Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا تعثرت الديمقراطية في الشرق الأوسط؟

اليأس الاقتصادي وانتصار النموذج الصيني

احتجاجات في القاهرة عام 2011 (رويترز)

 عام 2011، احتشد المواطنون في جميع أنحاء الشرق الأوسط في الشوارع للمطالبة بحكومات أكثر تمثيلاً وبالعدالة الاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية. في مصر وتونس، أطاحت الحركات الاحتجاجية الديكتاتورين اللذين حكما طيلة عقود. وفي أماكن أخرى من المنطقة، أصيبت الأنظمة الاستبدادية بالهلع بطريقة لم تحدث من قبل. استحوذ "الربيع العربي" على الخيال في جميع أنحاء العالم، وتحدى الافتراضات الراسخة حول الثقافة السياسية في المنطقة.

لكن، في غضون بضعة أعوام، تلاشى الأمل في الغالب، بحيث عاد النظام القديم بقوة وبدرجة أكثر قمعاً من ذي قبل في بعض الأماكن. في المقابل، لم تحسم هذه النتيجة المسألة الأساسية المتعلقة بمستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط بعد أن فشلت هناك حركات الاحتجاج والحكومات الديمقراطية الوليدة في إنهاء حقبة طويلة من الحكم الاستبدادي. ومع ذلك، لا يعني هذا الفشل بالضرورة أن الرغبة بالتغيير الديمقراطي تبددت. فحتى حينما أعاد المستبدون تأكيد سيطرتهم في الأعوام التي أعقبت "الربيع العربي" مباشرة، استمر عدد من المحللين في الاعتقاد بأن الثورات أفرزت تطلعات اقتصادية وسياسية جديدة، ما يشير إلى فجر حقبة أكثر شمولاً. ووفقاً لهذا الرأي، فإن قوس التاريخ في الشرق الأوسط كان طويلاً بالفعل، لكنه مع ذلك كان يميل نحو الديمقراطية.

بعد ما يزيد قليلاً على عقد من الزمان على الانتفاضات الأولية، تضاءلت مبررات هذا التفاؤل. لم يقتصر الأمر على قيام السلطويين بتعزيز حكمهم فحسب، بل والأهم من ذلك، تغيّرت المواقف تجاه الديمقراطية والحقوق السياسية بشكل كبير. ففي زمن الثورات، اعتقد معظم المواطنين في جميع أنحاء المنطقة بأن الديمقراطية تشكّل أفضل نظام سياسي، وفقاً لشبكة أبحاث الـ"باروميتر العربي"، حيث نعمل كمحققَين رئيسيَن مشاركيَن. ففي ثمانية من الدول العشر التي شملها استطلاع الـ"باروميتر العربي" في 2010- 2011، أعرب أكثر من 70 في المئة من المشاركين عن هذا الرأي. لكن بحلول 2018-2019، انخفض الدعم لهذا الرأي. ولم يفضل 70 في المئة على الأقل من المشاركين الديمقراطية على جميع الأنظمة الأخرى إلا في سبعة من أصل 12 دولة شملها الاستطلاع.

ولفهم سبب تلاشي حماسة العالم العربي للديمقراطية، من الضروري أن ندرك أن معظم الناس الذين خرجوا إلى الشوارع في 2011 كانوا مدفوعين ليس بمجرّد الرغبة بالحرية، ولكن أيضاً بالإحباط الشديد من الظروف المادية لحياتهم. تردد كثيراً شعار "العيش والحرية والعدالة" في احتجاجات القاهرة خلال الانتفاضة المصرية، وهناك ما يبرر احتلال "العيش" المرتبة الأولى على قائمة المطالب. لقد رأى المصريون والتونسيون أن الاعتبارات الاقتصادية تشكّل السبب الرئيس لثورات "الربيع العربي" في بلادهم، وفقاً لاستطلاعات الـ"باروميتر العربي" التي أجريت في البلدين في 2011.  سئم المتظاهرون القمع السياسي، لكنهم كانوا غاضبين للغاية من الفرص الضئيلة التي توفّرها الأنظمة الاستبدادية، وفشل الاحتضان القصير الأمد للمشاعر والحركات المؤيدة للديمقراطية، في إنتاج حكومات ديمقراطية دائمة، والأهم من ذلك ربما يتمثّل في فشلها أيضاً في إنتاج التغيير الاقتصادي المنشود بشدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

وحاضراً، تعاني المنطقة القضايا ذاتها التي أعاقت تنميتها الاقتصادية عقوداً من الزمن، وعلى رأسها ارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً بين الشباب، وانخفاض معدلات المشاركة في القوى العاملة، خصوصاً بين النساء، ونقص التعليم العالي الجودة وتزايد عدم المساواة وتفشي الفساد. من ناحية أخرى، فاقمت جائحة كورونا الأوضاع لجهة المرض والوفاة، وكذلك من ناحية انهيار أسعار النفط والانخفاض الكبير في السياحة وحدوث تراجع شامل في النشاط الاقتصادي بجميع أنواعه. في هذا الصدد، قدّر "صندوق النقد الدولي" انخفاض معدل النمو السنوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 2020 بـ4.7 في المئة، ورجّح "البنك الدولي" أن الوباء تسبب في انخفاض دخل عشرات الملايين من المواطنين إلى مستويات تحت خط الفقر في البلدان التي تتمتع بالسقف الأعلى ضمن الدخل المتوسط.

مع تضاؤل ​​نفوذ الولايات المتحدة، أصبح النموذج الصيني أكثر جاذبية لعدد من العرب.

بالتالي، ربما تدفع كل هذه الضغوط والمصاعب بعض المراقبين إلى توقّع انفجار آخر للاحتجاجات ودعوات للتغيير. وفي 2019، قبل ظهور الوباء، أُطيح الديكتاتورين القديمين في الجزائر والسودان، وأجبرت الاحتجاجات على تغيير الحكومة في العراق ولبنان. ومع ذلك، دعت الحركات التي تقف وراء هذه التطورات، إلى حد كبير، إلى إدارة اقتصادية أفضل بدلاً من الديمقراطية في حد ذاتها. ويبدو أن شعوب العالم العربي استوعبت درساً واحداً قبل كل شيء من ثورات العقد الماضي، يتمثّل في أن التغيير الديمقراطي لا ينتج بالضرورة تحسناً اقتصادياً. ففي الواقع، يميل الناس اليوم في البلدان الأكثر استبدادية في جميع أنحاء المنطقة إلى النظر لأوضاعهم الاقتصادية بشكل إيجابي أكثر من الناس الذين يعيشون في البلدان التي تميل أكثر نحو الديمقراطية.

في غضون ذلك، تراجعت الولايات المتحدة خلال العقد الممتد منذ "الربيع العربي" من المنطقة بطرق أثارت الشكوك حول التزامها دعم أولئك الذين يعارضون الأنظمة القمعية. وعلى الرغم من أن واشنطن رفضت في 2011 تقديم دعم قوي للديكتاتور المصري حسني مبارك، الحليف التقليدي للولايات المتحدة، إلا أنها رفضت أيضاً مواجهة الانقلاب العسكري في 2013 الذي أطاح الحكومة المنتخبة ديمقراطياً التي تشكلت في النهاية بعد سقوط مبارك. كذلك لم تُرفق الولايات المتحدة بدعم حقيقي إشادتها الخطابية بمعارضة الرئيس السوري المستبد بشار الأسد.

ومع تضاؤل ​​نفوذ الولايات المتحدة وركود الاقتصادات الإقليمية، أصبح النموذج الاقتصادي والتنموي الصيني، وبدرجة أقل النموذج الروسي، أكثر جاذبية لعدد من العرب، لا سيما مقابل أوجه القصور المتصورة للنيوليبرالية الغربية. ويبدو أن النظامين الصيني والروسي، في الأقل بحسب ما يراهما كثيرون في الشرق الأوسط، يتجنّبان الاضطراب السياسي للديمقراطية ويقدمان وعوداً بالاستقرار والنمو الاقتصادي. قد يكون لهذا التحول في المفاهيم تداعيات معقدة وغير بديهية إلى حد ما على مستقبل التدخل الأميركي في الشرق الأوسط. ومن المثير للدهشة أنه في البلدان التي تميل إلى الديمقراطية في الأعوام الأخيرة، يميل الناس إلى رؤية الصين وروسيا كشريكين اقتصاديين أكثر فائدة من الولايات المتحدة، بينما في بعض دول الشرق الأوسط ذات الميول الاستبدادية، يُنظر إلى فكرة تعزيز الروابط الاقتصادية مع الولايات المتحدة على نحو أفضل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل تفيد الديمقراطية؟

للحصول على فكرة أكثر تفصيلاً عن هذه الاتجاهات في الشرق الأوسط، من المفيد النظر إلى مجموعتين من البلدان التي أجرى فيها الـ"باروميتر العربي" استطلاعات منتظمة خلال العقد الماضي. في المجموعة الأولى، هناك ثلاث دول ذات ميول استبدادية هي مصر والمغرب والأردن. اتبعت هذه البلدان الثلاثة مسارات متشابهة منذ "الربيع العربي". في كل واحد منها، لم تتحقق التغييرات الرئيسة التي سعى إليها المتظاهرون في 2011 بشكل كامل، ولا تزال الأنظمة التي حكمت قبل الثورات مستمرة إلى حد ما اليوم، وظل النمو الاقتصادي ضعيفاً نسبياً، ويرجع ذلك جزئياً إلى غياب إصلاحات مهمة.

في مصر، أدت الاحتجاجات الحاشدة في أوائل 2011 إلى سقوط مبارك، تلتها انتخابات انتصر فيها مرشح موالٍ لـ"الإخوان المسلمين". غير أن الانقلاب العسكري في 2013 أوقف التجربة الديمقراطية، وأعاد النظام القديم تأكيد نفسه في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. قلّص السيسي الحقوق السياسية، لكن النمو الاقتصادي زاد بعدما ظل مستقراً في الغالب خلال المرحلة الديمقراطية القصيرة في مصر.

في المغرب، أدت الاحتجاجات المحدودة في عام 2011، والترقب الحذر للأحداث في أماكن أخرى من قبل النظام، إلى إصلاحات دستورية. ولم تغيّر تلك الإصلاحات النظام الملكي بشكل كبير، إذ حافظ الملك محمد السادس على غالبية سلطاته. من الناحية الاقتصادية، انخفض متوسط ​​معدلات النمو تدريجاً خلال العقد الماضي، لكنه تراجع بشكل حاد منذ ظهور الوباء.

في سياق متصل، شهد الأردن احتجاجات متواضعة في 2011، وفيه أيضاً، دعم النظام الملكي إصلاحاً دستورياً محدوداً. في الأعوام التي أعقبت ذلك، أجرى الملك عبدالله الثاني مزيداً من الإصلاحات الدستورية، أولاً في 2016 ومرة ​​أخرى في 2022، وجاء ذلك في جزء كبير منه استجابة للإحباط المتزايد من الركود الاقتصادي والأضرار التي سبّبها فيروس كورونا. لكن النظام الملكي لا يزال مسيطراً بقوة.

أصبح المواطنون في البلدان ذات الميول الديمقراطية يعتقدون أن النظام الديمقراطي يمثّل مشكلة في حد ذاته.

في المجموعة الثانية، هناك ثلاث دول ذات ميول ديمقراطية هي العراق ولبنان وتونس. إنها البلدان الثلاثة التي شملها استطلاع الـ"باروميتر العربي" وحازت الانتخابات فيها أهمية كبيرة. في المقابل، فشلت حكوماتها المنتخبة في معالجة المشكلات الاقتصادية الكبرى. في أعقاب الغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، طوّر العراق نظاماً سياسياً غير ديمقراطي بالكامل، لكنه تميز بتغيّر منتظم للسلطة عبر الانتخابات. اقتصادياً، لم يكُن النمو منتظماً. ويرجع ذلك في الغالب إلى تقلب أسعار النفط، الذي يعتبر السلعة الرئيسة في صادرات العراق. وحتى حينما تكون أسعار النفط مرتفعة، فإن الفساد المستشري يعيق تدفق الثروة إلى عامة الشعب العراقي.

وبالنسبة إلى لبنان، على الرغم من بعده عن الديمقراطية الكاملة، إلا أن نظام حكمه، الذي انبثق من اتفاق الطائف 1989، أتاح المجال أمام تنظيم انتخابات دورية نسبياً تتنافس فيها أحزاب متعددة. وعلى الرغم أيضاً من النظام المعقد لتقاسم المناصب الحكومية العليا بين الطوائف الرئيسة في البلاد، إلا أن الانتخابات مكّنت في العقود الأخيرة من تغيير ميزان القوى السياسية. في المقابل، أدى الفساد المستشري وفشل النخبة السياسية في معالجة التحديات الاقتصادية الطويلة الأمد، إلى أزمة شاملة في أواخر 2019، بلغت ذروتها في تخلّف البلاد عن سداد ديونها عام 2020. ومنذ بدء الأزمة، خسرت الليرة اللبنانية 90 في المئة من قيمتها. وفي هذا الصدد، خلص "البنك الدولي" إلى أن لبنان يعاني من أسوأ ثلاثة انهيارات اقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشر.

