يعتقد مابات أن هذا الصراع سيُفضي إلى نهاية واحدة بالنسبة لروسيا. ولن ينتهي بسفك الدماء، كما سيحدث بالعالقين وسط تبادل النيران، الذين سيتركون لمصيرهم في شوارع أوكرانيا وحقولها، ولكن بمعاناة اقتصادية وبانعدام اليقين.
ويقول: "لا أرى رجاء في الحياة في روسيا بعد اليوم". وضع مابات، الذي يعيش في موسكو، خططاً لمغادرة وطنه الأم باتجاه الولايات المتحدة، ومع انتقاله هذا، سيتجاوز عتبة تفصل منذ زمن بعيد بين الغرب والجار السلافي.
ويعلن مابات بإصرار، "لست أخشى على سلامتي الشخصية، بل يتعلق الأمر بمستوى الحياة. فهو في انحدار مستمر". ولا يخشى بالضرورة من النتائج الفورية للعقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب، إذ يقول إن "بوتين يستعد لها منذ عام 2014"، ولكن ما يقلق مابات هو تداعيات الغزو على الأمد البعيد. مع قطع العلاقات السياسية والاقتصادية، لن يعود أمام روسيا وشعبها سوى العزلة والكساد والإدانة، حين يهدأ صوت المعركة في ساحات القتال في أوكرانيا... "أستعد للرحيل، كما يفعل كثيرون".
"بشكل عام" كانت ردة الفعل بين أصدقائه والمحيطين به على غزو أوكرانيا "سلبية للغاية"، كما يقول مابات. وظهر هذا الغضب في شوارع موسكو ليل الخميس، حين اجتمع آلاف الأشخاص على مقربة من ساحة بوشكين للاحتجاج على الغزو.
وعلى الرغم من خطر التوقيف والاعتقال الذي يلوح فوق رؤوسهم، يجب أن يتحلى الإنسان بالشجاعة لكي يعارض الحكومة الروسية المستبدة، وجّه المتظاهرون رسائل واضحة لفلاديمير بوتين، الرجل المعروف بخوفه من الاضطرابات الشعبية وكراهيته لها.
"لا للحرب"... كُتب هذا الشعار على اللافتات، ورُشّ بالطلاء على البوابة الرئيسة للغرفة السفلى في مجلس النواب الروسي. وتلوّنت الحشود بلوني علم أوكرانيا، الأزرق والأصفر، فيما أخذت تنشد وتصيح احتجاجاً على الصراع.
وتقول فيرونيكا ميلر، إحدى المتظاهرات قرب ساحة بوشكين، إنه "لا أحد توقع حدوث الغزو، باغتتنا الخطوة. لا نريد الحرب، ولا نؤيد بوتين".
جاء الرد سريعاً ومتوقعاً، فاعتقل 900 شخص. وتحدث موقع "أو في دي إنفو "OVD-Info الذي يرصد الاضطرابات في مسيرات المعارضة، عن اعتقال نحو 1700 شخص في 53 مدينة روسية بُعيد التظاهرات العفوية التي انطلقت فيها، ومنها مسقط رأس بوتين في سانت بطرسبورغ. وأثناء اعتقاله، صاح أحد الرجال هناك، "مع من تتقاتلون؟ اعتقلوا بوتين".
ولكن للمرة الأولى، انتقلت هذه الاحتجاجات من المعارضين الروس العاديين في الميادين إلى الطبقات الاجتماعية العليا. فقد تعالت أصوات المشاهير ونجوم الغناء ومذيعي البرامج التلفزيونية المسائية ومخرجي الأفلام والعلماء والأكاديميين رفضاً لتصرفات بوتين علناً، وسهل ذلك وجود منصات التواصل الاجتماعي التي لم تكن موجودة خلال الاضطرابات التي رافقت تفكك الاتحاد السوفياتي. فمغني الراب الروسي الشهير "أوكزيميرون" (Oxxxymiron) ألغى ست حفلات له ومحجوزة بالكامل في موسكو وسانت بطرسبورغ احتجاجاً على الغزو. وقال، "لا يمكنني أن أغني في ما تمطر الصواريخ الروسية سماء أوكرانيا".
وفي هذه الأثناء، وقّع أكثر من 50 عضو في الأكاديمية الروسية للعلوم، فضلاً عن مئات الخبراء الآخرين، رسالة مفتوحة ضد التحرك العسكري الروسي "الظالم والعقيم بصراحة".
وجاء في الرسالة التي نشرت على موقع الأخبار العلمية "TrV-Nauka"، "حكمت روسيا على نفسها، من خلال شنها هذه الحرب، بالعزلة الدولية وبموقف الدولة المارقة".
