كانت وكالات الأنباء العالمية تتزاحم قبل أسابيع قليلة فقط على نعي سيلفيو برلسكوني بعد نقله على عجل إلى المستشفى.
فرئيس الوزراء الإيطالي الاسبق، 82 عاماً، المعروف بحفلاته الماجنة وهفواته الصادمة الكثيرة على الساحة الدولية، كان في خضمّ حملته الإنتخابية الأوروبية عندما نُقل إلى المستشفى على جناح السرعة لإجراء جراحةٍ في الأمعاء.
عندها، خشي برلسكوني من أن تكون "ساعته قد حانت"، هو الذي عانى ما عاناه من المشاكل الصحية في السنوات الأخيرة وخضع لعملية جراحية في القلب عام 2016.
هذه ليست المرة الأولى التي يقترب فيها السياسي سيء السمعة من الموت ليعود بعدها إلى الحياة. وهو فعلاً غادر فراش المرض هذه المرة ليعود إلى حملته الإنتخابية ويفوز بمقعدٍ في البرلمان الأوروبي.
ويأمل برلسكوني أن يكون فوزه بالانتخابات الخطوة الأولى على طريق عودته إلى أروقة السلطة، بعد أن أُجبر على التخلّي عن مقعده البرلماني على خلفية إدانته بالاحتيال الضريبي عام 2015. وكانت محكمة إيطالية قد رفعت العام الفائت الحظر الذي كان يمنع برلسكوني من تولّي منصبٍ عام، موضحة أنها فعلت ذلك بسبب سلوكه الحسن.
ويقول جيوفاني أورسينا، مدير كلية الحوكمة في جامعة لويس في روما، كان برلسكوني من أوفر المرشحين حظاً بالفوز وفق نظام التمثيل النسبي المعتمد في الإنتخابات الأوروبية، باعتبار أن اسمه كان الأول على لائحة حزبه في أربع دوائر إنتخابية من أصل خمسة.
وبالتالي، "كان على كلّ مَن أراد إنتخاب "فورتسا إيطاليا" (إيطاليا إلى الأمام)، أن يُصوّت لبرلسكوني. فالمقترعون يؤمنون به شخصياً، وقاعدته المخلصة تُبرّئه من أي خطأ".
وفي حديثٍ له يوم الاثنين الماضي، أعلن الرجل نفسه أنّ نتيجة الانتخابات تؤكّد أنه " لايزال من غير الممكن الاستغناء عنا"، ومن دون "فورتسا إيطاليا"، لا يُمكن ليمين الوسط أن يفوز... في بروكسل، سأظلّ السدّ الوحيد في وجه النزعة القومية المعادية لأوروبا. لا أستطيع القيام بأكثر ممّا قمتُ به. لقد بذلتُ قصارى جهدي".
وكان برلسكوني قد أُجبر على التنحّي من منصبه كرئيسٍ للوزراء عام 2011 بعد الأزمة التي ألمّت بالاقتصاد الإيطالي خلال عهده ومهّدت لنشوء حكومة تكنوقراطية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحفلت سنواته الأخيرة على رأس الحكومة بمزاعم لطخت سمعته، و تشتمل على تهم فساد وروايات عن حفلات ماجنة، أو "بونغا بونغا"، كان يُعدّها في فيلته الفخمة خارج مدينة ميلانو.
وفي هذا السياق، وُجّهت إليه تهمة ممارسة الجنس غير المشروع مع قاصر هي روبي "سارقة القلوب"، 17 عاماً، راقصة الملاهي الليلية. ولكنّ محكمة الاستئناف برّأته بعد أن شهدت مجموعة من النجوم بأنّ تلك الأمسيات لم تكن سوى "حفلات عشاء راقية".
وبعد إقصائه عن السياسة، نفّذ برلسكوني، الذي عمل في بداية حياته كمطرب على متن السفن السياحية، عقوبة الخدمة المجتمعية في دارٍ للمسنين حيث برع في الغناء وفي أداء للعبة البينغو. لكن بعد رفع الحظر عنه في العام الماضي وصار بوسعه أن يتولى منصباً عاماً، لاحت للزعيم "المافيوسي" فرصة العودة مرة أخرى إلى ميادين السياسة.
هكذا أعلن ترشّحه للإنتخابات الأوروبية في كانون الثاني (يناير)، قائلاً إنه في سن الـ82 عاماً "الجميل"، قد شعر "بالمسؤولية وقرر التوجّه نحو أوروبا التي تفتقر للتفكير العميق حيال العالم". ومنذئذٍ وهو يعزف على أوتاره المعهودة من الفكاهة الباهتة والسياسات الشعبوية، بما فيها خفض الضرائب وحقوق الحيوان.
لكنّ الكثير قد تغيّر منذ تنحّي برلسكوني رئاسة الوزراء، فحزبه خسر عدداً كبيراً من ناخبيه التقليدين في أعقاب انضمام أصحاب الميول السياسية المحافظة في إيطاليا إلى "رابطة الشمال" اليمينية المتشددة، وهي تُعتبر اليوم الحزب الأكثر شعبية في إيطاليا بقيادة ماتيو سالفيني وزير الداخلية نائب رئيس الوزراء.
