Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سارتر الجندي هجا الحرب وصانعيها في مذكرات جريئة

تحدث عن كل شيء بهدف الهروب من اسر التفكير ولم تغب المرأة عنه

صورة نادرة لسارتر جنديا في الحرب (صفحة سارتر على فيسبوك)

في مذكراته التي كتبها خلال فترة تجنيده في بداية الحرب العالمية الثانية، والتي صدرت ترجمتها العربية حديثاً عن دار "صفحة" بتوقيع الكاتب والشاعر التونسي عبدالوهاب الملوح، ينزع سارتر سُترة الفيلسوف المنظم، ويتخلى عن لغته المرتبة وفق منهاج فكري، ويلوذ بما سماه المترجم "الجملة الطائشة"، متيحاً لنفسه مساحة هائلة للحديث عن كل شيء من دون الالتزام بنظام يتعلق بالتيمة أو الزمن أو السياق أو أي مدخل آخر، كأنما يريد أن يتخفف من أعباء الفكر، ويتحدث بالتالي بأكبر قدر من الحرية، ومن الفوضى. لذلك يغلب على الكتاب طابع الاستطراد والتداعي والمكاشفة والتنويع وتداخل الكلام وتعدد المواضيع وتحول المزاج، على الرغم من أن سارتر ألفه في مرحلة زمنية مكثفة في سياق الكتابة اليومية، فكان يكتب هذه المذكرات كل يوم بلا انقطاع، على مدار سنة وسبعة أشهر. إنه كتاب مفتوح يتقاطع فيه التقرير والانطباع مع الأدب، وإن كان رولان بارت وصفه بأنه بعيد كل البعد عن الأدب، ثم إن المترجم يبدي رأيه في كتاب سارتر على نحو طريف: "والظاهر إن هذا الكتاب هو أبعد عن أن يكون أدباً بالمفهوم المتعارف عليه للأدب، بل هو قليل الأدب في الكثير من المواضع، ليس من وجهة النظر الإخلاقية السلوكية، بل حتى إنسانياً".

وربما هذا ما يجعلنا نقترب من سارتر أكثر ونضع المكبر على جوهر هذا الفيلسوف الذي يتحدث في يومياته بعفوية كبيرة، ويكتب بيد عارية من كل قفاز، متخففاً من مجساته النقدية والفكرية. 

يورد المترجم في مقدمته ما كان يعتمل في ذات سارتر من تحفظ على نشر اليوميات، لما تحمله من تفاصيل حميمة تكشف عن علاقات سارتر المتشابكة مع الإناث والذكور على السواء، كما تحفل بالكثير من الخطاب التجريحي والتقريعي للذات والآخر. لذلك طلب سارتر من رفيقته سيمون دي بوفوار ألا تنشر هذه اليوميات إلا بعد موته، وسمح لها بأن تسهم من جهتها في التنقيح والتذييل والتوضيح، مما يحعلنا لا نعرف الفارق الحقيقي بين اليوميات التي ألفها سارتر والرسائل التي أصدرتها سيمون دي بوفوار، والتي لم تكن سوى جزء يسير من الكتاب الأصلي، والدفاتر الستة التي أصدرتها لاحقاً ابنته بالتبني آرليت، من بين خمسة عشر دفتراً ألفها سارتر خلال فترة التجنيد.

ولا أحد يعرف مصير الدفاتر التسعة الأخرى، التي قد تكون ضاعت من سارتر خلال فترة الحرب أو إبان هدم بيته في مطلع الستينيات على يد المنظمة السرية المسلحة.

جندي في الحرب ومثقف ضد الحرب

يفتتح سارتر يومياته بالتعبير عن تلك المفارقة التي جعلت منه جندياً مشاركاً في الحرب، وفي الآن ذاته مثقفاً وقف باستمرار ضد الحرب، متأسفاً لكون هذه التجربة جاءت في مرحلة مهمة من حياته الفكرية والأدبية، فقد كان في الرابعة والثلاثين من عمره، ونشر إلى ذلك الحين عملين أدبيين، وآخرين فلسفيين، وصار الناشرون الفرنسيون يراهنون عليه كاسم سيترك أثراً مهماً في الحياة الثقافية والفكرية في فرنسا على الأقل، ما عمق هذه المفارقة كونه مؤمناً بالفلسفة الرواقية وسط حشد من الجنود الذين لا يعنيهم بالضرورة ما يفكر فيه الفيلسوف الشاب. إن حياة الجندية تمحو من لسان المنخرط فيها كلمة "لا"، وتجعل بالمقابل "نعم" هي البديل الدائم، إذ ليس هناك نقاش وجدال، بل ثمة باستمرار تنفيذ للتعليمات والأوامر، وهذا ما يخلخل أسلوب عيش رجل أراد على حد تعبيره "أن يعيش عارياً"، أي إن يعبر عما يحس به بشكل صريح، وأن يفعل بالمقابل ما يريد من دون الخوف من أية رقابة، سواء فردية أو جمعية، لذلك يجد في وصفه لعالم الحرب جملة بسيطة تلخص كل شيء: "عالم بلا حرية".