ونشر المحرر الصحافي الروسي الذي حاز جائزة نوبل للسلام العام الماضي نسخة من صحيفته "نوفايا غازيتا (Novaya Gazeta)" باللغة الأوكرانية تعبيراً عن تضامنه ورفضه لاجتياح بوتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال دميتري موراتوف، الذي كرم رسمياً العام الماضي لنضاله في سبيل حرية التعبير، إنه شعر بـ"الحزن" و"العار" في أعقاب هجوم القوات الروسية يوم الخميس.
ويرى البروفيسور كريستوفر ريد، خبير التاريخ الروسي في جامعة وورويك أن هذه المعارضة العلنية "وحدها أمر جلل"، "سارعوا إلى اتخاذ موقف شجاع لرفض الحرب والمطالبة بوقفها"، وهذا النوع من المعارضة على مستوى رفيع "أمر كان غائباً في أي حرب روسية".
ولكن لم يكن الجميع مستعداً لمواجهة الفظائع التي ترتكب في أوكرانيا، حيث زهقت أرواح المئات من الأشخاص من الجانبين. فميخائيل، الذي يسكن أيضاً في موسكو، لم يُبدِ أي استعداد للحديث عن الصراع، وقال، "هنا لا نتطرق إلى السياسة. نتمنى جميعاً السلام والصداقة في كل الأوقات".
بينما يصر آخرون على أن الصراع يقدم بشكل خاطئ من خلال منظور غربي لا يمكنه أن يستوعب كلياً العلاقات التاريخية والثقافية بين روسيا وأوكرانيا، التي تعود إلى زمن بعيد يسبق قيام الدولتين بالشكل الذي نعرفه اليوم.
ويقول أوكتاي رمزي، المهندس البالغ 42 عاماً من العمر من موسكو، "أعتقد أن الآراء الأصح يجب أن تصدر عن الأشخاص الضليعين بتاريخ وديموغرافية وتقاليد وعقلية الشعب في روسيا وأوكرانيا. ولا مبرر يسمح لك بالتعليق على الموضوع إن لم تكن هذه تمتلك هذه المعرفة. إنها قصة عمرها ألف عام".
لا شك في أن ارتباط البلدين قوي: "نادراً ما ألتقي بشخص روسي ليس لديه جد أو جدة من أوكرانيا، والعكس صحيح"، كما يقول أوكتاي، ما يزيد من غموض قرار بوتين بتعريض جيرانه لهذا المستوى من العنف والبؤس.
يرفض البروفيسور ريد الرواية التي يروج لها كثيرون عن أن غزو بوتين هو محاولة يقوم بها ديكتاتور مجنون من أجل استعادة أمجاد الحقبة السوفياتية. ففي النهاية، حسب قوله، هذا هو الرجل الذي قال مرة "كل من لا يأسف لاندثار الاتحاد السوفياتي بلا قلب، وكل من يريد استعادته بلا دماغ [ذهب عقله]".
ما يراه البروفيسور ريد في تصرفات بوتين في المقابل هو "اليأس". بعد سنوات من الإذلال في أوروبا الشرقية، "دحرت" خلالها الدولة الروسية "بلا أي طلقة تقريباً"، وعدم الاستجابة للقلق المتنامي بشأن التهديدات الأمنية، شكل غزو يوم الخميس [في 24 فبراير] اللحظة التي عيل فيها صبر بوتين أخيراً، بحسب تعبيره... "إن الأمن هو الأمر الذي تأخذه الدولة الروسية على محمل الجد".
لا يعلم أوكتاي علم اليقين إن كانت الجموع الروسية ستدعم الاجتياح أو تدينه في نهاية الأمر، ولكنه يدرك الطريقة التي ينظر فيها كثيرون إلى هذا الغزو... "ما يدفع الناس للتفكير بأن تصرف الجيش الروسي مبرر هو اعتقادهم بوجود خطر على وحدة أراضيهم وأمنها طيلة السنوات الثماني الماضية".
تؤيد فيرونيكا التي تنتمي إلى جيل مختلف وأصغر من جيل أوكتاي، هذا الكلام، "هذا الاعتقاد سائد فعلاً" بين الناس، كما تقول، قبل أن تضيف أن العنف وقتل المدنيين ليس حلاً للهواجس التي تراود بوتين ومواطنيها على ما يبدو، وهي تتوقع أنه لو ظل الكرملين على مقاربته الحالية، سوف "ينهار الروبل"، ويصبح السفر إلى الخارج صعباً، و"تغلق روسيا، مع كل ما يحمل هذا الأمر من تداعيات".
والقادم قد يكون الأسوأ بعد. فهي تخشى احتمال قيام حرب عالمية جديدة. وتقول، "نظراً لسلوك بوتين العدواني، هذا [احتمال] ممكن".
© The Independent