يطرق الباحث المغربي محمد العناز باب النقد الأدبي بقوة، في مبحثه الأخير بعنوان "الحكائي والشعري في القصيدة العربية الحديثة" (دار الفاصلة للنشر، طنجة 2022). ويعاود طرح مسألة في النقد الأدبي الحديث والمعاصر، كان سبق التلميح إليها، من دون الاستغراق، والتعمق، والتصنيف الدقيق، والتأويل التي يُستعان فيها بالعلوم المتداخلة، أو ما بات يدعى، في مجتمع المعرفة بالعلوم "البينية".
الكتاب إذاً هو إحدى ثمار البحث الأكاديمي الجاد، والاطلاع الواسع على الشعر العربي الحديث والمعاصر، تُضاف إليهما ثقة في استخدام مصطلحات علمية، جرى اعتمادها في الدراسات السردية والشعرية الغربية، وترجمت إلى العربية، ودقة في التصنيف والوصف. أما الموضوع المحوري، بل الإشكالية، في لغة البحث العلمية فتتمثل في شيوع السرد، بل الحكي، في الشعر العربي الحديث من دون أن يعيره النقد الحديث عناية لائقة بمقامه، أو يجري له إحاطة كاملة، تظهر البنى الشعرية الشديدة التنوع التي أطلقتها التجارب الشعرية العربية الجديدة، بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، وانتهاءً بالعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، والمتمثلة بتراث الشعر الحر وبقصيدة النثر، على حد سواء. ويقول الكاتب في هذا الشأن: "تناولت في هذا الكتاب مجموعة من الإشكالات التي ترتبط بإبراز الحدود بين الحكائي والشعري ومواطن تفعلهما وآليات انفتاحهما من داخل الأجناس الأدبية ومستويات حضور المكونات السردية في القصيدة الشعرية الحديثة..." (ص14).
المصطلحات والمفاهيم
ولما كان البحث العلمي لا يستقيم من دون تعريف مناسب لأهم المصطلحات والمفاهيم الجاري استخدامها، يمضي الباحث محمد العناز إلى إعادة تعريف الشعر، لا بحسب مراجعه العربية القديمة، التي تعينه في حدين أو ثلاثة على الأكثر (الكلام موزون مقفى، معنى مناسب للمقام وصور شعرية)، وإنما بحسب المراجع الغربية، قديمها وحديثها، من أرسطو إلى هيغل، فإلى رينيه ويليك، وفاليري، وبودلير، ومالارميه، ونوفاليس، وصولاً إلى سعيد علوش، وأدونيس، وغيرهما. ومفاد هذه التعريفات أن الشعر تعبير "يتميز بالمسافة التي يقيمها مع غيره من الأجناس الأدبية – ولا سيما السردية منها - وأنه مرتبط بالذاتية والغنائية والحدس، ومهما ادّعى البعض بكونه يرتبط بالتقاليد أو بالتاريخ أو التعبير الخارجي، فإنه لا يخرج عن كونه إعادة صياغة للعالم وخلقه من جديد داخل اللغة عن طريق إيجاد علاقات جديدة بين عناصر العالم وموضوعاته، لأن الشعر لا يبني عالمه من صياغة الفكرة من حيث هي قضية واضحة" (ص27)، وإنما من حيث هو نتاج رؤية خاصة، بل فريدة، ودرامية، ومتعددة الأبعاد، أيضاً.
وعلى هذا، كان من اللازم أن يستكمل الباحث النظر في مصطلح السرد، والحكي، والزمان، وتجلياته في الرواية (الاستباق والاستغراق والقطع والاستعادة)، والمكان، والحبكة، والرواية، وتعدد الأصوات فيها، والتناص. ومن ثم ينظر في العلاقة الحوارية التي يقيمها الشعر مع السرد، ويفصل في مفهوم انفتاح النص كما أراده أومبرتو إيكو وأدونيس، ويدحض أسطورة الشعر الصافي والبعد الجمالي فيه، إلى أن يبلغ قصيدة النثر التي يراها جنساً قائماً بذاته، أقرب ما تكون قالباً لغوياً نثرياً، تعبره الأنا الغنائية، ويبرز السرد فيها مكوناً لا لبس فيه، وحاملاً دلالات جديرة بالتحليل والتأويل.