لقد كان سارتر يرفض قيم الاشتراكية المهيمنة في تلك الفترة، والتي تجلت كغطاء للحرب، إذ بدا له أن الفكر الاشتراكي هو سلب لكل القيم الفردية، سلباً مادياً ومعنوياً في الآن ذاته. فالفرد مجبر على الانخراط في فكر جمعي، فضلاً عن كون ممتلكاته فقدت صفتها الفردية وصارت ممتلكات للجماعة. لقد جعلته تجربة الحرب ينتمي لما سماه "إنسان القطيع"، ليجد نفسه يقف ضد أفكاره وضد ما دافع عنه، أو ما خلق ليدافع عنه.

لقد تعاطف سارتر في البداية مع الحزب الشيوعي الفرنسي، لكنه تخلى عن هذا التعاطف بعد أن بدا له أن طريقه أكثر اتساعاً من الضيق الأيديولوجي للحزب، لقد عبر عن ذلك بجملة بليغة: "لم أكن أريد أن أكون شيوعياً، لكن كنت أريد أن أكون يسارياً أكثر من الشيوعيين".

ينتقد سارتر الحرب من زاوية ماركسية، فهو يرى أن عمل الجندي عمل غير منتج، بالتالي فهو لا يحقق قيمة، وأن وظيفة هذا الفرد هي التدمير، فالجندي الجيد هو الذي يدمر أكثر. يستعرض الفيلسوف خطاب قادة الحرب، ثم يعقب برأي أندريه جيد الذي كان يرى برعب أن انتصار فرنسا في الحرب هو "انتصار الماضي على المستقبل".

 الكتابة والموت

يروي سارتر طرائف الجنود ومآسيهم، يتوقف عند تحولاتهم النفسية، مستثمراً ما يلمسه فيهم من سذاجة أو عمق.  ثمة دائماً لدى الجندي ذكريات غير منتهية، وحنين مستمر نحو "الحياة المدنية"، ما يسرده سارتر يوحي بأن كل حدث خارج الحياة العسكرية هو بالضرورة جميل، وكل ذكرى بعيدة عن الحرب هي ذكرى طيبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يكتب سارتر يومياته بحرية وبإسهاب، ويحس القارئ بأنه يرغب في أن يقول كل شيء، وأن ينقل تفاصيل تجربته في الحرب بدقائقها، وهو إذ يسترسل في الكتابة، لا يوقفه سوى ما يعانيه من حين لآخر من آلام في العينين.

أتاحت تجربة الحرب لسارتر فرصة التفكير في مسألة الكتابة، فهو يريد في النهاية أن يكتب مؤلفاً واحداً يلخص كل شيء. لقد بدأت تراوده فكرة الموت، وعليه بالتالي أن ينهي مشروعه الأدبي والفكري، المشروع الذي لن يكتمل قبل بلوغه السبعين، بحسب تقديره. ومع ذلك كان يتملكه الإحساس بأنه لن يموت في الحرب، وسيعيش طويلاً، فقد كانت عزيمته "مشدودة ضد الموت كما لو أنه مجرد غثيان بحر".

ليست اليوميات تصويراً فقط للأحداث، بل هي مساحة أيضاً للتأمل، لذلك نتابع فيها ما تناوله سارتر من تيمات كثيرة من بينها: الإرادة، والوعي، والعزلة، والجسد، والحرية، والقلق، والخطيئة، والدين، والجنس. ويستدعي خلال مناقشة هذه الموضوعات أسماء عديدة من حقل الأدب والفلسفة من أمثال هايدغر، وكيركيغارد، وأندريه جيد، وغيرهم، ثم يخلص إلى حكمة استقاها من رفاقه في تلك التجربة الغريبة، مفادها أن الرجال لا يستحقون السلم، لأنهم يفكرون في خوض الحرب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة