أحمد (32 سنة) كان يحلم بالالتحاق بالعمل الدبلوماسي لكنه أخفق غير مرة في اختبارات الالتحاق. قرر أن يعوض ما فاته من عمل يجمع بين السياسة والدبلوماسية والـ"برستيج" الاجتماعي، فاستكمل دراساته العليا وحصل على درجة الماجستير في العلاقات الخارجية، وسجل للحصول على درجة الدكتوراه التي يأمل في إنجاز أطروحتها خلال الأشهر القليلة المقبلة. تسأله عن العمل، فيمصمص شفتيه وتظهر على وجهه علامات الإحباط، ويقول إنه يعمل في تسويق العقارات، آملاً في أن يلتحق بجامعة خاصة يدرّس فيها بعد حصوله على درجة الدكتوراه.
مروة (38 سنة) تخرجت من كلية الإعلام والتحقت بصحيفة يومية خاصة كمتدربة بهدف التعيين بعد عام على أحسن تقدير. مرّ عام ثم عامان وثلاثة وأربعة وهي "متدربة". أقنعتها والدتها بالتسجيل للحصول على الماجستير، وهو ما فعلته وحصلت عليه بعد نحو ثلاثة أعوام. إدارة الصحيفة التي تعمل فيها رصدت لها 250 جنيهاً مصرياً (نحو 16 دولاراً أميركياً) كمكافأة. لكنها ظلت متدربة. في تلك الأعوام، كانت نواقيس "متى تتزوجين؟" و"لماذا لا تتزوجين؟" و"هل تتزوجين قريباً؟" تدقّ بعنف لبضعة أعوام، فلم يكُن هناك بد من التسجيل للحصول على درجة الدكتوراه التي حصلت عليها قبل أشهر، وأصبحت "دكتوره مروة" لتصبح دكتوره مروة المتدربة.
لكن عالم الدراسات العليا لا يأوي فقط الهاربين من إخفاق تحقيق حلم العمل أو إحباط التدريب من دون تعيين ومطاردات الأهل والأصدقاء بغرض الزواج وإنجاب العيال. فما زال هناك من يُقبل على إكمال ما يُسمّى بـ"الدراسات العليا" بعد التخرج من الجامعة للحصول على "ديبلوما" أو "ماجستير" وربما "دكتوراه"، وأحياناً أكثر من درجة في غير تخصص. أما الأسباب فكثيرة.
جراح الدكتوراه
قبل أيام قليلة، نكأ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جرح الدراسات العليا الغائر والجائر. عقود طويلة من الثقافة التي جعلت لقب "دكتور" غاية بغض النظر عن الهدف أو السبب أو الاحتياج في سوق العمل، اصطدمت بجدران الواقع. الواقع يشير إلى أن سوق العمل لا تحتاج الأعداد "الغفيرة" التي تحصل سنوياً على درجات الماجستير والدكتوراه، وإن احتاجت فهي تحتاج تخصصات بعينها هي الأقل وجوداً بين المعروض.
الرئيس المصري قال إن كثيرين يحصلون على درجتَي الماجستير والدكتوراه، "وهذا شيء جميل"، ولكن في علوم ليست مطلوبة في سوق العمل.
شغف وملل
"اندبندنت عربية" سألت عدداً من الحاصلين والدارسين لدرجتي الماجستير والدكتوراه عن أسباب المضي قدماً في مجال الدراسة، فجاءت الإجابات بالغة التنوع. الأطباء قالوا إن درجة الدكتوراه ضرورية لإعطاء الطبيب القدر الكافي من العلم والمعرفة. ومنهم من أشار إلى أن المريض أو أهله حين يبحثون عن طبيب، فإن أول ما يسألون عنه هو "شهاداته"، وكلما كان حاملاً في جعبته عدداً كبيراً منها، كلما ذاع سيطه وزاد عدد المنتظرين في عيادته. مهندسون ذكروا أن لقب "المهندس الاستشاري" يستوجب درجة "دكتوراه" على الرغم من أن البعض يعطي نفسه حق كتابة "استشاري" وهو حاصل على درجة البكالوريوس فقط. عدد كبير من الحاصلين على درجتي الدكتوراه والماجستير لا خيار آخر لديهم طالما أنهم ملتحقون بمجال التدريس الجامعي. لكن تظل هناك إجابات تعكس اختلافات كثيرة وكبيرة بين شغف شديد بمجال الدراسة وملء وقت الفراغ، ولأن "ابن خالتي" أو "ابنة عمي" ليس أفضل مني أو بحثاً عن مكانة اجتماعية لا يحققها إلا إلحاق "دال نقطة" قبل الاسم.
بشكل عام، يميل المصريون إلى عشق الألقاب. وعلى الرغم من إلغاء ألقاب الباشوية والبكوية عقب ثورة يوليو (تموز) عام 1952، إلا أن ملايين المصريين يستخدمونها في العقد الرابع من القرن الحادي والعشرين لأسباب تتعلق غالبيتها بـ"البرستيج". وقبل أعوام، كتب المؤرخ والكاتب الراحل عباس الطرابيلي أن عشق المصريين للألقاب بلا حدود، وأنهم لم يتحمّلوا إلغاء ثورة يوليو للألقاب المدنية في 2 أغسطس (آب) 1952، أي بعد أقل من أسبوعين من الثورة، وبموجبها لم يعُد هناك "بيك" و"باشا"، أو "صاحب العزة" أو "صاحب السعادة"، لكن سرعان ما عادت الألقاب ولكن من منطق آخر وهو الانتساب لحقل العلم والتعليم.
وأضاف: "شاعت ظاهرة لقب الدكتور، وهي درجة علمية يحصل عليها الدارس بعد إعداد رسالة علمية معمقة، وتتم مناقشته فيها مناقشة قاسية من قبل الأساتذة، ثم يتم منحه درجة الدكتوراه، وهو أمر قد يستغرق سنوات طويلة".
وأشار الطرابيلي إلى ظاهرتين حديثتين نسبياً وهما: "شراء" درجة الدكتوراه بعد تكليف أحدهم أو مجموعة بأكملها من "الخبراء" بكتابة الأطروحة، والثانية هي درجات الدكتوراه المشكوك في محتواها وقيمتها من دول أجنبية عدة، اكتسبت صيتاً في هذا الشأن. واعتبر الطرابيلي السعي للحصول على درجات علمية بغرض التباهي والمشترين لها، "آفة الآفات".
آفة الآفات
لكن يبدو أن آفة الآفات الحقيقية ظهرت معالمها في أعوام الوفرة في الدرجات والرخاوة في الغايات. وعلى مدار عقد كامل، أخذت الآثار الجانبية لوفرة درجات الدراسات العليا التي تصل إلى درجة التخمة تعبّر عن نفسها في صورة أزمات بين وقت وآخر.
أزمة كبرى شهدتها مصر تفجّرت عشرات المرات في أعقاب أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، وما تبعها من سنوات فيها قلاقل كثيرة وما سُمّي بـ"التظاهرات الفئوية". الغريب أن المصريين أدرجوا تظاهرات الحاصلين على درجتي الماجستير والدكتوراه مع عمال المصانع وعمال اليومية وموظفي الشركات والممرضات وأمناء الشرطة الحاصلين على دبلومات فنية، وغيرها من الفئات التي داومت على تنظيم وقفات احتجاجية في أشهر ما بعد أحداث عام 2011، للمطالبة بزيادة الرواتب أو التعيين أو زيادة المكافآت أو المساواة بمن هم أعلى منهم في الهرم الوظيفي أو السلم الاجتماعي، باعتبار كل ما سبق "تظاهرات فئوية".
اللحاق بالميري
فئة حاملي الماجستير والدكتوراه تلخّصت مطالبها في اللحاق بالميري، بمعنى آخر ظل مئات الحاملين لهاتين الدرجتين في تخصصات مختلفة ينظمون وقفات وتظاهرات، وأسسوا "روابط" و"جماعات" و"مجموعات" من أجل التعيين في الجهاز الإداري للدولة. الغريب أن هذه المطالبات لم ترتكز على حاجة الجهاز الإداري للدولة لحملة الدرجتين في مجالات بعينها، بل ارتكز في غالبيته على أن من يحمل درجة الماجستير وبالطبع الدكتوراه جدير بالتعيين الحكومي من دون شك أو ريب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القصص التي قصّها كثيرون وكثيرات من المشاركين في هذه الاحتجاجات قبل أعوام قليلة قالت كثيراً. فبين باحث دكتوراه في القانون يشكو عدم قدرته على إنهاء أطروحة الدكتوراه، لأنه اضطر إلى أن يعمل عامل بناء حتى يعيل أسرته ولم تفلح جهوده ليتم تعيينه من قبل أي جهة حكومية. وحاصلة على درجة الدكتوراه في مجال إدارة الأعمال، توافرت لها فرصة عمل في شركة قطاع خاص، لكنها رفضت لأنها تصرّ على التعيين الحكومي المضمون في جهاز الدولة الإداري. وثالث يحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء ويعمل مشرف أنفار في مشروع سكني، وينتظر أن تقدّره "الدولة" وتعيّنه في إحدى مصالحها وغيرهم كثر، يتشابك طرفا نقيض تشابكاً يعكس عيباً في التخطيط وعواراً في نظام التعليم وفجوة بين الموجود والمأمول.
محطة توليد الدكتوراه
الموجود حالياً ما يزيد على 200 ألف طالب وطالبة مقيّدين في الدراسات العليا في الجامعات المصرية، منهم 53.4 في المئة للدبلوم و34.4 للماجستير و12.2 في المئة للدكتوراه. وبحسب أحدث أرقام واردة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد حصل المصريون على 115.6 ألف درجة علمية ما بعد البكالوريوس أو الليسانس عام 2019، في مقابل نحو 120 ألفاً عام 2018.
الطريف أن البعض يسمّي مصر "محطة توليد" الحاصلين على درجات الدكتوراه في الشرق الأوسط. مجلة "ناتشير" أو "الطبيعة" البريطانية أشارت في مقال منشور عام 2011 تحت عنوان "التعليم: مصنع الدكتوراه"، إلى أنه على الرغم من ارتفاع أعداد طلاب الدكتوراه في مصر، إلا أن تمويل برامج الدكتوراه يواجه عقبات كبرى، لا سيما مع زيادة أعداد الطلاب وعدم توافر الإمكانات البحثية البشرية والمادية، ما ينعكس سلباً على نوعية وجودة البحوث والدراسات التي يتم إصدارها.
وأشارت كذلك إلى معضلة تخريج عدد من حاملي الدكتوراه أعلى بكثير من قدرة الجامعات على الاستيعاب حيث التعيين كباحثين وأكاديميين. فموازنة الجامعات الحكومية أصلاً محدودة جداً وتعاني نقصاً كبيراً في الموراد. ويضيف المقال أن "الدكتوراه كثيراً ما تكون وسيلة لتسلّق هرم الخدمة المدنية. أما القطاع الخاص، فكثيراً ما يشكو من أن الخريجين غير مدربين وليست لديهم المهارات الفعلية المطلوبة للعمل. ونظراً إلى المشكلات التي تعتري مسيرة الدكتوراه ونقص الإمكانات، فإن عدداً من قدرات "الدكاترة" البحثية وكتابة الأوراق الأكاديمية بغرض النشر في الدوريات الأجنبية، تواجه صعوبات لا حصر لها.
محبطون ولكن
الكاتب وأستاذ العلوم السياسية أسامة الغزالي حرب، كتب إبان تظاهرات حاملي الماجستير والدكتوراه المطالبين بالتعيين في الحكومة، مرجحاً أن يكون تظاهرهم علامة على درجة الإحباط التي وصلوا إليها، لكنه في الوقت ذاته أشار إلى أربع نقاط بالغة الأهمية. قال إن هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في الشروط والضوابط التي تحكم عملية التقديم للدراسات العليا مثل الدرجة التي أحرزها الطالب في البكالوريوس. كما يجب أن تكون هناك دراسات تأهيلية لطالب الدراسات العليا حتى تكون لديه قاعدة علمية رصينة. والنقطة الثالثة هي اختيار موضوع البحث الذي لا يجب أن يُترك ليتم بشكل فردي، بل يتم بناء على أولويات لما هو مطلوب سواء الموضوع أو المجال. كما دعا الغزالي حرب إلى وجوب وضع ضوابط لإعداد الرسالة لضمان جدية الإعداد والإشراف، مشيراً إلى "حالات من التسيّب وعدم الانضباط، بل إن بعض الباحثين لا يحظى بإشراف حقيقي، إضافة إلى التهاون في المعايير العلمية الواجب توافرها في المراجع والإحالات وغيرها".
طرائف الأطروحات
الطريف أن ما جرى في جامعة المنصورة قبل أيام قليلة فاق كل التصورات في ما يختص بمعايير البحث العلمي وضوابط رسائل الدكتوراه. فقد تقدّم أحدهم لنيل رسالة الدكتوراه بناء على أطروحة هي مقارنة بين منهجين لمفكرين اثنين في التجربة الصوفية. المبهر أن أحد المفكرين هو نفسه المشرف عليها والمناقش لها والحكم عليها.
وبينما الواقعة ما زالت قيد التفنيد والتحقيق، أصدر وزير التعليم العالي والبحث العلمي (والقائم بأعمال وزير الصحة) خالد عبد الغفار، توجيهاً بإعداد حصر شامل لبيانات الحاصلين على درجتي الماجستير والدكتوراه من الجامعات الحكومية والخاصة على مدار الأعوام العشرة الماضية. وقال إن الغرض من ذلك هو إنشاء قاعدة بيانات تحوي الدرجات العلمية ومواضيعها والحاصلين عليها لبحث كيفية الاستفادة منهم ومنها.
أهمية الدكتوراه
أهمية الدكتوراه أو الماجستير تكمن في درجة وكيفية الاستفادة منها. طرفا الاستفادة هما الطالب والمجتمع. أهداف الطالب معروفة سواء كانت شخصية أو مهنية. أما المجتمع، فهو الطرف المنسي في المعادلة. الفائدة التي تعود على المجتمع من آلاف الأطروحات تحتاج إلى قياس وتقييم.
الجهاز الإداري للدولة المتخم بأكثر من ضعفين من عدد العاملين فيه، لا يحتاج مزيداً ولو كانوا من حاملي الدكتوراه.
من جهة أخرى، فقد بلغت نسبة البطالة بين الشباب أعلاها بين خريجي الجامعات والحاصلين على درجتي الماجستير والدكتوراه (33 في المئة) في مقابل 12 في المئة بين الحاصلين على مؤهل فني متوسط.
وبناء على بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وجدت الباحثة في كلية التجارة جامعة الأزهر إيناس الجعفراوي في ورقة عنوانها "تحليل المسار بين أعداد الخريجين والبطالة في الاقتصاد المصري (1990-2017)"، أن نسبة المتعطلين من المتعلمين بلغت 91.9 في المئة و89.7 في المئة و91.3 في المئة في أعوام 1990 و2011 و2016. واستدلّت على ذلك بأن النسب المرتفعة للبطالة بين المتعلمين، لا سيما ما بعد التعليم الجامعي، ملازمة للاقتصاد المصري على مدار نحو عقدين ونصف. وقالت إن الانخفاض الوحيد في نسب البطالة بحسب التعليم حدث بين الحاصلين على مؤهلات فنية متوسطة. بمعنى آخر، كلما ارتفع المستوى التعليمي كلما زادت نسبة البطالة. وهذا يعني أن هناك خللاً في مخرجات التعليم وعلاقتها بهيكل سوق العمل ومتطلباته.
واقع الحال حالياً يشير إلى أن "دال نقطة" تحتاج ترشيداً لحين ضبط زوايا التعليم ومخرجاته والعمل ومتطلباته.