منذ أشهر قليلة، ارتفعت أصوات مرضى السرطان والأطباء والجمعيات المعنية في لبنان للمطالبة بإيجاد حل لانقطاع الأدوية الذي يهدد حياتهم. عاش هؤلاء المرضى معاناة لا توصف وهم يترقبون تأمين أدويتهم الكفيلة بإنقاذ حياتهم. وبعد أشهر، بدا وكأن الأزمة اتجهت إلى الحلحلة، وبدأت الانفراجات تظهر على صعيد تأمين أدوية السرطان مع آلية جديدة وضعت بين مستوردي الأدوية ومصرف لبنان ووزارة الصحة، لكن يبدو أن هذه الحلحلة كانت جزئية فقط، وسرعان ما تبيّن أن معاناة مئات المرضى مستمرة، ولم يشهدوا تحسناً في توافر أدويتهم.
معاناة يومية للمرضى
وائل طرابلسي من المرضى الذين لم يتمكنوا من البدء بالعلاج الكيماوي بانتظار تأمين الأدوية، وبعد أن خضع إلى جراحة، تبيّن للأطباء أن سرطان القولون لدى وائل في مرحلة متقدمة، والحل الوحيد أمامه هو العلاج الكيماوي. في مكان آخر في العالم، يعاني المريض في مثل هذه الحالة توتراً وقلقاً بسبب مرضه وخوفه من الأيام المقبلة، أما في لبنان، فالضغوط تزيد بمعدل أضعاف مع انقطاع الأدوية وعجز المرضى عن تأمين علاجاتهم على الرغم من كل المساعي. هذا ما يحصل مع وائل، فمنذ لحظة تشخيص حالته وهو لا يوفر جهداً مع الجمعيات والوزارة وشركات الأدوية والأطباء والمستشفيات.
يقول: "حصلت على موافقة وزارة الصحة لا أكثر. أما بعدها، فالمطلوب أن أقوم بتأمين أدويتي بعد أن أكدت جميع الجهات المعنية عدم توافرها لديها. وأمّنت لي جمعية بربارة نصار مشكورة جرعتين من العلاج، ولا أزال أسعى من أسابيع لتوفير الأدوية من دون نتيجة، حتى إن المستشفى لا يؤمنها، وفشلت محاولاتي مع شركات الأدوية. ما نعيشه اليوم كارثة حقيقية".
يعبر وائل، وهو أب لثلاثة أطفال، عن يأسه، فيما حالته تتراجع أكثر فأكثر، فتتضاعف آلامه النفسية والجسدية، ولا يجد أمامه سوى وعود من هذه الجهة، أو تلك، بالانفراج القريب، بينما يطمئنه طبيبه بأنه ليس الوحيد الذي يعيش هذه الحالة. أما توفير الدواء من خارج لبنان فتكاليفه خيالية بسبب أسعار الأدوية المرتفعة بالدولار، بينما لا يزال الدواء مدعوماً في لبنان، لو كان متوافراً. فكيف له أن يُؤمّن آلاف الدولارات لأدويته من خارج لبنان؟
حلحة جزئية
لا تختلف معاناة وائل عن تلك التي يعيشها مئات المرضى في لبنان الذين لا يفارقهم هاجس الموت. فالتطور الطبي في علاج السرطان، وما بلغه التقدم في هذا المجال في لبنان على مستوى الأدوية أصبح من الماضي، نظراً لما آلت إليه الأمور. أصبح المريض يحلم بتأمين الأدوية لكل جلسة علاج قبل أن يحلم بالتعافي من المرض، حتى إن الانفراج على مستوى أزمة الدواء الذي جرى الحديث عنه لم يكن كما رُسمت الصورة بتأكيد من المرضى والأطباء. وبحسب مؤسس جمعية بربارة نصار لدعم مرضى السرطان، هاني نصار، الذي يعيش معاناة يومية في مساعيه لتوفير أدوية المرضى، الحديث عن تحسن ملحوظ على مستوى توافر أدوية السرطان ليس صحيحاً.
ويقول: "في منتصف موسم الصيف، وبعد كل التحركات، حصلت حلحلة جزئية بعد أن كانت الأدوية مقطوعة تماماً. إنما الموافقة التي يعطيها مصرف لبنان لدعم الأدوية تحصل وفق آلية معينة تتم شهرياً، فيما تنتهي كميات الأدوية المتوافرة في هذه الفترة. ثمة مشكلة واضحة في المنهجية المتبعة، حيث يحصل تأخير واضح في التوقيع والموافقة على الفواتير المستحقة، ما يؤخر وصول الشحنات. يضاف إلى ذلك أن المبلغ المخصص لأدوية الأمراض المستعصية محدود ولا يكفي لتلبية حاجات كافة المرضى.