وفي إنتخابات العام الماضي، نال حزب برلسكوني 14% فقط من الأصوات، وهو تراجع كبير في عدد الأصوات عنه في 2008 حين بلغت نسبة أصواته 37%. وبالتالي، كان من الخطر جداً أن يشارك حزب برلسكوني في التحالف الحاكم في إيطاليا، الذي يجمع حالياً بين "رابطة الشمال" اليمينية المتطرفة وحركة "خمس نجوم" المناهضة للهيئات في شراكة مضطربة.
وعدا ذلك، يُواجه برلسكوني اليوم محاكمةً ثانية بتهمة دفع الرشاوى لشهود في قضية روبي بغرض إقناعهم بالتكتم على معلومات من شأنها أن تؤذيه.
وكانت الوفاة المفاجئة لشاهدة الادّعاء الرئيسية، العارضة إيمان فاضل، في كانون الثاني (يناير)، قد أذكت الافتراضات بدسّ السمّ لها في إطار مؤامرة تمّ تدبيرها على سبيل التغطية، مما كان يُنذر بنسف مشروع برلسكوني للعودة الى الواجهة السياسية. ويؤكد رئيس الوزراء الاسبق أنه لم يلتقِ الضحية في حياته وأنّ "أقوالها كانت على الدوام غير منطقية وأقرب إلى التخريفات منها إلى الحقيقة".
يعتبر برلسكوني نفسه رجل دولة كبير في السن وصاحب خبرة طويلة في العلاقات الدولية. لكنه، في الحقيقة، أحرج ايطالياً مراراً وتكراراً على المستوى الدولي وروّع موظفي الاتحاد الأوروبي بنكاته الصبيانية، حين كان في السلطة.
فهو الذي اقترح على السياسي الألماني مارتن شولز لعب دور حارسٍ في معكسر للاعتقال في فيلمٍ حربي، ونُقل عنه وصفه لأنجيلا ماركيل بـ"البدينة غير المغرية." وربما كان برلسكوني في وقتٍ من الأوقات بمنزلة أسوأ كوابيس القادة الأوروبيين، غير أن عودته اليوم مع كلّ هفواته الغريبة إلى حضن أوروبا المفكّكة، هي أكثر من مرحّب بها. "فهو أفضل ما يمكن أن يحلموا به"، كما يقول أورسينا.
وفي حال حدوث تصدّع على مستوى التحالف الحاكم في إيطاليا بعد الانتخابات الأوروبية، كما يبدو محتملاً، سيكون هناك انتخابات جديدة في الخريف. وعندئذٍ، قد ينجح حزب "فورتسا إيطاليا" بالعودة إلى الحكومة كجزء من ائتلاف يمين الوسط إلى جانب "رابطة الشمال" بزعامة سالفيني.
لكن بالنّسبة إلى مايكل داي، مؤلف كتاب "أن تكون برلسكوني: النهوض والسقوط من كوزا نوسترا إلى بونغا بونغا"، فإنّ أيّ عودة لبرلسكوني إلى الواجهة السياسية لن تدوم طويلاً وستكون بمنزلة المقدمة التي تمهّد لسقوطه النهائي.
ويقول داي "سيهدأ كبرياؤه لفترةٍ وجيزة، إذ أنّ فوزه بمقعد في الانتخابات الأوروبية لا يُغيّر الكثير حقيقةً. وإذا كان تأثير برلسكوني استثنائياً عندما كان في ذروة نفوذه، فذلك لأنه كان خليعاً وصاحب ثروة على رأس دولةٍ تابعة لمجموعة الدول الثمانية.
ولكنّ نجمه اليوم بدأ بالأفول. والأصوات المزرية التي أحرزها "فورتسا إيطاليا" وبلغت 8.8% أيّ ربع ما حقّقه الحزب عندما كان في ذروته حين سجّل 37% عام 2008، تؤكّد مدى إحكام سالفيني واليمين المتطرف سيطرتهما على الحكم اليوم".
ويرى أورسينا، أن سالفيني نفسه يبذل ما في وسعه لعرقلة عودة برلسكوني إلى الحياة السياسية، على أمل أن ينجح بتشكيل تحالفٍ ليمين الوسط من دون رئيس الوزراء الأسبق. "برلسكوني يُصيب جزءاً لا يُستهان به من الناخبين بالإحباط، وهو سيكون عبئاً ثقيلاً، لا يرضى بالبقاء على الهامش حتى وإن شريكاً ثانوياً ضمن ائتلاف واسع".
كان برلسكوني دائماً هو الذي يضفي على نفسه طابعاً أسطورياً، وقد قيل أنه يطمح بالوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية في إيطاليا. لكنّ هذا الحلم ذهب أدراج الرياح اليوم مع هذه الأصوات القليلة التي نالها.
والأرجح أن يقتصر إرثه الفعلي على تشويه السياسة بفضائح المجون والفساد التي شابت مسيرته المهنية ووصمت السياسة الإيطالية، متسببةً بشكلٍ ساخر بظهور الجيل الجديد من القوى الشعبوية.
© The Independent