Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صدمة الفرد والجماعة في رواية "خطف الحبيب" الكويتية

طالب الرفاعي يقارب قضية التطرف بدءاً من البيئة الداخلية وانتهاء بالأفكار المستوردة

لوحة للرسام الكويتي ناجي الحاي (صفحة الرسام على فيسبوك)

يتفرد الروائي والقاص الكويتي طالب الرفاعي في تطرقه إلى قضية الإرهاب في روايته الجديدة "خطف الحبيب"، فيجذّره في البيئة التي تنتمي إليها شخصيات الرواية، بل في الأسرة نفسها التي تمثل منطلق السرد وفضاءه، ساعياً إلى معالجة ظاهرة التطرف معالجة جذرية، انطلاقاً من منبتها المحلي أو الأهلي. فالإرهاب لا يأتي دوماً من الخارج بل قد ينبت في البيئة والمجتمع مغافلاً الاسرة، الاب والام، فيسرق الشباب رغماً عنهم ومن دون وعي منهم. ولعل هذا ما حصل مع الشاب أحمد، أحد ابطال الرواية، الذي جرفه التيار، ففاجأ والده ووالدته اللذين غفلا فترة عن رعايته، ووقع في براثن التطرف، مدفوعاً من خاله عثمان الذي ينتمي سراً إلى احدى الجماعات المتطرفة، والذي كان له أثر عليه، لا سيما في غياب أبيه يعقوب، الثري الكبير، المأخوذ بأعماله، وفي تغاضي امه شيخة عنه، هي التي كانت تعيش حياة البذخ والترف، منصرفة لرفاهتها وزينتها. لكن هذا التشقق الذي عرفته العائلة، لم ينجم عن تفكك عميق داخل الاسرة وسقوط فكرة الابوة والامومة، بل أن السبب يعود إلى انشغال كل شخص بنفسه وإهماله الآخرين، وإلى الانانية الفردية التي رسختها حياة الثراء. فالاب والام يصابان بصدمة كبيرة عندما يعلمان لاحقاً أن ابنهما احمد التحق بحركة ارهابية في سورية، ويكتشفان كم انهما قصرا في حق ابنائهما الاربعة وأهملاهم، ويقعان في حال من الخوف والهلع والندم.

التقنية البوليفونية

اعتمد طالب الرفاعي بنية سردية مفتوحة في روايته، بغية إفساح مجال السرد امام معظم الشخصيات التي تحفل بها الرواية، وليجعل من تداعياتها او مونولوغاتها شهادات ذات أثر في سياق السرد العام، كاسراً ما يسمى "وجهة نظر" الراوي الاول وهو الاب هنا، جاعلاً وجهات نظر الاخرين تتقاطع بعضها مع بعض، تتآلف حيناً وتختلف حيناً آخر. انها تقنية السرد البوليفوني الذي تقتضيه هذه الرواية التي تدور حول نقطة مركزية او لنقل وقيعة مركزية هي انحراف الابن أحمد وما نجم عن هذا الانحراف من مواقف وأحداث خطرة أودت بحياته ختاماً. فعطفاً على صوت الاب الراوي الرئيسي، تتوالى اصوات اخرى هي: الزوجة او الأم شيخة التي تتولى السرد في ثلاثة فصول، الفتاة الايرانية الشابة فرناز التي يقع رب العائلة يعقوب في حبها والتي يؤدي دخولها مسار الرواية دوراً مهماً، تتولى السرد في ستة فصول، الخال عثمان الذي ساهم في توجيه احمد نحو الفكر الظلامي، يتولى السرد في فصل واحد.

أما الابن الذي يمثل صورة الابن الضال والخارج عن العائلة والدين نفسه، فيروي الوقائع والمبررات كما يفهمها وينظر اليها في فصلين أساسيين هما الرابع عشر والخامس والثلاثون. ويحتل الاب بصفته راوياً أول ومفتاحاً سردياً وبنيوياً، خمسة وعشرين فصلاً تكون هي مرآة السرد وبؤرة التحولات و"الانقطاعات" والعودات الزمنية وسواها.

خريطة الشخصيات

لا بد أولاً من رسم "الخريطة" السردية التي تمثل مدخلاً إلى قراءة الشخصيات وعلاقاتها وارتباطها بالاحداث والمواقف والأفكار وما يتفرع عنها من عناصر أخرى. تتكون هذه "الخريطة" من شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية. أما الرئيسة المؤثرة في سير السرد فهي بحسب الآتي: يعقوب، مليونير ستّينيّ متزوّج من "شيخة"، طبعه انعزاليّ، هادئ جادّ. يحبّ عمله وينصرف اليه مديراً شركاته الكثيرة. يتفادى جوّ العائلة، ويشعر بالفتور في علاقته مع زوجته، مما يدفعه إلى خوض مغامرة عاطفية مع موظفة لديه ايرانية تدعى فرناز من عمر ابنتيه.

شيخة، زوجة يعقوب، امرأة هادئة رزينة وأمّ صالحة. تهتمّ بملابسها وفساتينها ومناسباتها الاجتماعيّة. لا تزعج زوجها ولا تغار عليه وتحترم طبعه الهادئ والانعزاليّ. تشعر ببعض الفراغ والحزن لابتعاد زوجها عنها الذي يقعها في وحدة نفسية وعاطفيّة. وكانت احيانا تسأل نفسها: "لمن أشتري كل هذه الملابس إذا كان زوجي لاهياً عني؟ ما الذي جعل كلاً منا يُهمل الآخر ويصد عنه؟ لماذا اعتلَّت علاقتنا ووهنت".

أحمد، ابن يعقوب وشيخة، الأصغر. تعلّق بالدعاة المتزمّتين وراح يتبع أوامرهم ويبتعد عن عائلته. وبعدما ما وقع في براثن الظلاميين يرحل إلى سورية ليقاتل فيها مع الجماعات المتطرفة. يصبح احمد أميراً على جماعته ويتزوّج من امرأتين وينجب ولداً يسمّيه عمر على اسم شيخه الذي يوجهه، بدلاً من أن يسمّيه يعقوب على اسم أبيه. لكن إحدى الجماعات السلفيّة تخطفه لاحقاً وتهربه إلى ايران وتطلب فدية عشرة ملايين دولار لإعادته إلى عائلته.

فرناز، فتاة إيرانيّة متواضعة الحال، تعمل موظفة في شركة الاب الثري يعقوب. يُعجب بها الرجل الستيني ويجد نفسه مدفوعاً إلى التقرّب منها ومحادثتها. تحاذر الفتاة الموظفة رب عملها يعقوب وتخشى تقرّبه منها في البداية، لكنّها تقرّر استغلال هذه الفرصة الذهبيّة، لتدبر امورها الوظيفية وتنجز أوراق اقامتها وعملها، مما يضمن لها البقاء في الكويت شرعياً. لكنها لن تلبث أن تؤدي دوراً إيجابياً جداً، عندما تخطف جماعة اصولية احمد، وتنقله إلى أحدى المناطق الايرانية، فتساعد يعقوب في محاولة استعادة ابنه من الجماعات الخاطفة، فتطلب من شقيقها المقيم في إيران أن يساعد يعقوب في عمليّة استعادة أحمد من الجماعات المتطرفة.

أما عثمان، شقيق شيخة أي خال أحمد، وهو الأكثر سلباً، فيشغل منصباً في شركة يعقوب، ويخفي ميوله الأصولية. وهو الذي يمضي في تشجّيع أحمد على التقرّب من المتطرفين والدخول في صفوفهم. ويظل على تواصل دائم مع أحمد ومع الجماعات سرا، من دون علم يعقوب، بل هو يدّعي البراءة عندما تكشف الخفايا وتحتدم المواقف. فهو الذي اوقع أحمد في متاهة التزمّت والانحراف عن العائلة والدين الصحيح. يقول عثمان: "الحمد لله، أحمد صار أميراً لجماعة جهادية في سوريا، وأصبحت كنيته أبا الفتح الكويتي". من ناحية أخرى يبرز رضا، شقيق فرناز ومرافق يعقوب في ايران منذ منتصف الرواية، مساعداً اياه في استعادة الابن المخطوف. يقدّم رضا النصائح طيلة السرد، هو الشرطيّ العالم بالجغرافيا الإيرانيّة وطرائق تبادل المخطوفين وتقديم الفديات. لكن يعقوب لا يستمع له دائماً ولا يأخذ بنصائحه، مصاباً بهاجس فقدان ابنه، مما يؤدي إلى كارثة او مأساة بالاحرى.

مسار الاحداث

يعقوب وشيخة إذاً متزوّجان ولهما أربعة أولاد، بنتان وصبيان. أعمال يعقوب التجارية ممتازة وحياة شيخة الاجتماعيّة ممتازة، لا شيء يعكر صفو حياة العائلة في البداية سوى ما يسمى "الممل" الزوجي الذي تعرفه خصوصاً الأسر الثرية. لكن الحدث الذي يقض مضجع الوالدين والعائلة، هو انحراف أحمد وانخراطه في صفوف المتطرفين الذين ذهبوا من الكويت إلى سورية ليقاتلوا تحت راية الارهاب. هذا الحدث يتضاعف عندما يقع أحمد الذي أضحى أمير احدى الجماعات، في الأسر (الفصل العشرون) وتبدأ التفاوضات مع الخاطفين لاستعادته. يطلب الخاطفون 10 ملايين دولار فدية لإطلاق سراحه علماً منهم أن والده رجل ثري جداً. يقرّر يعقوب الذهاب بنفسه إلى ايران لاستعادة ابنه، بمساعدة موظّفته فرناز وشقيقها رضا المقيم في إيران. وهنا ينقلب مسار السرد ويتكتسب ايقاعاً اشد سرعة وتشويقاً: يصل يعقوب إلى إيران ويساعده رضا في مراحل التفاوض والنقاش، وصولاً إلى تسليم المال وتسلّم أحمد من الخاطفين في الفصل الأخير (37). يتسرّع يعقوب هنا ويرتكب خطأ جسيماً، فهو يهرع إلى ابنه ليحتضنه فيجزع الخاطفون ويطلقون النار على أحمد ظناً منهم أن في الأمر حيلة مدبرة. تنتهي الرواية بموت أحمد ميتة مأسوية.

المفتتح الكابوسي

يفتتح طالب الرفاعي روايته بحلم كابوسي يراه الاب يعقوب في نومه. يبصر نفسه يمشي مع ابنه احمد على شاطئ البحر قرب الشاليه التي يملكها، وكان يشعر بضيق من لهيب الشمس الحارقة. فجأة يبصر أن ابنه نبتت له لحية سوداء وانزلقت الغترة عن رأسه وتزيا بلباس أفغاني. يبتعد ابنه عنه ويرتمي في البحر ثم ينبعث بالقرب منه شخص آخر يشبهه تماماً، ثم شخص وشخصان وثلاثة، حتى يكثر الاشخاص الملتحون ويمتدون صفوفاً صفوفاً وهم يصرخون: "عقابكم قادم، عقابكم قادم"... إلى أن يرى يعقوب أن ماء البحر صار دماً قانياً وأن رذاذه يتطاير حتى ليغطي وجهه بالدم. يصحو فجأة على نداء المؤذن. هذا الكابوس هو خير مفتتح للرواية لكونه يعبر عن المآل الذي سوف تنتهي اليه الرواية نفسها مع مقتل الابن أحمد بين ذراعي ابيه وتلطخه بدمه. يقول يعقوب في تلك اللحظة الختامية المريرة التي تشبه الكابوس: "شيء من صدى بعيد لصوت مؤذن: الله أكبر، الله أكبر. فجأة دوت طلقة من بين الاشجار خلف أحمد لتهز صمت المكان، ينفر الدم من أنفي ويسقط ولدي".

عودة إلى الوراء

كان يعقوب يعيش حالاً من الاضطراب ازاء علاقته بالموظفة الايرانية فرناز، فهو يعيش هذا الحب وكأنه صراع داخلي مرير، لا سيما عندما يعلم أن ابنه التحق بالجماعة الارهابية في سوريا. يقول في هذا الصدد: "ولدي يترأس جماعة إرهابية تقاتل في بلاد الشام، وها هي فتاة شابة لا أعرفها تعترض طريقي فجأة فتشغل بالي". لكن حضور فرناز، بصفتها "اداة" الخيانة الزوجية التي كاد يرتكبها يعقوب ثم أشاح عنها، يصبح جزءاً من المشكلة العميقة التي يعيشها، ليس لانها تتدخل في محاولة انقاذ ابنه من الخطف عبر توسيط شقيقها فقط، بل في موقعها المترجرج في حياته هو. شخصياً. فهو يحبها ويقاوم هذا الحب، يرغب فيها ويصد عنها. وعندما تقاوم الشابة الإيرانية رغبته، سرعان ما تأخذ العلاقة بينهما بعداً وجدانياً وكأنها امتداد للحالة المأسوية التي تتجلى في الرواية. وعلى رغم العلاقة الهادئة التي جمعت بين يعقوب وفرناز، فهي بدت متأثرة بل مرتبطة بطيف الابن الغائب أحمد. فكلما التقى الثري الستيني الفتاة الشابة يدور الحديث بينهما عن أحمد، حتى ليسأل يعقوب نفسه: "ما علاقة هذه الفتاة بأحمد؟".

كان على يعقوب أن ينتبه في اللحظات الحاسمة التي عاشها بعد اختفاء ابنه، إلى أنه قصّر كثيراً بحقه وحق الام او الزوجة شيخة، وحق العائلة كلها. ولكن كان الأوان قد فات. كان مشغولاً بصفقاته التجارية واجتماعاته وسفراته كل الانشغال، فابتعد عن الاسرة وبات اشبه بـ"مصرف" يمدهم بالمال وكل ما يحتاجون اليه مادياً، وفي ظنه أن السخاء يعوض غيابه، كأب وزوج ورب أسرة. يقول: "منذ انتهاء الاحتلال العراقي، تعوّدتُ أن أستبدل سيارتي كل سنة. بمجرد أن يصل الموديل الجديد يُرتّب صديقي وكيل المرسيدس سيارتي الجديدة، ويرسلها إليَّ، بعد أن يُثمِّن سيارة العام الماضي". وعندما يستعيد واقع ابنه الكارثي لاحقاً، تنقلب لهجته كأن يقول: "نتف أخبارٍ تصلني عنه؛ مجاهد ضمن جماعة إسلامية تقاتل في سوريا. منذ صغره كان الأحب إلى قلبي، تسكرُ روحي حين أحتضنه ونتصارع معاً. أدغدغه في خاصرته، فيعلو صوت ضحكاته الحلوة".

رواية الفرد والجماعة والمكان

تكمن اهمية رواية "خطف الحبيب" في كونها أولاً رواية جماعة وأفراد في وقت واحد، رواية أسرة وأعضاء اسرة، رواية شخصية وعامة. ومثلما كان احمد الابن والاب يعقوب والام شيخة ضحايا صعود التيار المتشدد الذي دمر حياتهم لا سيما بعد مقتل الابن، فإن البيئة ايضاً والمجتمع والتقاليد والعادات هي بدورها ضحايا بالمقدار نفسه. فالرواية هي رواية مكان هو الكويت التي تحضر بحاراتها وشوارعها وناسها وقضاياها، فالشخصيات مرتبطة بأماكنها وذاكرتها وتراثها ارتباطاً وثيقاً. وكما علمتنا الفلسفة وعلم الاجتماع، فإن الانسان هو جزء من المكان والمكان هو جزء من الانسان. ومن هنا تبدو رواية "خطف الحبيب" رواية الانسان فرداً وجماعة، ورواية المكان الذي هو الوطن، منطلق الانسان ومرجعه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة