Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استراتيجات وصراعات حول دون كيشوت معاصر في طهران

يوم منعت الرقابة الخمينية أنجح عمل أدبي وتلفزيوني في تاريخ إيران

مشهد من مسلسل "عمي نابليون" (موقع المسلسل)

تروي الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي، المقيمة في المنفى منذ عقود  التي اشتهرت بكتابها "قراءة لوليتا في طهران" الذي أقام سلطات بلدها الأصلي هذا ولم يقعدها، كيف أن الملا الإيراني أحمد جنتي رئيس مصلحة تشخيص النظام في طهران عبر تماماً عن أقصى درجات الانفصام الإيراني حين أعلن بعد تفجيرات لندن الإرهابية عام 2005 أن معلوماته تقول، إن التفجيرات من تدبير أجهزة المخابرات البريطانية. وكان هو نفسه قد "نقل معلومات" قبل ذلك بسنوات قليلة مفادها أن تفجيرات نيويورك الإرهابية في سبتمبر 2001، إنما كانت من تدبير أجهزة المخابرات الأميركية. وتفيدنا آذر نفيسي على أية حال، أن هذا الكلام ليس جديداً في إيران، حيث ثمة بارانويا متأصلة لدى كثر من الإيرانيين، لا سيما لدى المسؤولين السياسيين بما فيهم أقطاب الحكم قبل ثورة الخميني، تعزو إلى الإنجليز وغيرهم من الأجانب، كل ما على الأرض من كوارث وأزمات. والحقيقة أن نفيسي تورد هذا الواقع لمناسبة حديثها عن واحدة من أشهر الروايات في الأدب الشعبي الإيراني، "عمي نابوليون" التي كانت واحدة من أولى الأعمال الأدبية التي سارع نظام الخميني إلى منعها من التداول، ما إن انتصرت ثورته عام 1979 بعد ستة أعوام من ظهور تلك الرواية. بل إن رقابة ذلك النظام نفسه منعت في طريقها تداول وبث المسلسل التلفزيوني المقتبس عن الرواية نفسها في 14 حلقة أنتجتها التلفزة الرسمية الإيرانية سنوات قليلة قبل الثورة.

نجاح كبير قبل الثورة وبعدها

 لا بد أن نشير هنا إلى أن الرواية ومسلسلها كانا خلال آخر سنوات حكم الشاه، قد حققا نجاحاً اعتبر أسطورياً، بحيث أن الرواية ظلت تباع سراً، وتطبع ويتم تداولها على الرغم من تشدد الرقابة الخمينية لاحقاً في منعها، أما المسلسل فلا يزال يعد حتى اليوم العمل التلفزيوني الذي حقق النجاح الأكبر في تاريخ إيران ويذكره الإيرانيون بكل خير. بل حتى ثمة كثر من بين هؤلاء لا يزالون يعبرون عن استغرابهم لموقف الرقابة الإيرانية بالنظر إلى أن ليس لا للرواية ولا للمسلسل أية علاقة بالثورة وفكرانيتها، بل على العكس من ذلك كان على ثورة الخميني وجماعته أن تتبنى العملين الإبداعيين وتروج لهما طالما أن كل النقد الاجتماعي والأخلاقي الذي يحملانه، يطاول من تعتبرهم الثورة أعداءها! بيد أن هذا الموقف يجب ألا يثير دهشة من يتابع تاريخ الرقابات لدى كل الأنظمة الشمولية، تاريخ يتسم بالغباء ورعب كل موظف فيها من رئيسه المباشر وهذا ممن يعلوه وهكذا. ولكن هنا بدلاً من أن نستنتج بأن ذلك الموقف المتشدد من عمل فائق الشعبية قد أضر بـ"عمي نابوليون"، رواية ومسلسلاً، يتعين علينا أن نشير إلى أن الموقف قد عزز في نهاية الأمر مكانتهما وأعطاهما قيمة إضافية، لا سيما بالنسبة إلى الرواية التي ما إن مرت سنوات على منعها حتى راحت تترجم إلى عدد كبير من لغات العالم، وبات مؤلفها إيراج بيزيشخاد المقيم في المنفى هو الآخر منذ عقود، يعد واحداً من أكبر الكتاب الإيرانيين الأحياء.

مرآة أمام شعب بأكمله

مهما يكن من أمر، قد لا تطاول قيمة بيزيشخاد الأدبية قيمة صادق هدايت الذي ظل عقوداً طولية يعتبر الكاتب الإيراني المعاصر الوحيد المعروف خارج إيران، لكنه ودون أدنى شك، الكاتب الذي عرف العالم الخارجي عبر هذه الرواية وغيرها من أعمال حققت دائماً نجاحات باهرة، على ذلك الأدب الاجتماعي الإيراني الساخر الذي تعود جذوره مئات السنين إلى الوراء، معطياً عن بلده وشعبه صورة تتناقض تماماً مع تلك الصورة القاتمة التي لا تزال، وعلى الأقل منذ الثورة الخيمينية، تعطي عن إيران صورة غير دقيقة احتاج الأمر إلى سينما كبار المخرجين، المنفيين غالباً، وجهود عشرات الكتاب والمبدعين الآخرين، لا سيما المنشقون منهم، لتغييرها. بيد أن الأهم من ذلك أن صاحب "عمي نابوليون" أعطى للإيرانيين أنفسهم صورة عن حياتهم وأخلاقهم، وفي هذه الرواية على وجه التحديد أكثر مما في أي عمل روائي إيراني آخر، تختلف عن صورتهم عن أنفسهم. قدم لهم، بكلمات أخرى، مرآة حقيقية مكنتهم من أن يضحكوا على أنفسهم حتى وإن اعتقد كل واحد منهم، كما سيقول الكاتب لاحقاً في أحد أحاديثه الصحافية في أميركا، أن الصورة إنما هي صورة للآخرين لا تشمله هو ذاته! ومن هنا كان النجاح الهائل الذي حققه المسلسل إذ بثت حلقاته في عام 1976، وتابعه المواطنون كما لم يتابعوا أي عمل تلفزيوني آخر لا من قبله ولا من بعده، وضحكوا كما لم يضحكوا في حياتهم. فما هي الحكاية في نهاية الأمر؟

غزو إنجليزي سوفياتي مشترك

الحكاية بسيطة وتدور أحداثها إبان الغزو المشترك الروسي الإنجليزي لإيران، وهما المتحالفان خلال الحرب العالمية الثانية. أما الأحداث نفسها فأقل اتساعاً بكثير، لأنها تدور في بيئة ضيقة من حول الراوي الشاب المغرم فجأة بابنة عمه ليلي التي تقاربه في السن. وكان يمكن لحكاية غرامهما أن تنتهي على خير لولا الصراعات الرهيبة التي تدور في ذلك الجو العائلي الذي يجمع ثلاث عائلات كجيران أيضاً. ومحور تلك الصراعات كما يروي لنا المغرم الشاب، هو الكولونيل السابق في الفرقة القوقازية التي يتزعمها العقيد لياخوف. والعم الذي نحن في صدده هنا، يبدو لنا، كما يصفه الراوي، نوعاً من دون كيشوت معاصر يعيش أيامه في رهاب متواصل يجعله يعتقد أن الإنجليز يطاردونه في كل مكان، أولاً بسبب عدائه المتأصل للإنجليز كمحتلين لبلده، ولكن أكثر من ذلك بسبب إعجابه المطلق بنابوليون، الذي فاق عداؤه لأمة الإنجليز عداءه لأية أمة أخرى. بيد أن العم لا يكتفي بالإعجاب بالإمبراطور الفرنسي، بل إنه يحاول التشبه به مظهراً وأخلاقاً وسلوكاً إلى درجة أطلق على نفسه، وقبل أن يطلق عليه الناس أجمعين، اسم "عمي نابوليون". ولهذا العم النابوليوني المستعد في كل لحظة لامتشاق سيفه ما إن يسمع كلمة إنجليز، وصيف يدعى ماش قاسم يقاسمه أفكاره وعداواته كما يفعل سانشو بانشا تجاه دون كيشوت الأصلي، كما يقاسمه صراعاته، حتى وإن كانت تلك الصراعات لا تعدو كونها عائلية الآن.

معركة عائلية

فالواقع أن "عمي نابوليون" قد اختصر صراعاته واستراتيجياته المستقاة من تاريخ نجمه الأسطوري الكبير لتقتصر على تلك المعارك التي يخوضها الآن ضد قريبيه في العائلتين المجاورتين، بحيث بات كل ما في حياته يدور من حول هذه الصراعات التي يجابهه فيها عمان آخران أحدهما طبعاً والد الراوي الذي تزداد همومه يوماً بعد يوم وهو يرصد، ويصف لنا، اجتماعات التخطيط العسكري والاستراتيجي الرهيبة والمتقنة التي تعالج من قبل المتصارعين بكل جدية ودقة، لا سيما من قبل "عمي نابوليون" نفسه الذي لا يتردد في سبيل تعزيز مواقعه وتحقيق "الانتصارات" عن الاستعانة بكل ما يمكنه جمعه من دراسات عسكرية واستراتيجية. وهو ما سوف يجعل الراوي الشاب، حتى دون إدراك منه، يغوص بدوره في رهاب مبكر، إذ بات الآن مؤمناً بأن كل ذلك إنما هو مؤامرة تحاك ضد غرامه بليلي في سبيل تزويجها من ابن عم آخر لها، هو الشاب بوري ابن الكولونيل القريب الآخر المعروف بـ"عمي الكولونيل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مستقبل الراوي

ومن هنا يقوم جانب رئيس من الرواية على المساعي التي سوف يبذلها الراوي الشاب دون زواج بوري بليلي... ما يمهد لتوسع الرهاب ليشمل لاحقاً الراوي الذي سوف يجد نفسه، في زمن لاحق على زمن الرواية بالتأكيد، متسماً بتلك الأخلاقية "الرهابية" المتأصلة لدى الشعب الإيراني كما كتب كثر من المحللين وعلماء الاجتماع من الذين وجدوا أنفسهم في مرحلة أو أخرى يتنطحون لتحليل النجاح الساحق الذي حققته رواية "عمي نابوليون" كم حققه مسلسلها، لكنهم عبروا دائماً عن عجزهم عن فهم منطق رقابة الثورة الخمينية الذي جعل الرواية والمسلسل يمنعان من قبل سلطة كان يمكنها بالأحرى أن تستخدمهما لدعم منطقها، وتعزيز حملتها على تلك الطبقات التي قامت لسحقها. وهي الطبقات نفسها التي ينتمي إليها "عمي نابوليون" وإخوته!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة