Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خيري الذهبي يروي مأساة 300 يوم في سجون إسرائيل

يوميات فازت بجائزة ابن بطوطة 2019

غلاف الكتاب (دار المتوسط)

هي رحلة "يوميّات" غنية ومتعددة الجوانب، هذه التي يأخذنا فيها الكاتب الروائي السوري خيري الذهبي، في كتابه "من دمشق إالى حيفا _ 300 يوم في إسرائيل" (دار المتوسط) رحلة تبدأ في لحظة وصوله مطار دمشق، قادمًا من القاهرة، بعد رحلة اغتراب عسيرة، ليواجه في المطار، أوّل ما يواجه، شعار حزب البعث الشهير الذي أطلقه بعد هزيمة حزيران 1967، عن "ثورة البعث الباقية إلى الأبد"، وبعد هذا اللقاء المشؤوم، سنرى خيري وهو في أحضان أمّه المنتظِرة عودته منذ سنوات، وسنراه في مهنة التعليم التي يقول عنها "سأظل أكرهها حتى أنتقل الى مهنة أخرى، فلم أخلق معلّمًا ولا أحب التعليم"!

تنتهي بنا يوميّات الذهبي في مطار بن غوريون، استعدادًا لرحلة العودة من سجون الاحتلال الصهيوني إلى وطنه، بعد أن أمضى 300 يوم "رهيبة" في تلك السجون. هذا الاعتقال الذي يبدو واضحًا فيه إصرار الجنرالات الصهاينة على إذلال هذا السجين المثقّف الكاتب، وكسر معنويّاته، من جهة، ومن الجهة المقابلة يبدو إصراره هو، الكاتب خيري الذهبي، على عدم الرضوخ، وعلى رفض أي شكل من أشكال التعاون مع جلّاديه، محتفظًا بالمسافة التي أرادوا كسرها لدفعه إلى التفاهم، من أجل القيام بمهمّة "رسول" السلام بين اليهود والعرب/ المسلمين أو "الشرق" كما يتّضح في آخر "حوار" لهم معه، بوصفه مثقّفًا وصَيدًا ثمينًا. لكنّه يدير ظهره لهذه الدعوات والإغراءات جميعًا، متحمّلًا أصناف التعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي.

كتاب خيري الذهبي هذا مزيج من ذكريات دمشقية وسورية عمومًا، تتداخل مع تأمّلات في الواقع السوري والعربي، وهذه تشتبك مع يوميّاته في سجون الاحتلال الإسرائيلي، صفد وعتليت ومجدّو. يوميّات تتضمّن رؤيته لصورة هذا الاحتلال وجنرالاته الممتلئين رعبًا تجاه مستقبل إسرائيل، كما سيتّضح له من لقاءاته مع عدد منهم، يصرّون على معرفة رأي المثقفين السوريّين الشباب من الجيل الجديد تجاه دولة إسرائيل.  

حكاية الاعتقال الذي جرى في حرب تشرين 1973، تبدأ من وجود الذهبي ضابطًا سوريًا وحيدًا بين ضبّاط الأمم المتّحدة الذين يراقبون الهدنة القائمة بين سورية وإسرائيل، وتخلّي الأمم المتحدة عنه، وتأخّر الدولة السورية في المطالبة به ومبادلته مع أسرى إسرائيليين لديها. وظلّ طوال الوقت يراهن على أن صفته "الأممية" يجب أن تحميه من الاعتقال، فضلًا عن التحقيق والتعذيب، لكنّ مراهنته كانت خاسرة، فقد جرى تعذيبه على نحو منهجيّ، لجعله يعترف بأنه ضابط في المخابرات السورية، مدسوس على قوّات الأمم المتّحدة. ولا بدّ من التذكير هنا، أنه بينما كان خيري يُمضى خدمته في مخفر "جملة" كضابط ارتباط مع قوات الأمم المتحدة للحفاظ على الهدنة، ويتعرف الرعاة والفلاحين والطبيعة، كان الضباط الأجانب، السويدي والإيطالي ثم الهولنديّ، قد أمضَوا أيّام الحرب "يسكرون" هاربين في الملاجئ، مردّدين بلا أي ضمير "هذه الحرب ليست حربنا".

بدايات الرحلة

يعود الشابّ العشرينيّ (خيري) من مغامرته في محاولة دراسة فن السينما في القاهرة، وبعد نجاحه في امتحانات القبول، يجد مدير معهد السينما يجمع الطلبة العرب ليبلغهم أن المعهد لا يقبل "الشرقيين". فيقرر خيري الرحيل إلى باريس لدراسة السينما أيضًا، ويجري قبوله، ويبدأ العمل في "أيّ عمل للعيش"، ثم يلتقي الفتاة المغامِرة بالترحال "ذسبينا"، ويقول "بعد رحلة حلمية تسكعنا فيها ما بين باريس ونابولي وروما وبيريوس في اليونان، قرّرتْ (ذسبينا) فجأة الرحيل إلى مصر حيث تقيم خالتها، وكان أن عدت ثانية إلى مصر". فيقرّر دراسة الأدب العربي، والعودة إلى سوريّة.

في سورية، ستأخذه الحياة بحثًا عن عمل، وسنجده مُدرّسًا متنقّلًا بين دمشق والحسكة، في ظل قوانين وممارسات حزبية جائرة، وسيادة للفساد والقمع. متأمّلًا خلال جولاته في جوانب اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، مُبرزًا حجم البؤس الذي تعيشه سورية، والتراجع خصوصًا على مستوى التصنيع الزراعيّ، في الحسكة "كاليفورنيا الشرق"، كما يصفها خيري، التصنيع الذي مكّن الدولة السورية من التفاخر بالميزان التجاري الرابح للدولة السورية، لأربعين سنة، نتيجة لبيع منتوجات الجزيرة في السوق العالمية، قبل عمليّات التأميم للأراضي التي سيقوم بها حزب البعث لمصلحة قياداته وكوادره وأعضائه. هذا الحزب الذي كان "حزبا عشائريا"، لا يهتم للأفكار "الطوباوية".

وعن تجربة التصنيع هذه كتب (خيري) كتابًا أعطاه عنوان "بين تجربة التصنيع الزراعي في شمال سوريا، والكيبوتز الإسرائيلي في فلسطين"، وأرسله لناشر لبنانيّ، لكنّ الناشر اعتذر عن النشر، وأخبره أنه سيعيد له المخطوطة، لكن المخطوطة لا تعود. وتشاء المصادفات أن أحد المحّققين الإسرائيليين يعرض عليه نسخة من هذه المخطوطة، ويسأله إن كان هو نفسه مؤلّفها، فيندهش ويستهجن كيفية وصولها إلى جهاز الإستخبارات الإسرائيلي، ويتمكّن من الحصول على صورة عنها!

من بين القضايا الحسّاسة التي يتناولها الذهبي، وهي كثيرة، قضية اليهود العرب، سواء من قابلهم في مصر وسورية، أو في سجون الاحتلال حيث سيتردّد ذكرهم، ومنهم المغربي والعراقي الكردي والمصري. ففي سورية سيظل يتذكر ويذكر أنه في إحدى مدارس دمشق كان يقوم بـ"حماية الطفل اليهودي إبراهيم، الذي صار همّي إبعاد الصِّبْية (المسيحيّين) الذين كانوا يتحرشون به طيلة الوقت، فيسارع إلى الاحتماء بي". أما في مصر، فيتذكّر اليهود العجائز الذين يقضي الوقت، في أحد مقاهي القاهرة يستمع إلى أحاديثهم، ذكرياتهم المصرية، وأحلامهم أن ينهوا حياتهم في "أورشليم".

من بين الأفكار المهمة في الكتاب، فكرة يرددها ضابط مخابرات إسرائيليّ محذّرًا خيري الذهبي من مغبّة الاستمرار في عدائه لإسرائيل "الكولونيل يقول بصوت متعب: لفتنانت... أحب أن أحذرك، فأنت لو احتفظت بكل هذه الكراهية ضد اسرائيل، فستعاني كثيرا في حياتك، ليس على يد الاسرائيليين، ولكن على يد حكومتك نفسها!".

 

المزيد من ثقافة