برحيل عادل مقديش تفقد الساحة الفنية العربية أحد مبدعيها الكبار الذين تمكنوا من تأسيس تيار تشكيلي لافت، يغرف من الذاكرة الشعبية العربية، رموزه واستعاراته، ومن الذاكرة الفردية أحلامه واستيهاماته.
كان سؤال الهوية من الأسئلة الأولى التي وجهت أعمال عادل مقديش، وحددت خياراته الفنية والجمالية. فهذا الرجل المفتون بالألوان والأشكال، ظل يسعى بطرائق شتى، إلى تأصيل الفن التشكيلي في أديم الثقافة العربية. فعمل، من أجل تحقيق ذلك، على استرفاد التاريخ والخرافة والذاكرة الشعبية والقصص والملاحم والمنمنمات والأخبار القديمة من أجل إنجاز "فن عربي" له خصائصه المتفردة.
في مفهوم الذاكرة البصرية
هذه التجربة الفنية إنما تعول، في المقام الأول، على ما سماه مقديش "الذاكرة البصرية" وهي الذاكرة التي تختزن في نظره، رصيداً هائلاً من الصور الفكرية والبصرية يحولها الخيال، في مرحلة ثانية، إلى مجموعة من الألوان والأشكال والرموز.
والواقع أن التجارب التي يمر بها الإنسان هي، في المقام الأول تجارب "بصرية"، تتحول إلى صور ذهنية تترسب عميقاً في الذاكرة ويمكن للإنسان استرجاعها متى احتاج ذلك. وقد عد مقديش هذه الذاكرة النبع القصي لكل أعماله الفنية. فما إن يحمل فرشاته حتى تطرح هذه الذاكرة رصيدها الهائل من الحكايات والصور والسير والملاحم التي تشكل لحمة اللوحات وسداها.
إن الدخول إلى عالم مقديش دخول إلى عالم سحري يفتن العين، ويثير البهجة، ويفتح أمام المشاهد آفاقاً لا يحد منتهاها. ومثل "الخرافة" تنزع أعمال مقديش إلى التحرر من كل القيود الزمنية لتجعل مشاهدها تدور في فراغ زمني هو عالم الممكن المطلق. كما أنها تجنح إلى الانفصال عن المكان ليصبح اللامكان الإطار الذي يتحرك فيه شخوصها.
في هذه الأعمال تتراءى الجازية الهلالية وبلقيس وذات الهمة والكاهنة وعليسة، كما تتراءى بعض استيهامات الرسام وأحلامه ممتزجة ببعض العناصر المستلهمة من البيئة المحلية. يقول عادل مقديش: "أنطلق في رسوماتي من مثيولوجيات وأساطير شعبية ومن خرافات الطفولة ومن اللاوعي الجماعي ومن قاع التمزق بين الحلم والواقع". لهذا كانت لوحات الرسام عبارة عن شهادة جماعية وفردية، تاريخية وأسطورية.
كل لوحات الرسام رجع صدى لثقافة امتزجت فيها الخرافة بالتاريخ، والواقعي بالسوريالي، والأساطير الجماعية بالأساطير الشخصية.
ونلمح في كل لوحة طبقة من الإشارات بعضها واضح مألوف وبعضها غامض ملتبس، منها ما يحيل على بعض التقاليد والطقوس الجماعية، ومنها ما يحيل على بعض الأهواء والمشاعر الفردية. لكن وراء هذا المزيج من العناصر إحساس خفي بوحدة الكون والإنسان، هذه الوحدة تجعل اللوحة متناسقة على فوضى عناصرها.
الخصائص الفنية
إن لوحة عادل مقديش لوحة مزدحمة بالزخارف والأشكال والرموز، بحيث لا يعثر المشاهد داخلها، على أي مساحة بيضاء تفصل بين مفرداتها. تكتظ اللوحة بالأشكال والألوان والرموز، يأخذ بعضها ببعض. بل ربما تعمد الرسام إلى جعل لوحته "طبقات" من الإشارات المتراكبة يرتفع بعضها فوق بعض. هذا الفزع من الفراغ ربما وظفه الرسام بوصفه خصيصة من أهم الخصائص الفنون العربية الإسلامية، أي بوصفه "الشهادة" على انتماء اللوحة إلى ثقافة مخصوصة. وقد يعمد مقديش من أجل توكيد "هوية" لوحاته إلى إقحام الخط العربي، بوصفه عنصراً فنياً وجمالياً يتداخل مع بقية العناصر الأخرى من دون أن يذوب فيها.
شغف مقديش بالخط العربي جعله، في نظر البعض واحداً من الحروفيين العرب الذين تمكنوا من توظيف طاقات الحرف العربي الجمالية والفنية من أجل تحديث الفن التشكيلي. فالخط هنا ليس مجرد زخرف، وإنما هو طاقة جمالية وفكرية استدعاها الرسام ليمنح لوحاته بعداً "روحياً" لا تخطئه العين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وربما استبطن مقديش منطق "الدائرة المفتوحة"، وهو من نواميس الفنون العربية، على تباين طبائعها واختلاف أساليبها، بحيث تتجدد الحركة انطلاقاً من عنصر مفرد تجدداً لا يقف عند حد معلوم أو نهاية محتملة. لكأن العمل الفني باب مشرع على المطلق واللانهاية. هذا المنطق، منطق الدائرة المفتوحة، هو الذي جعل اللوحة، عند عادل مقديش بمثابة المتاهة التي لا يحد منتهاها. إنها مهرجان كبير من الألوان والأشكال لا تنفك تتحدى الفراغ وتهرب من النهاية. فمقديش وهو يتنكب عن عالم الواقع فإنه يؤسس عالماً جديداً هو عالم "التوهم" بحسب عبارة المحاسبي. وعبارة التوهم تشير إلى تجربة صوفية هي مزيج من الخيال والحدس والتوثب العاطفي والوجداني.
لكن أهم خصائص أعمال مقديش ألوانها الفردوسية البهيجة. وهي الألوان التي استوحاها من المنمنمات القديمة، والسجاجيد، والمخطوطات والرقوق. لكن هذه الألوان تظل، على مرجعيتها التراثية، ألوان عادل مقديش التي لا نجدها في لوحات رسام آخر سواه. ألوان شمسية مشرقة، تنهمر من مكان غير معلوم، تخاطب العين والوجدان معاً. هذا البعد النوراني في أعمال مقديش هو الذي أضفى على أعماله بعداً صوفياً واضحاً.
سيرته الذاتية
ولد عادل مقديش في مدينة صفاقس التونسية سنة 1949، انتقل إلى المغرب ودرس في مدينة الرباط، ثم انخرط في مدرسة الفنون الجميلة مدرساً، ثم في المعهد العالي للفن المسرحي. حصل على الجائزة الكبرى لمدينة تونس سنة 1982. بدأ حياته رساماً تجريدياً ثم جنح إلى الرسم السوريالي بتأثير مباشر من عمالقة الفن السوريالي مثل سلفادور دالي. أقام كثيراً من المعارض داخل تونس وخارجها، فجذب الاهتمام بحرفيته اللافتة. فالرجل يحذق قواعد الصناعة الفنية وله في تشكيل فضاء اللوحة باع طويل.
تفطن، منذ بداياته الفنية إلى المقومات التشكيلية للحرف العربي فسعى إلى توظيفه في كثير من لوحاته. ومنذ أواخر السبعينيات شق طريقاً جديدة في مسيرته الفنية تتمثل في توظيف "ذاكرة العين" من أجل فتح أفق فني جديد. فكان أن استعاد في تلك المرحلة، جانباً من الموروث الشعبي التونسي، مستدعياً على وجه الخصوص "السيرة الهلالية" التي شغلت عديد اللوحات.
في هذه اللوحات ذات الطابع الغرائبي تتلامح رغبة الفنان في الرواية والسرد من خلال المشاهد تتوالى. أراد أن يقول بالألوان والأشكال ما تقوله الخرافة بالأحداث والشخصيات. وتعد هذه المرحلة منعرجاً مهماً في حياة الفنان إذ باتت "الذاكرة التراثية" إيقاعاً متواتراً في كل أعماله لا تختفي حتى تعاود الظهور من جديد.