لقد استفاد الإنسان القديم من دروس الطبيعة واستلهم كثيراً من حياة الكائنات التي رآها حوله من حيوان ونبات، وقدم أمثلة عظيمة عن احترام الإنسان لبيئته وتجانسه معها، وهذا يتضح عند دراسة نظم البناء والعمارة في مختلف الحضارات البشرية القديمة.
فقد جعلت العمارة المصرية القديمة التي تتسم بالديمومة، مصر أطول حضارة قومية عرفها التاريخ، واستجاب فن العمارة المصري إلى فكرة الصلابة المستوحاة من الطبيعة، فبُنيت القبور الضخمة كالأهرامات والمعابد لتبقى مع مرور الزمن، ووُجّهت أسطح الأهرامات نحو الجهات الأصلية بدقة عالية، فصمم مجريان يخترقان جسم هرم خوفو بفتحاتهما في غرفة الملك، أحدهما يتجه نحو النجم الشمالي، حيث تستقر الروح بعد الموت، بحسب معتقداتهم، ثم تأتي عن طريق هذه الفتحة لتحل في مومياء الملك ثانية لتبعثها إلى الحياة الأخرى، أما المجرى الثاني فهو في الجهة المقابلة، وذلك من أجل استمرار التهوئة العرضية للغرفة من الشمال إلى الجنوب.
الضوء
وكان للضوء تأثير واضح في العمارة المصرية، إذ صممت الأفنية والقاعات بشكل يتواءم مع الشمس ويساعد في إيصال الضوء ببراعة إلى التفاصيل المعمارية الداخلية، ووُجّهت مداخل المعابد بحيث تصل أشعة الشمس (أشعة الإله رع) إلى داخل قدس الأقداس في شروقها يوماً في السنة، يطلق عليه يوم مولد المعبد. ومثال ذلك معبد أبي سمبل حيث كانت تشرق الشمس في ذلك اليوم لتُدخل من فتحة باب المدخل شعاعاً ذهبياً يسقط على القرص الذهبي فوق تاج تمثال الإله في قدس الأقداس في نهاية المعبد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستعمل المعماري المصري القديم الإضاءة الطبيعية لإنارة الطريق الجنائزي لهرم "أوناس" في سقارة، وهو طريق يستخدم في أرضيته وحوائطه وسقفه حجر جيري ناصع البياض، وعرضه 2.60م وارتفاعه ثلاثة أمتار وطوله 700 متر، وهو مغلق تماماً إلا من فتحة ضيقة جداً في السقف عرضها ستة سنتيمترات وبطول الطريق، تدخل منها أشعة الشمس المباشرة لتسقط على الأرضية الحجرية المصقولة وتنعكس على الحائطين الجانبيين، حيث كانت تظهر النقوش الملونة والبارزة والغائرة بأجمل صورة.
الإشعاع الشمسي
أما اليونانيون القدماء، فذهبوا أبعد من ذلك في اهتمامهم باستثمار الإشعاع الشمسي للحصول على التدفئة اللازمة في مبانيهم، فخططوا في القرن الخامس قبل الميلاد مدينة أولينثس (Olynthus) بحيث يسمح توجيه الشوارع باستقبال متساوٍ للشمس. وكانوا يشيّدون معظم مبانيهم بمواجهة الشرق مع وجود فتحات كبيرة تجاه الجنوب، وهذا الأسلوب في التشييد يسمح بالحصول على أكبر قدر من الأشعة الشمسية في الشتاء عندما تنخفض الشمس في السماء، على اعتبار أنه أكثر الفصول حاجة للشمس.
بابلو بونيتو
وفي أميركا الشمالية، بنى الهنود الأنازاسي في القرن الثاني عشر بعد الميلاد، مدينة بابلو بونيتو، التي يُطلق عليها اليوم نيو مكسيكو، وخططوا تصميمها على شكل شبه دائري على هيئة مدرجات موجهة بأسلوب يراعي زوايا الشمس في الصيف والشتاء، والحوائط التي صُنعت من طوب اللبن تمتص الحرارة والأشعة الشمسية أثناء النهار وتشعّها أثناء الليل، مما يجعل المكان ذا حرارة معتدلة طوال اليوم، بينما عملت الأسقف المصنوعة من القش والطين كعازل لحرارة الشمس في الصيف.
ربوات اصطناعية
أما في بلاد ما بين النهرين، الحضارة التي تعاقبت على أرضها حضارات عدة منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وبسبب خصوصية المنطقة الجغرافية وطبيعتها، ابتكر المعمار الرافدي حلولاً عدة تبعاً لكل مشكلة واجهها مثل بناء المنشآت والمدن على ربوات اصطناعية تفادياً للسيول الجارفة التي تجتاح بلاد الرافدين من عام لآخر نتيجة ذوبان الثلوج في جبال أرمينيا، كما استخدم المعمار الرافدي الطمي (الصلصال والرمل والحصى) المحروق أو المجفف بالشمس في مناطق الجنوب والوسط بسبب ندرة الجبال الصخرية، وكذلك استغنت العمارة الرافدية، بسبب ندرة الغابات، عن الأسقف الخشبية وأقامت العقود والقباب من الأجر.
أما المنزل الرافدي، فاهتم بالداخل وأهمل الشكل الخارجي وكانت التقسيمات الداخلية مكونة من الدهليز والفناء المكشوف، وكانت القاعات هي الأساس في تصميم المنزل، كما كانت الفتحات محدودة ومقتصرة على الداخل.
التخطيط الشبكي
وفي العصر الإغريقي الذي بدأت فيه نظريات العمارة والتخطيط في الغرب تأخذ إطارها الفلسفي، ظهر التخطيط الشبكي للمدينة الإغريقية عملاً بتوصيات الأطباء الإغريق، إذ أوصى هيبوقراط بضرورة تخطيط المدينة بشكل يسمح للشمس بالدخول إلى المساكن، فأُنشئت الشوارع متقاطعة في زوايا قائمة وموجّهة نحو الجهات الأصلية، الأمر الذي جعل المدينة حسنة التهوئة وسمح للشمس بدخول مساكنها، وبذلك وُضع "التخطيط الشبكي" أساساً لتخطيط المدن الإغريقية. ومن هنا، نلاحظ الاهتمام الكبير بالنواحي الصحية والمناخية في التخطيط المدني لتحقيق التهوئة الجيدة والسماح بدخول الشمس الى المساكن.
أما الفن المعماري الروماني، الذي تأثر بالتقاليد السائدة في الشرق، فقامت فيه المنازل على الأسس الرافدية ذاتها، وهي أن تنفتح الغرفة ونوافذها وأبوابها على الفناء الداخلي من دون نوافذ خارجية. وكذلك اهتدى الرومان في بناء الجدران إلى خليط من تراب بركاني مع كسر الحجارة أو الرخام المعجون بالكلس، صنعوا منه قوالب طينية صلدة.