من بين جميع البلدان التي شملها استطلاع الـ"باروميتر العربي"، تُعتبر تونس، على الرغم من التحول الاستبدادي الذي شهدته أخيراً، الأقرب إلى الخروج من "الربيع العربي" كديمقراطية كاملة، مع انتخابات منتظمة تتنافس فيها الأحزاب بحرّية على السلطة الفعلية. ومع ذلك، انخفض دخل الفرد هناك في العقد الماضي، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى فشل الحكومات المتعاقبة في معالجة هادفة لتركة المشكلات الاقتصادية الموروثة من النظام السابق.

عند مقارنة هاتين المجموعتين من البلدان، يظهر تناقض صارخ في آراء المواطنين بشأن اقتصاد بلدهم. ففي الدول الثلاث ذات الميول الاستبدادية، يميل الناس إلى تبنّي نظرة اقتصادية أكثر إيجابية، بالمقارنة مع نظرة الناس في الدول الثلاث ذات الميول الديمقراطية. في مصر مثلاً، صنّف 41 في المئة من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع اقتصادهم بأنه جيد أو جيد جداً في فترة 2018-2019. وفي المغرب، شارك 36 في المئة هذا التقييم، وفي الأردن، جاءت النسبة 23 في المئة. وبالمقارنة مع الدول الغنية والمتقدمة، وحتى تلك الموجودة في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، تُعتبر هذه الأرقام منخفضة جداً. ومثلاً، في الكويت، رأى 77 في المئة من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع أن اقتصادهم جيد أو جيد جداً في 2019. في المقابل، جاءت مستويات الرضا العام عن الظروف الاقتصادية في مصر والمغرب والأردن، أعلى بشكل عام مما كانته في العراق (21 في المئة) ولبنان (14 في المئة) وتونس (سبعة في المئة).

تكرر هذا النمط حينما طُلب من المستطلعين تقييم أداء حكومتهم في استحداث الوظائف، إذ اتفق 22 في المئة من المستطلعين في مصر و20 في المئة في المغرب و14 في المئة في الأردن على أن حكومتهم تؤدي عملاً جيداً في ما يتعلق بالتوظيف. مرة أخرى، بالمقارنة مع البلدان الأكثر ثراء، تُعتبر هذه الأرقام منخفضة للغاية، إذ أيّد أكثر من نصف المستطلعين هذا الرأي في الكويت. ومع ذلك، فإن هذه النسب تُعتبر مرتفعة مقارنة بتقييمات استحداث الوظائف في البلدان الثلاثة ذات الميول الديمقراطية، حيث أعطى 17 في المئة من التونسيين و6 في المئة من العراقيين و4 في المئة من اللبنانيين حكوماتهم تقييماً إيجابياً بشأن استحداث الوظائف.

في البلدان ذات الميول الديمقراطية، لا يتذمر المواطنون على أداء قادتهم في القضايا الاقتصادية فحسب، بل أصبح كثيرون منهم يعتقدون بأن النظام الديمقراطي نفسه، في الأقل على غرار حاله في بلدانهم، يجسّد المشكلة. ففي لبنان، وفقاً لمسح أجرته مؤسسة "كونراد أدينهاور" في 2020، اتفق 55 في المئة من المستجوبين مع القول بوجوب إلغاء الانتخابات وإسناد الحكم للخبراء. وفي تونس، اتفق 45 في المئة مع هذا الرأي. (لم يشمل المسح العراق). في البلدان الثلاثة، ترسّخ الشعور باليأس من المستقبل، خصوصاً بين الشباب. ففي استطلاع المؤسسة، ذكر 53 في المئة من اللبنانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة أنهم فكروا في مغادرة بلدهم، وكذلك فعل 47 في المئة من التونسيين المشاركين في تلك المجموعة. وبالمقارنة، فكّرت نسبة أقل في الأردن (36 في المئة) وفي المغرب (31 في المئة) في مغادرة وطنهم.

 

متاعب تونس

من بين البلدان الثلاثة ذات الميول الديمقراطية، تُقدم تونس ربما أبرز مثل حول دور الصعوبات الاقتصادية المستمرة في تغيير موقف الناس من الديمقراطية. خلال العقد الماضي، اعتُبرت البلاد في كثير من الأحيان أكبر أمل للديمقراطية في الشرق الأوسط. ورأى المحللون أنها حازت أفضل أساس للنجاح من بين جميع البلدان في المنطقة، إذ يوجد فيها شعب متجانس عرقياً ومتعلم جيداً نسبياً وطبقة وسطى كبيرة نسبياً وجيش غير مسيّس بشكل عام. ففي انتخابات الجمعية التأسيسية التي أعقبت الثورة، فاز حزب "النهضة"، وهو حزب إسلامي معتدل بغالبية المقاعد، وحكم تونس في ائتلاف مع حزبين آخرين. وبعد نشوب أزمة في 2013 بسبب اغتيالات سياسيين بارزين، تشكّلت حكومة جديدة برئاسة رئيس وزراء تكنوقراطي في أوائل 2014. وفي وقت لاحق من العام ذاته، فاز حزب "نداء تونس" بالانتخابات، وهو حزب علماني تأسس إلى حد كبير لمعارضة "النهضة".

في المقابل، أدّى الاقتتال الداخلي المستمر داخل "نداء تونس" وتنافسه مع "النهضة"، إلى حكومات ضعيفة. ففي الانتخابات الرئاسية عام 2019، هزم قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري الذي لم يكُن معروفاً في السابق، نبيل القروي، رجل الأعمال الشعبوي. وجاء المرشحان من خارج المنظومة السياسية تماماً، ما يشير إلى رفض واسع للنخبة السياسية من قبل المواطنين العاديين. بعد ذلك، العام الماضي، أمر الرئيس سعيد بحلّ البرلمان، مدعياً أن الأزمة الاقتصادية جعلت مثل هذه الخطوة ضرورية. وبالفعل، جرى إنهاء التجربة الديمقراطية في تونس بشكل فاعل، مع مقدار كبير من الدعم الشعبي. وعلى غرار الحال في مصر 2013، فقدت غالبية المواطنين في تونس الثقة بعملية التغيير التي أتى بها "الربيع العربي".

 واجه (الرئيس التونسي قيس) سعيد معارضة قليلة نسبياً لأن الانتقال الديمقراطي في تونس أخفق في تحقيق فوائد اقتصادية ملموسة وجلب حلول للشعب. واليوم، يرزح اقتصاد البلاد في وضع أسوأ مما كان عليه قبل "الربيع العربي". ومثلاً، في 2011، بلغ الدخل الفردي 4265 دولاراً، لكنه انخفض إلى 3320 دولاراً بحلول 2020. لذا، ليس من المستغرب تنامي الإحباطات الاقتصادية لدى الناس. في 2011، بعد بضعة أشهر من سقوط الديكتاتور زين العابدين بن علي، عبّر 27 في المئة من التونسيين الذين شملهم استطلاع الـ"باروميتر العربي" عن اعتقادهم بأن اقتصادهم في حالة جيدة أو جيدة جداً. وفي 2018، انخفضت هذه النسبة إلى مجرد سبعة في المئة.

يريد عامة العرب الكرامة الاقتصادية ويبحثون بشدة عن نظام حكم قادر على توفيرها.

 استنتج عدد من التونسيين أن جذور المشكلة تكمن في النظام بعينه الذين حاربوا من أجله بعد إطاحة بن علي. ففي 2011، لم يتفق سوى 19 في المئة من التونسيين على أن الأنظمة الديمقراطية غير حاسمة ومملوءة بالمشكلات. في المقابل، مع حلول 2018، قفزت هذه النسبة إلى 51 في المئة. في 2011، اتفق 17 في المئة من المُستطلعين التونسيين مع القول إن "الأداء الاقتصادي في الأنظمة الديمقراطية ضعيف". ومع حلول 2018، زادت هذه النسبة بأكثر من الضعفين لتصل إلى 39 في المئة. ولقد بدا هذا الاتجاه واضحاً بشكل خاص بين الشباب التونسي الذين صادف دخولهم سن الرشد بفترة الانتقال الديمقراطي. في 2011، ربط 21 في المئة من التونسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة الديمقراطية بالأداء الاقتصادي الضعيف. ومع حلول 2018، قفز هذا الرقم إلى 43 في المئة. وليس من الصعب معرفة السبب. فبحسب الخبير الاقتصادي التونسي منجي بو غزالة، "تبلغ نسبة العاطلين من العمل [في تونس] الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة، 85 في المئة. وكلما ارتفع مستوى التحصيل العلمي، ارتفع معدل البطالة، إذ إن 40 في المئة من العاطلين من العمل يحملون شهادات جامعية".