المدونات الشعرية
إذاً، بعد أن يطمئن الباحث إلى مراجعه العلمية الدقيقة، في الشعر والسرد، وفي المفاهيم الوصفية العائدة إلى كل منهما، في الباب الأول المعتبر إطاراً نظرياً ضافياً (ص7-141)، والمقسم إلى أربعة فصول، يمضي إلى استنطاق المدونات الشعرية الحديثة، في الباب الثاني بعنوان "مكونات الحكائي في القصيدة العربية الحديثة"، وفيه أربعة فصول أيضاً، بالعناوين الآتية بحسب ورودها: قصيدة الحبكة، وقصيدة الحدث، وقصيدة الشخصية، وأخيراً الحكي والصياغة الفنية.
في الفصل الأول، عُنيت "قصيدة الحبكة" يتخذ الكاتب نموذجاً لدرسه، وتبيان صحة استخلاصه، قصيدة للشاعر العراقي سركون بولص، بعنوان "رجل مريض بالقلب يتنزه على الشاطى"، والمستلّة من ديوانه "عظمة أخرى لكلب القبيلة"، وينتهي فيها إلى إثبات مطابقة بنية القصيدة المضمونية مع الحبكة القصصية التي تشد أطراف القصيدة، وتقوم الأنا الغنائية بعملية الربط، وبث الانطباعات الفريدة في ثناياها: "نوارس تطفو في الهواء، مناقيرها/ البرتقالية، عيونها الصفراء ترصد البحر/ وبين حين وآخر قد تحظى بسمكة/ تشي بها حراشفها الساطعة تحت الماء".
ومن ثم، ينتقل الكاتب إلى استجلاء ما سماه "الحدث المتنافر" في القصيدة الحديثة، والذي عنى به أن الشاعر، قد يلجأ إلى حدث منفرد، أو أحداث منفردة، من دون اندراجها في تسلسل منطقي أو قابل للصدقية. ومع ذلك، تظل الأنا الغنائية مؤدية دور الرابط المنطقي بين وقائع الحدث المتنافرة. ويورد الكاتب أمثلة على ذلك من كتاب سيف الرحبي، بعنوان "حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة". يقول: "السحب تمضي بيننا كثيفة ثقيلة/ والأرض توقفت عن الدوران، متجمدة/ كشاهدة قبر بين خرائب ومجرات/ والزمن يتكور على نفسه أفعى لا نهاية/ لزحفها الأسطواني كأنما العود الأبدي/ هو التجسيد الأعلى للعقاب".
الزمان والمكان
يتبين للكاتب أيضاً، في السياق عينه، أن عنصري الزمان والمكان قد يشكلان مدخلاً إلى الحكي في الشعر، ويورد شواهد على ذلك من المجموعة الشعرية المدروسة، آنفاً: "ألمح الشبح خلف الزجاج/ في شارع الزهراء/ كان يمشي بطيئاً متثاقلاً/ كأنما الأرض تربض على كاهله/ كأنما الثقلان/ وحيداً في حلكة الدروب/ يمضي نحو حي بولاق القريب/ الذي سيصله متأخراً/ وربما لن يصل/ وتبتلعه هاوية الريح".
ولدى انتهاء الباحث من الباب الأول، وقد أثبت، بالنماذج الشعرية المنتخبة، صحة استخلاصاته الأولية المطابقة للإطار المرجعي الحديث والمعاصر، انتقل إلى المرحلة الثانية، المتمثلة في الباب الثاني من دراسته الجامعة، وفيها يخضع العديد من النصوص الشعرية، سواء من الشعر الحر، أو من قصيدة النثر، للدرس والتحليل، ليبين أن الشعراء كتابها مالوا بقوة إلى السرد، بل إلى الحكاية، وأن ثمة نماذج بذاتها يمكن درسها، وهي على التوالي (قصيدة الحبكة، وقصيدة الحدث، وقصيدة الشخصية)، وأنه بات للحكي، في الشعر العربي الحديث، أشكال وصيغ فنية لم يسبق إليها في التراث الشعري العربي الكلاسيكي. والشعراء الحديثون، إذ ينأون عن الصيغ التقليدية، في التراث الشعري القديم، حيث يتداخل الحكي عفوياً مع الوصف والتعليق، ومع أغراض الغزل، والمدح، والحماسة، والفخر، والسير البطولية، وغيرها، فإنهم باتوا يستعيرون من الأجناس (الأنواع) الأدبية الحديثة، مثل الرواية والقصة القصيرة، وفن السينما، والتصوير، الكثير من القوالب والأشكال والمفاهيم ليصوغوا بها تجاربهم الشعرية الملائمة لرؤاهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمضي الباحث إلى مزيد من الأبحاث الجزئية، يحلل بها أشكال الصيغ الحكائية في الشعر العربي الحديث والمعاصر، من خلال نماذج لكل من الشعراء: قاسم حداد، وشوقي بزيع، وسركون بولص، وأمجد ناصر، وغيرهم. أما الصيغ الحكائية في الشعر فتراوحت بين الحبكة التامة، ذات بنية ثلاثية (بداية، ووسط، وونهاية)، يمثلها الشاعر قاسم حداد، في قصيدته عن "حكاية الشاعر قيس ليلى"، وبين الشخصية، باعتبارها ركناً في بنية الحكي، وتمثلت في قصيدة "فراشات لابتسامات بوذا" العائدة للشاعر شوقي بزيع، شخصية ذات بعد رمزي، ودالة على تحقق سمو الإنسان، حين صور الأضداد كلها مجتمعة فيه، يقول: "وتماهيت مع كل ضد/ إلى أن غدوت نباتاً ومرعى وقطا/ وفأراً وثوراً وفيلاً وطفلاً وكهلاً/ ومهداً وقبراً وشاهدةً فوق قبر وحصالةً/ للدموع وصناجة للسعادة وامرأة/ وخروفاً وذئباً..."، ثم انتقل إلى قصيدة الحبكة البسيطة، ممثلة بقصيدة للشاعر محمد علي شمس الدين، بعنوان "أبعد إليه من غيم أيلول"، وفيها حوار بين الطفل ميمون وأمه عن الطائرة والطيور، وعن الحرية والأسر، وقوانين الفضاء والسماء، ونقائضها في الأرض: "كان ميمون طفلاً صغيراً/ ولكنه يقظ مثل طفلين في أول المدرسة/ قالت له أمه: هذه طائرات اللعب/ لا تحطم جوانحها/ ولا تجعل الخيط يفلت من قبضتك...".
ومن ثم كانت الالتفاتة إلى قصيدة الحبكة وبناء الرحلة، في قصيدة للشاعر ياسين عدنان، من ديوان "دفتر العابر"، وفيها يستقصي الشاعر، الأماكن والمدن، ويطلق ذاته الانفعالية والغنائية العابرة ليسقط عليها جميعاً غلالتها القاتمة.
يتضح للقارئ النَّبِه أنه يستحيل تقديم بحث أكاديمي، جامع وضاف ويكاد يكون موسوعياً وشاملاً، كالذي قدمه الباحث المغربي الشاب محمد العناز، أو إيجازه بكلمات قليلة أو كثيرة، بل بموجز العبارة، الكتاب الذي استقيتُ منه سطوراً قليلة لمحض الإشارة إلى مضمونه، يمكن اعتباره، عن حق، مرجعاً في درس الحكي الشعري، ومدخلاً صلباً لدرس شعرية السرد الشعري.