ويبدو أن المعاناة الكبرى في المستشفيات الصغيرة لاعتبار أن حاجات المستشفيات الكبيرة تؤمّن أولاً. هذا، دون أن ننسى فواتير المستشفيات الخيالية في حال تأمّنت الأدوية، ما يزيد من التحديات في دعم المرضى ومساعدتهم، خصوصاً أن أعدادهم قد زادت أيضاً. فقد زادت فاتورة المستشفى بما لا يقل عن 6 أضعاف وتغطية الجهات الضامنة محدودة جداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنسبة للجهات المسؤولة ليس أمام المرضى إلا ما هو متوافر حالياً، ولا بد من التأقلم مع هذا الوضع. أما المطلوب، بحسب نصار، فهو التغيير في الآلية المعتمدة حتى لا تستمر هذه المعاناة وتشتد حدة كل شهرين، ففي ذلك خطر كبير على حياة المرضى. وحتى بالنسبة للمريض الذي يكتشف مرضه في بداياته، تتراجع فرص تعافيه بسبب عدم توافر أدويته، فيُحكم عليه بالموت البطيء، ومن المرضى في لبنان من لم يتلقوا علاجهم منذ 9 أشهر، علماً بأن كل جلسة تستدعي توفير حقن المناعة والأدوية الخاصة لضبط الآثار الجانبية للعلاج ومسكنات الألم، إضافة إلى أدوية العلاج بذاته. فإذا كان دواء السرطان مدعوماً، وثمنه رخيصاً للمريض اللبناني، ما الفائدة من دعمه إذا لم يكن متوافراً؟
مع الإشارة إلى أنه في مرحلة سابقة، أُدخل الدواء الإيراني إلى البلاد على الرغم من عدم توافر دراسات كافية حوله، وعندما أجريت مناقصة، وفازت بها الشركة المنتجة رفض مصرف لبنان دعمه فتُرك المريض من دون أي دواء.
أساس المشكلة
المشكلة الأساسية بحسب نقيب مستودري الأدوية كريم جبارة في أن ثمّة مبلغاً معيناً مرصوداً لأدوية السرطان، ولا يمكن زيادته، وهو يكفي لتلبية حاجات نسبة 80 في المئة من مرضى السرطان في لبنان تقريباً. وتبقى حاجات النسبة الباقية غير مؤمّنة، وهذا ما يولد أزمة، وإن اختلفت أنواع الأدوية المتوافرة بين فترة وأخرى إلا في حالات استثنائية. يضاف إلى ذلك انعدام المخزون الاستراتيجي المتوافر من الأدوية، كما في السابق، حيث إنه يمكن أن يحصل تأخير في الحصول على موافقة المصرف المركزي على الفواتير وإجراء الطلبية ووصول الشحنات بمعدل أسبوع أو أسبوعين. وبغياب أي مخزون إضافي من الأدوية من الطبيعي أن يتأثر المرضى بهذا التأخير، فهم يدفعون الثمن في النهاية... "في السابق، كنا نستخدم المخزون المتوافر في حال حصول تأخير في وصول الشحنات، وهو ما ليس ممكناً حالياً. والحل الوحيد اليوم هو بتوفير تمويل إضافي لزيادة المبلغ المخصص لأدوية السرطان بما يسمح ببناء مخزون وسد حاجات المرضى كافة لتسهيل حياتهم والحد من معاناتهم".
ومن المتوقع أن تصل في الأسبوعين المقبلين شحنات أسبوعية مُتتالية من الأدوية. إنما في كل الحالات يبقى المال عائقاً من جهة، والآلية أيضاً، وما تتطلبه من إجراءات روتينية لا مفر منها.
وهذا ما تؤكده أيضاً رئيسة مصلحة الصيدلة في وزارة الصحة العامة، كوليت رعيدي، التي تؤكد أن ثمّة ميزانية مخصصة لأدوية السرطان، وهي أقل من السابق، ولا إمكانات إضافية لتلبية حاجات السوق كافة. وتقضي الآلية الجديدة الواضحة التي وُضعت، بالحصول على موافقة مسبقة من مصرف لبنان، فتقوم وزارة الصحة بدراسة الفواتير استناداً إلى الحاجات، ويحول المصرف المبلغ المطلوب للاستيراد.
وتضيف: "قد تبدو هذه العملية معقدة مقارنة بما كان يحصل في السابق، إنما الهدف منها تجنب انقطاع الأدوية والحرص على توفيرها للمرضى بعدما حصل من معاناة، بما أن المبلغ المخصص لهذه الأدوية أقل من السابق، ولا يمكن الاستمرار من دون استراتيجية مدروسة وآلية واضحة تحدد الجهات التي يمكن أن تتعاطى في هذا المجال حتى لا تبقى الفوضى مستمرة".
من جهة أخرى، بسبب الوضع الاقتصادي المتردي، زادت معدلات العوز والفقر في لبنان، وإذا كانت وزارة الصحة تغطي حاجات نسبة 40 في المئة من المواطنين سابقاً تقدر رعيدي أنها تغطي اليوم نسبة 70 في المئة، ويبقى العائق الأساسي في الميزانية المحدودة المخصصة لهذه الغاية، والتي لا يمكن زيادتها بسب تراجع الإمكانات.
أما توافر التمويل من الخارج فقد يكون الحل الأمثل أيضاً بالنسبة إلى رعيدي فيما تشير إلى أن منظمات عديدة تساعد، ولو ضمن إمكاناتها المحدودة.
أياً كانت أسباب الأزمة، يبدو واضحاً أنه لا حلول في المدى المنظور، وأن المريض يبقى الضحية الأساسية، وهو من يدفع الثمن. فهل يمكن أن يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل سنوات، حين كان علاج السرطان الأكثر تطوراً في العالم يصل أولاً إلى المريض اللبناني كما يؤكد الأطباء؟