 

أجوبة سلطوية

تظهر بجلاء رسالة صارخة في نتائج الـ"باروميتر العربي" مفادها بأن عامة العرب يريدون الكرامة الاقتصادية ويبحثون بشدة عن نظام حكم يستطيع توفيرها. وبما أن الديمقراطية فشلت في تحقيق نتائج اقتصادية في أرجاء الشرق الأوسط، فإن عدداً من عامة العرب، بمن فيهم بعض الذين كانوا يأملون في الديمقراطية قبل عقد من الزمن، يبدون الآن أكثر انفتاحاً على النماذج الاستبدادية في الصين وروسيا. فمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، حرّر النظام الصيني أكثر من 800 مليون شخص من براثن الفقر المدقع، وفقاً لـ"البنك الدولي"، يُعتبر ذلك تحديداً هو نوع التحول الاقتصادي الذي يسعى كثيرون في جميع أنحاء الشرق الأوسط بشدة إلى تحقيقه. في الصين، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 2194 دولاراً في 2000 ووصل إلى 10431 دولاراً في 2020. في روسيا، تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أربع مرات تقريباً خلال تلك السنوات العشرين، من حوالى 7000 دولار إلى حوالى 28000 دولار. وفي الوقت ذاته، بالكاد تضاعف متوسط ​​نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان الغنية في "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، بحيث ارتفع من حوالى 25000 دولار إلى 45000 دولار.

ومع تراجع تركيز الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، تقدّمت الصين وروسيا لتوفير الدعم. فمن خلال "مبادرة الحزام والطريق"، وقّعت بكين اتفاقات تعاون اقتصادي مع عدد من الحكومات العربية. ووفق الباحث تشارلز دون، "أصبحت الصين أكبر مستثمر أجنبي في المنطقة عام 2016. ومنذ انطلاق مبادرة الحزام والطريق، ضخّت بكين ما لا يقل عن 123 مليار دولار في الشرق الأوسط في تمويل المشاريع المرتبطة بتلك المبادرة". وعلى الرغم من أن روسيا لم تقدّم النوع ذاته من المساعدات الاقتصادية، إلا أنها لعبت دوراً عسكرياً ناشطاً. وعبر التدخّل لدعم حلفائها في ليبيا وسوريا، أشارت موسكو إلى إعادة مشاركتها في المنطقة بعد عقود من الانكماش أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي.

إذاً، ليس من المفاجئ أن يرغب عرب كثر بأن ترسي حكوماتهم علاقات اقتصادية أقوى مع بكين وموسكو، حتى لو تُرجم ذلك بتقليص الروابط الاقتصادية لبلادهم مع الولايات المتحدة. هنا، مع ذلك، يظهر نمط كاشف من استطلاعات الـ"باروميتر العربي". ففي البلدان التي تميل إلى الديمقراطية، يفضل الناس بوضوح العلاقات الاقتصادية المعززة مع الصين وروسيا على روابط اقتصادية أقوى مع الولايات المتحدة، بينما في البلدان التي تميل إلى الاستبداد، يفضل الناس تحسين العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة. تظل العلاقات مع الولايات المتحدة تحتفظ بقدر كبير من الجاذبية. في لبنان عام 2018، أراد 42 في المئة من المشاركين علاقات اقتصادية أقوى مع الصين، وأراد 43 في المئة منهم علاقات اقتصادية مع روسيا، بينما رغب 36 في المئة منهم بعلاقات أقوى مع الولايات المتحدة. ومن ضمن العراقيين المستجوبين، فضّل 51 في المئة تقوية العلاقات مع الصين، و43 في المئة مع روسيا، و35 في المئة مع الولايات المتحدة. في تونس، وافق 63 في المئة على أنهم يرغبون برؤية علاقات أقوى مع الصين، و50 في المئة مع روسيا، و45 في المئة مع الولايات المتحدة. لا يبدو أن المواطنين في هذه البلدان يأخذون في الاعتبار النظام الديمقراطي للولايات المتحدة عند تكوين آراء حول العلاقات الاقتصادية مع واشنطن.

مع تراجع تركيز الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، تقدمت الصين وروسيا لتوفير الدعم.

واستطراداً، تبدو الصورة أكثر تعقيداً في البلدان ذات الميول الاستبدادية، حيث كانت احتمالات العلاقات الاقتصادية القوية مع الولايات المتحدة أفضل حالاً. ففي الأردن، عبّر 70 في المئة من المستطلَعين عن رغبتهم بعلاقات اقتصادية أقوى مع الصين، وهي نسبة أعلى من 57 في المئة ممن يرغبون بعلاقات أقوى مع الولايات المتحدة. في المقابل، فضّل 43 في المئة وجود علاقات أقوى مع روسيا. في مصر، حصلت روسيا على أعلى تقييم، إذ عبّر 38 في المئة من المستجوبين عن رغبتهم بعلاقات اقتصادية أقوى مع روسيا، و36 في المئة مع الولايات المتحدة، و30 في المئة مع الصين. في المغرب، عبّر 49 في المئة من المستجوبين عن رغبتهم بتعزيز الروابط الاقتصادية مع الصين، و43 في المئة مع الولايات المتحدة، و40 في المئة مع روسيا.

من بين القوى العالمية، شكّلت الصين الشريك الاقتصادي المحتمل الأكثر شعبية في 12 دولة شملتها مسوح الـ"باروميتر العربي" في 2018- 2019. ومع ذلك، ليس من الواضح إلى أي حد قد تستفيد بكين من هذه العلاقات الوثيقة، في الأقل لجهة كسب قلوب وعقول عامة العرب، لا سيما في أعقاب جائحة "كوفيد- 19". ومثلاً، على الرغم من جهود الصين الحثيثة في "دبلوماسية اللقاح"، لم تتغير كثيراً وجهات النظر بشأنها في المنطقة بين صيف 2020 وربيع 2021، وفقاً لاستطلاعات الـ"باروميتر العربي" التي أجريت في سبع دول هناك.

 

أي شيء يصلح

مع استمرار التصادم بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط، يلقي عدد من المحللين والنقاد اللوم على ما يعتبرونه عيوباً في الثقافة السياسية العربية، التي يراها البعض غير ملائمة بشكل فريد للديمقراطية. لكن هذا الرأي خاطئ، ليس لمجرد أنه يبرّئ الجهات الخارجية التي تدعم الحكام الاستبداديين في الشرق الأوسط لتعزيز مصالحها الخاصة، بل أيضاً لأنه يتجاهل دور الركود الاقتصادي في قلب عدد من عامة العرب ضد فكرة التغيير الديمقراطي. بالتالي، لا يعبّر التراجع الحاد في الاهتمام والإيمان بالديمقراطية في الأعوام الأخيرة، عن فشل الأنظمة السياسية العربية في إدراك قيمة الحرية. بالأحرى، إنه يعبّر عن فشل الجهات الدولية والإقليمية والمحلية في حل المشكلات الاقتصادية المتجذرة في المنطقة.

وبغية إبطاء تقدّم الاستبداد وإعطاء المُثل الديمقراطية والليبرالية فرصة أخرى في الشرق الأوسط، تحتاج الولايات المتحدة والجهات الفاعلة الدولية أن تعود إلى الأساسيات. وفي هذا الصدد، يجب على أي جهد يُبذل في تعزيز الديمقراطية أن يأخذ في الاعتبار تطلعات المواطنين إلى الكرامة الاقتصادية، ويجب إدراك أن مناشدة المفاهيم المجردة وحدها لن تكون مقنعة. صحيح أن العرب يتوقون إلى الحرية والعدالة، لكن إذا لم توفر الديمقراطية العيش أيضاً، فسوف يدعم العرب الأنظمة السياسية التي ستوفر ذلك.

 

* أماني جمال، مؤسسة مشاركة ومحققة مشاركة رئيسة في الـ"باروميتر العربي"، وعميدة "كلية برينستون للشؤون العامة والدولية"، وأستاذة "إدوارد س. ستانفورد للسياسة والشؤون الدولية" في "جامعة برينستون".

** مايكل روبينز، مدير ومحقق رئيس مشارك في الـ"بارومتر العربي".

 

فورين أفيرز

مارس (آذار)/ أبريل (نيسان) 2022

المزيد من آراء