها واللون عينه لضحاياهم قبل إزهاق أرواحهم، وكذلك سجناء أشهر السجون في العراق سجن أبو غريب وحكاياته وصوره التي يشيب لها الولدان ويتوب على إثرها السجناء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من أن اللون البرتقالي كان يستخدم في بعض السجون قبل افتتاح غوانتانامو قبل عقدين وتحوله إلى أيقونة اللون البرتقالي دون منافسة، فإن أغلب هذه السجون اختارت الابتعاد عن البرتقالي واستبداله بألوان أخرى، حتى لو كان معناه "سجيناً شديد الخطورة".

شدة خطورة سجناء أو سجاني السجون تتحدث عن نفسها بين المتابعين بالألوان أيضاً. تظاهرات غاضبة عدة نظمها معارضون لسجن غوانتانامو وناقمون على وعود رئاسية أميركية، لا سيما في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، بإغلاقه هيمن فيها اللون البرتقالي، وهو اللون الذي لم يعد في حاجة إلى شرح ما يرمز إليه.

الأصل في رمزية ألوان أزياء السجون، على الأقل المعلنة، تتعلق بموقف السجين القانوني وكذلك درجة تصنيفه على مؤشر الخطورة. في مصر مثلاً، اللون الأبيض للمحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا لم يحكم فيها بعد. أما اللون الأزرق، وهو الأكثر شيوعاً وهو اللون الذي يرتديه أغلب السجناء المحكوم عليهم في شتى أنواع القضايا بسنوات سجن ما عدا الإعدام.

وسر الأزرق يكمن غالباً في قدرته على تحمل البقع والأوساخ! أما الأحمر فهو لون المحكوم عليهم بالإعدام، وينذر تحول زي السجين من الأزرق إلى الأحمر بالنهاية. وهناك اعتقاد راسخ بأن ارتداء الزي الأحمر في السجن يتسبب في شعور عميق بالخوف والكآبة لدى بقية السجناء حتى غير المحكوم عليهم بالإعدام، وذلك لأن البدلة الحمراء تعني دنو الأجل.

سجال قد يستحق

ألوان أزياء السجون لا تمثل نقطة جدال أو سجال، بل على الأرجح لا تمثل نقطة نقاش أو تفكير من الأصل لدى ثقافات وأمم كثيرة. لكنها مثار شد وجذب ومنصة حقوقية ومعركة انتخابية لدى ثقافات وأمم أخرى. بينما جانب من أمم الكوكب غارق في كيفية التضييق على السجناء والتفكير والتخطيط لكيف يكون السجن جهنم الحمراء على الأرض، يتجه البعض الآخر إلى كيفية تحويل تجربة السجن إلى فترة تأهيل ومحاولة تيسير على السجين انتصاراً لإنسانيته وترجيحاً لكفة المجتمع الذي لا يميز أو يتحيز.

في بريطانيا مثلاً، ثارت معركة شد وجذب في عام 2013 بين وزير العدل، كريس غرايلينغ، الذي أراد أن يرتدي كل السجناء الذكور زياً بعينه في الأسبوعين الأولين من فترة العقوبة، وذلك لتحسين سمعة السجون الخاصة والحكومية البريطانية بعد ما اكتسبت صفة "الليونة المبالغ فيها"، وهو ما يتعارض والغرض من السجن الذي هو تأديب وإصلاح.

يشار إلى أن أزياء السجون في بريطانيا تتراوح بين اللون الرمادي في السجون العامة، في حين تسمح السجون التي تُدار من قِبل شركات قطاع خاص للسجناء الذين يثبتون حسن التصرف والسلوك بارتداء ملابسهم العادية.

زي السجن كان جزءاً من الإصلاح والتهذيب وإعادة التأهيل، ولكن عبر التمييز الذي لا يخلو من وصم باللون وتسليط الضوء على عار الذنب. وما زالت الفكرة قائمة في عديد من الدول. لكن دولاً أخرى وثقافات مغايرة اختارت التخفيف من حدة الوصم، أو إلغاءه كلية مع "الطبطبة" على السجين بجعل السجن بيتاً بديلاً موقتاً يرتدي فيه ما يشاء دون مبالغة، وإعلاء راية حق السجين في الملبس والمأكل ومشاهدة الفضائيات وربما الاتصال بالإنترنت حسب نوع الجريمة ومدة العقوبة وأداء السجين خلف الأسوار، حتى ولو كانت الثقافة نفسها تحوي أسواراً مغايرة بحقوق مناقضة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات