Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين التعارف والمغازلة والتحرش خطوط متناهية الصغر في مصر

أشياء كثيرة جرت في البلاد على مدى نحو خمسة عقود قلبت موازين الشارع والسلوكيات وقواميس المفردات

مصر تواجه ظاهرة التحرش بتشديد القوانين  (أ ف ب)

الحدود هنا متداخلة، والتعريفات متشابكة، والخطوط الفارقة مهترئة ومهلهلة. هنا، كل ما لا يمت بصلة إلى المسألة أصبح عنصراً فاعلاً فيها وعاملاً محدداً للنهاية، فإما الحبس وتوقيع أقصى عقوبة، أو نهاية سعيدة وإنجاب صبيان وبنات وحياة في تبات ونبات، أو سجال مجتمعي رهيب وشد وجذب طبقي وديني عتيد يصطدم حتماً بحائط سد عاجز عن التفرقة بين التعارف والتحرش.

قبل سنوات قليلة غرق الشارع المصري في سجال عنيف بين فريق مدافع عن شابة كانت تقف في الشارع وحاول أحدهم أن يقنعها بتبادل أرقام الهواتف فصورته وفضحته ونشرت ما جرى على منصات التواصل الاجتماعي، وفريق مندد بالشابة مدافع عن "المتحرش" وفي أقوال أخرى صاحب محاولة التعارف. الفريق الأخير انشطر ذاتياً إلى كتلتين متعارضتين: الأولى تعتبر محاولة التعارف أمراً عادياً أبعد ما يكون عن التحرش، والأخيرة متزمتة منغلقة متشددة تعتبر أن وقوف الشابة في الشارع في حد ذاته دعوة صريحة ومستحقة للتحرش وأشياء أخرى.

ما جرى في مصر

أشياء كثيرة جرت في مصر على مدى نحو خمسة عقود قلبت موازين الشارع والسلوكيات والأخلاق وكذلك قواميس المفردات. الجدات الثمانينيات والسبعينيات لهن تجارب مع "المعاكسات". مسألة "التحرش" هذه حديثة مستجدة. عبارات التشبيه بالقشدة والكريمة والعسل والبوغاشة (بقلاوة) والقمر وغيرها كانت المهيمنة على ألسنة الشباب والرجال الذين لا يجدون حرجاً في "المعاكسة"، أما أولئك الذين كانوا يجرؤون على التفوه بلفظ خارج أو الإقدام على فعل فاضح، وكانوا قلة، فإن استغاثة الأنثى كانت كفيلة بتأديبهم تأديباً شديداً.

تأديب من نوع آخر كان يلقاه ابن الجيران الذي يحاول التعرف إلى ابنة الجيران في حال افتضح أمره. لكن كم من قصة تعارف أدت إلى غرام وهيام وربما زواج وعيال من دون الحاجة إلى التطرق إلى سجال، فهل منشأ العلاقة كان تعارفاً أم تحرشاً؟

منشأ العلاقات ومعرفة الفرق بين الأغراض في العام الـ22 من الألفية الثالثة بات أمراً شديد التعقيد في مصر. فمن جهة، انضمت مصر إلى زمرة الأمم التي تحارب، ولو على مستويات القيادة السياسية فقط، التحرش الجنسي اللفظي والفعلي والنفسي بالإناث. والمقصود بمستويات القيادة السياسية فقط هو أن المجتمع نفسه بسبب ثقافة متجذرة قوّى من شوكتها مد ديني ثقافي متشدد في سبعينيات القرن الماضي يميل إلى اعتبار الأنثى أداة للجنس بمسميات مختلفة، ووجودها في المجال العام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإثارة الشهوات وتحريك الغرائز، على اعتبار أن طبيعة الذكور تحرمهم من القدرة على التحكم في شهواتهم، لذا لزم التحكم في الإناث.

المد الثقافي المتشدد

المد الثقافي بالغ التشدد، ولو ظاهرياً، طال تفاصيل الحياة صغيرها قبل كبيرها في مصر، بينها هذا الخط الفاصل بين التعارف والتحرش. وعلى الرغم من أن قوانين، وتعديل نصوص قوانين، تصدر بين الحين والآخر من أجل تغليظ أو تحديث عقوبات التحرش، فإن الخط الفاصل بين التحرش والتعارف وكيف ينظر المجتمع لكليهما أمران شديدا الالتباس. أحدث هذه التعديلات صدرت العام الماضي حاملة رقم 141 لعام 2021، ونص على أن يعاقب المتحرش بمدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز أربع سنوات، لكل من "تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأي وسيلة كانت، بما في ذلك وسائل التواصل السلكية واللا سلكية والإلكترونية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تواتر القوانين وتغليظ العقوبات وأخذ المنصات الرقمية في الحسبان لم يحل معضلة التفرقة بين التحرش والتعارف، والحقيقة أن اللفظ الأدق لـ"التعارف" في هذا الشأن هو "الغزل". تقول مريم الأسيوطي (25 سنة) "إن الثقافة المصرية تخشى تعريف الأشياء بمسمياتها. حين يود رجل أو شاب أن يتعرف إلى أنثى، أو العكس، فهذا غالباً يكون بغرض الإعجاب والانجذاب للطرف الآخر. هو ليس تعارفاً إذن بغرض تبادل الكتب أو مناقشة تطورات كورونا أو حل أزمة الطاقة النظيفة في العالم. هو تعارف مبني على انجذاب هذا لتلك، أو هذه لذاك، لذا يسمى غزلاً. لكن في ثقافتنا هناك ميل إلى إلباس كل كلمة وفعل وسلوك برداء ملتزم وربما متشدد لكن ما يجري تحت الرداء فلا غبار عليه".

لكن طبقات عديدة من الغبار تتكون كلما تخطى أحدهم حاجز محاولة التعارف أو الغزل إلى التحرش. في الثقافات الغربية يسهل التعرف إلى ما يجعل الغزل تحرشاً. كم المعلومات المتوافر التي تساعد الجميع على التفرقة بينهما وافر جداً. ولا مجال للالتباس أو الادعاء، وفي حال حدث التباس أو ادعى أحدهم أنها كانت محاولة تعارف وليست تحرشاً، فإن لا الشرطة ولا المجتمع تتعامل مع الموقف باعتبار أن "الفتاة مخطئة لأنها كانت ترتدي ملابس غير لائقة"، أو "لأنها توجهت إلى مكان مظلم وحدها"، أو "بما أنها كانت في ملهى ليلي فحتماً جاءت بغرض أن يتم التحرش بها".

شكوك وتشكيك

حين عادت شريفة رضا (22 سنة) مع والديها من أميركا حيث ولدت ونشأت إلى مصر تعرضت لمحاولة تحرش صريحة من قبل زميل لها في الجامعة. لبت رضا دعوة الزميل ليتوجها إلى مقهى معاً، لا سيما أن الشاب كان لطيفاً ووسيماً. لكن ما إن جلسا حتى بدأ يضع يده على جسدها، فما كان منها إلا أن استدعت الشرطة التي لم تدخر جهداً في توبيخها والتلميح بأنها "فتاة سيئة السلوك"، فقد جاءت برغبتها معه، فما المشكلة إذن فيما حدث؟!

المشكلة كانت أن رضا تربت ونشأت على أن هناك فرقاً بين محاولة المغازلة والتحرش الجنسي. فإذا كانت المحاولة غير مرغوب فيها أو غير مرحب بها، فهي تحرش. والمهم أن يعرف كل طرف كيف يؤثر سلوكه في الآخر بالإضافة إلى ضرورة معرفة طريقة تقبل الآخر للسلوك وليس صفاء نية الفاعل فقط أو سوئها. وفي حال كانت هناك شكوك في قبول الآخر، فليس هناك سوى طريقة واحدة للتأكد: اسأله!

لكن ما يبدو سؤالاً منطقياً هناك هو أمر غير وارد هنا. بداية القاعدة العريضة من المجتمع تعلن رفضها أي تقارب بين الجنسين سواء كان تعارفاً أو غزلاً أو تحرشاً. لكن القاعدة العريضة أيضاً هي ما يصدر عنها محاولات التعارف والغزل والتحرش. كما أن الخط الفاصل بين التعارف والتحرش في مصر مطاطي، يؤثر فيه الهيكل الطبقي وأعين المجتمع المتلصصة وميول رجال الشرطة ومعتقدات الأهل ومزاج صاحب المقهى وأيديولوجية سائق الأجرة وقدرة المتحرش على استمالة المجتمع، ليرى الواقعة محاولة تعارف ومهارة المتحرش بها في التمسك بتلابيب حقوقها البديهية بأنه تم التحرش بها وأنها لم تكن محاولة تعارف، وفي حال كانت ترتدي ملابس لا تتطابق والمعايير التي يحددها المجتمع للأخلاق الحميدة فإن الأمر يكون حقاً عسيراً، أما لو كانت هيئتها الخارجية تطابق المعايير فإن احتمالات نجاحها في رسم الخط الفارق أوفر وأضمن.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات