الثورة الإيرانية التي أسقطت "عرش الطاووس" صارت في الثانية والأربعين. وهي ثورة شارك فيها كل الناقمين على حكم الشاه: حزب "توده" الشيوعي، والجبهة الوطنية الوارثة لمسار محمد مصدق، والتيار الديني، واليسار الراديكالي غير الشيوعي، و"مجاهدي خلق"، والتجار.
كانت لعبة السلطة في طهران تدور في مثلث "الثكنة، والجامع، والبازار". الشاه حكم بتحالف الثكنة والبازار ضد الجامع، وبالدعم الأميركي الذي صار موقع مراجعة، بعدما صار "ضبط" الإمبراطور المتغطرس صعباً، وتنامت المعارضة ضده في الداخل. وما ساعد في نجاح الثورة هو تحالف الجامع والبازار، بحيث انهارت الثكنة. وهو أيضاً كون الإمام الخميني رمز الثورة الأقدر على تحريك الناس. كان أربعة من مساعديه الكبار على علاقة بالمخابرات المركزية الأميركية، وسط نظرية البروفسور بريجنسكي مستشار الأمن القومي عن "صنع الثورات بدلاً من منعها"، لكن الخميني هو الذي أمسك باللعبة، وأقصى كل القوى الأخرى على مراحل، باستثناء رجال الدين المؤمنين بما جاء في كتابه "الدولة الإسلامية"، وجعلها "ثورة إسلامية" تقيم دولة "ولاية الفقيه".
وليس البرنامج النووي والصاروخي الذي يشغل المنطقة والعالم سوى واحد من تحديات "الثورة الإسلامية" في إيران. والتحدي الأكبر ليس فحسب إقامة نظام ديني ثيوقراطي في عصر التكنولوجيا وسقوط الأيديولوجيا، بل أيضاً تصدير الثورة إلى المنطقة والعالم، أو أقله إلى "غرب آسيا". فما تملكه جمهورية الملالي من "القوة الناعمة" هو قوة العصبية المذهبية ودعوة المواطنين الشيعة في البلدان العربية إلى صحوة للعمل على "تصحيح التاريخ". وما ركزت عليه هو "القوة الخشنة"، بحيث صارت واحدة من بين دول قليلة تملك قوة صاروخية كبيرة، وتوزعها على وكلائها في المنطقة. وهكذا، خلقت ومولت وسلحت "حزب الله" في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، ولواء "فاطميين"، ولواء "زينبيين" من الباكستانيين والأفغانيين، والحوثيين في اليمن، وتدخلت مباشرة في حرب سوريا، وجندت ميليشيات، وكل ذلك برعاية "فيلق القدس"، التابع للحرس الثوري. كانت قضية فلسطين هي المفتاح الذي استخدمته للدخول إلى البلدان العربية السنية، ثم تطور الأمر إلى إقامة "محور الممانعة والمقاومة" كاسم مستعار للمشروع الإيراني الذي لم تعد طهران تتكتم عليه، مرة بالحديث عن حكم "أربع عواصم عربية" هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، ومرة بالكلام على "إيران العظمى"، حسب تعبير الجنرال في الحرس الثوري، ثم أمين السر في "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، محسن رضائي، والتي تتشكل في شمال الخليج وبحر عمان، وتضم 15 بلداً من السند وسيحون إلى غزة ولبنان في الغرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا تقليد فارسي قديم. فالملك دارا الثالث بعث برسالة إلى عدوه الإسكندر الكبير، جاء فيها "من عاصمة ملك ملوك العالم إلى الإسكندر اللص، إن مالك السماء وهب لي ملك الأرض، ومنحني أركانها الأربعة". وليس من المفاجآت أن يقول خليفة الجنرال قاسم سليماني في قيادة "فيلق القدس" الجنرال إسماعيل قاآني "إن زوال القوات الأميركية بات وشيكاً، والهدف انتقاماً لقاسم سليماني هو إزالة أميركا من المنطقة"، لكن اللعبة أكبر. فالوجه الآخر لتغيير المنطقة في مشروع الثورة الإسلامية هو القطع مع الثقافة والحضارة في الغرب الأميركي والأوروبي. و"السلوك المزعزع" للاستقرار في المنطقة الذي يؤذي العرب ويقلق الغرب هو مجرد أداة في المشروع. وكلما قيل لطهران إن عليها أن تختار ماذا تكون: دولة أو قضية، ترد بالقول والفعل أنها تريد الأمرين معاً. ومؤخراً، قال المرشد الأعلى علي خامنئي "إن إيران لن تكون دولة عادية".
لماذا؟ لأن ما تسميه جمهورية الملالي "نفوذها الإقليمي" هو مع "العداء لأميركا" من "أسس الثورة" حسب الخميني. فهي، وإن كانت معادية للشيوعية، تعمل بنظرية "الثورة الدائمة" التي دافع عنها تروتسكي في بدايات الثورة البلشفية ضد نظرية "الثورة والاشتراكية في بلد واحد"، لأن الثورة في روسيا تموت في رأيه، إن لم تضم ما كان للإمبراطورية القيصرية وتنشر الثورات في العالم كله. وإيران تريد في المرحلة الأولى أن تكون دول المنطقة، بوجود الميليشيات التابعة لها فيها، جبهات أمامية لحمايتها والدفاع عنها، وأن تصبح في المرحلة الثانية ضمن الإمبراطورية بشكل أو بآخر. والترجمة العملية لذلك هي "الحرب الدائمة".
لكن من الصعب الهرب من درس الاتحاد السوفياتي، وقبله دروس الإمبراطوريات القديمة: العجز عن تمويل التوسع، مع الضعف في الداخل يجعل الإمبراطورية "عملاقاً عسكرياً بساقين من فخار"، ويقود إلى سقوطها. وإيران ليست استثناءً، مهما بالغت في العنف لقمع الاعتراض السياسي وتغطية الضعف الاقتصادي. والعالم العربي ليس بلا قوة مثل قطعة من الزبدة تحت السكين الإيرانية. ومن الوهم قطع المنطقة عن الغرب وثقافته وجامعاته واختراعاته، بصرف النظر عن القوة العسكرية الهائلة.