لا شيء يشغل الأوساط السودانية هذه الأيام سوى أزمة الشراكة بين المدنيين والعسكريين، حيث إن الأنظار مشدودة انتظاراً لما ستسفر عنه الاتصالات والحراك المكوكي في سياق الجهود والوساطات الدولية والإقليمية والمحلية بحثاً عن مخرج ملائم لها، أما شريحة الموظفين العموميين في دواوين الخدمة المدنية الذين يعانون في الأصل الضعف في الرواتب ونيران تدني الأوضاع المعيشية فمن أكثر الفئات ترقباً، وقد وضعتهم وطأة الضغوط وارتدادات التشظي السياسي على مؤسسات الدولة، بين مطرقة نداءات العصيان والإضراب وسندان إجراءات السلطة الممسكة بزمام الأمور.
إعفاءات وإجراءات
جملة من قرارات الإعفاء طالت العديد من القيادات الخدمية في المؤسسات المركزية والولائية بعد إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) حال الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء وتجميد عدة مواد بالوثيقة الدستورية، أبرزها المواد المتعلقة بالشراكة مع قوى إعلان الحرية والتغيير، شملت إعفاءات وكلاء الوزارات ومديرين في حكومات الولايات، وقيادات أجهزة وهيئات من الذين يفترض أنهم جزء من مكونات جهاز الخدمة المدنية المحايد.
كذلك اتخذت الحكومة إجراءات صارمة في مساعيها لاحتواء الدعوات إلى الإضراب والعصيان المدني، بالتشديد على حضور العاملين ورفع كشوفات يومية بالحضور والغياب إلى أمانة مجلس الوزراء، لتجد الخدمة المدنية نفسها وسط أجواء من الاستقطاب في خضم المعركة السياسية المحتدمة.
ضياع الحياد
حتى نهاية عام 1968 كانت الخدمة المدنية في السودان تتمتع بحياد تام تحرسه "لجنة تنظيم الخدمة المدنية" كآلية مستقلة مهمتها الأساسية حراسة حيادية الخدمة المدنية بعيداً عن الاختراقات والتجاذبات السياسية، والنأي بها من أي محاولات للزج بها في المعتركات السياسية، وذلك من خلال تطبيق معايير صارمة تحكم تولي الوظائف القيادية العليا، على رأسها منصب وكيل الوزارة الذي كان يعرف بـ(الوكيل الدائم) وفق المهنية والكفاءة باستقلال كامل عن أي فئة أو حزب أو تنظيم سياسي تحميه في ذلك القوانين واللوائح.
لكن في عام 1969 حل الرئيس الأسبق، جعفر محمد نميري، تلك اللجنة، ما أدى إلى انفراط سلسلة المعايير والأسس التي تحفظ وضعيتها الحيادية، وبدأت السياسة تتسرب إلى الخدمة المدنية، على استحياء في البداية، وسرعان ما بدأ يتجذر ليصبح نهجاً ضاعت معه كل الأسس الموروثة منذ عهد الاستعمار البريطاني، الذي يعتقد أنه أورث السودان أفضل نظم وممارسات العمل بالخدمة المدنية في القارة الأفريقية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة والحياد.
حتى مطلع الثمانينيات وخلال فترة حكم جعفر نميري، وعندما تعصف الأزمات والتطورات السياسية بالطاقم الوزاري، كان وكلاء الوزارات وقادة الخدمة العامة يقودون تلقائياً تسيير دفة العمل، ككفاءات تنفيذية محايدة يخضعون لقانون الخدمة، أفرزتهم مؤسساتهم وفق الخبرة والتراتبية والمهنية والكفاءة، لكن وبالزج بالخدمة المدنية في أتون المعترك السياسي تغير الحال وبات سيف التغييرات السياسية يطالهم أيضاً، بادعاء كل نظام تطهير الخدمة والتخلص من آثار النظام الذي سبقه، وتجذرت الظاهرة في أعمق صورها خلال فترة نظام حكم المخلوع عمر البشير، بعد أن عمد إلى إنشاء وحدات تنظيمية (سياسية) داخل كل وزارة أو مؤسسة حكومية كأداة للاستقطاب التنظيمي.
بين الولاء والضغوط
فكيف ينظر المتخصصون إلى الواقع المتضعضع الذي خلفته تداعيات التشظي السياسي على دواوين الدولة ومرافقها والموظفين العموميين، بعد تسلل أبخرة الأزمة السياسة المزمنة إليها، ما جعلها تترنح حائرة بين شد الولاءات الظاهرة والمستترة وضغوط الإخضاع السلطوية، وانعكس بدوره في حالة من الجمود والترقب والتوجس؟
في السياق لا يرى أستاذ العلوم الإدارية والتخطيط الاستراتيجي في الجامعات السودانية، أمير المأمون، مبرراً لحالة الشد والتجاذب التي تعيشها الخدمة المدنية بسبب الصراع والانقسامات الراهنة، إذ من المفترض أن يزاول الموظفون مهامهم بنزاهة وحيادية، معرباً عن أسفه أن يجد واقع الاضطراب والتنازع السياسي الراهن طريقه إلى ردهات الخدمة المدنية على الرغم من التشوهات والمحاذير التي يسببها ذلك، وتأثيره السالب في فعالية دورها تجاه الشعب والدولة كلها، وليس لمصلحة حزب أو كيان بعينه.
ضحية التجاذبات
يتابع "الزج بالاعتبارات والولاءات السياسية في دواوين الخدمة المدنية حولها مع موظفيها إلى ضحية التجاذبات السياسية والضغوط التي يتعرض لها الموظفون الحكوميون خلال فترة إعلان العصيان والتشديد الحكومي على الحضور والغياب، ذلك أن المتغيبين بالعصيان أو من دونه لا يمكن قانوناً فصلهم من الخدمة، لكن يمكن أن تتم محاسبتهم، سواء بالإنذار أو أي عقوبة أخرى، لأن الفصل من الخدمة تحكمه القوانين واللوائح"، معتبراً أن فصل أي موظف على خلفية العصيان المدني هو فصل سياسي وغير قانوني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول المأمون "فقدت الخدمة المدنية حيادها منذ فترة ليست بالقصيرة، إذ كانت بداية التدخل وتسييس الخدمة المدنية مع دخول ومشاركة الإسلاميين في أواخر عهد جعفر نميري بعد المصالحة الوطنية، بيد أن المنعطف الأكبر كان بعد سقوط حكومة نميري وتولي الصادق المهدي رئاسة الوزراء، وانخراطه في الصراع مع الإسلاميين وكانت تلك البداية الفعلية للتسييس، بإبعاده وكلاء الوزارات المحسوبين على التيار الإسلامي آنذاك".
يواصل "حتى فترة حكومة الصادق المهدي ما بعد نميري في منتصف الثمانينيات، لم يكن وكلاء الوزارات يعينون على أسس سياسية، بل يصلون مواقعهم عبر المهنية والأقدمية والكفاءة، بمعنى أنهم من المهنيين تفرزهم مؤسساتهم بعيداً عن التدخل السياسي، إلا أن الأوضاع بدأت في التغير والتدهور المتسارع بعد حل لجنة تنظيم الخدمة المدنية في 1969 التي ضاعت معها الأسس والمعايير المهنية والحيادية".
الإفراط في التسييس
يعتقد أستاذ العلوم الإدارية والتخطيط الاستراتيجي أن فترة الـ30 عاماً التي حكم فيها البشير مع حركة الإسلاميين، ما سمي بفترة الإنقاذ، أمعنت بشكل مفرط في تسييس جهاز الخدمة العامة، بل استخدمت المعول السياسي بشراهة لهدم مقومات حياده، ما أدى إلى انهيار أدائها وضياع مهنيتها وحرفيتها ومن ثم تراجع دورها.
وأخذ المأمون على حكومة ثورة ديسمبر (كانون الأول) عدم اهتمامها بتصحيح ذلك الوضع، وعدم إيلاء إصلاح الخدمة المدنية الأولوية اللازمة لإعادتها إلى مسارها المهني، بل إنها بدلاً من ذلك اختارت المضي على طريق حكومة البشير نفسه، كما أنها عندما التفتت إلى الأمر لاحقاً عمدت إلى اختيار النموذج الأميركي في الإصلاح من خلال تعاقدها مع شركة أميركية لذلك الغرض، مع العلم أن الخدمة العامة في السودان أسسها الإنجليز وتقوم على النمط الإنجليزي الذي ينأى بها كلياً عن السياسة، فضلاً عن أنها لم تكن موفقة في اختيار وزراء العمل والخدمة العامة، بمعايير جيدة، كما لم تستشر أو تجلس مع المتخصصين الوطنيين في هذا الجانب.
الوضع المعكوس
بدوره، وصف أستاذ الإدارة الحكومية بالجامعات السودانية، عثمان الزبير، حالة الانقسام بين القوى السياسية والمكونين المدني والعسكري التي خلفت الجمود والوضع المحتقن الراهن، بأنها لم تكن بعيدة عن الخدمة المدنية بسبب عدم النأي بها عن السياسة، وبالتالي باتت تتأثر بكل تقلباتها ومضاعفاتها، وهو وضع معكوس، إذ إنها خدمة عامة لتسيير دولاب العمل في كل البلاد بمختلف مناطقها ومكوناتها ولا يجب أن يتم تجييرها لأي فئة أو حزب بأي حال.
ويتابع، "في سياق المشهد المضطرب نفسه، والزج بالخدمة المدنية في المعترك السياسي، خلال الفترة منذ 25 أكتوبر الماضي وإعلان الفريق البرهان حال الطوارئ وما تبعها من إجراءات، تشهد البلاد حالة غير مسبوقة في تاريخها على صعيد أوضاع أجهزة الدولة، إذ يمارس أقل من ثلث الوزراء مهامهم وهم وزراء حركات الكفاح المسلح في المالية والثروة الحيوانية والمعادن بحكم كونها مستثناة من مرسوم حل مجلس الوزراء، وهي حالة وإن بدت دستورية أو قانونية، لكنه وضع غير طبيعي، بينما يسيّر بقية الوزارات مجموعة من وكلاء المكلفين وفي ظل عدم وجود رئيس للوزراء".
يستطرد الزبير قائلاً "كانت الخدمة العامة محايدة منذ الاستقلال، عبر الفصل التام بين الجانب السياسي والجانب الإداري، لكن بظهور سياسة التطهير عقب ثورة أكتوبر 1964، حدث الخلط بين هذين المسارين، ما أدى إلى اضطراب وتدني كفاءة الخدمة العامة، كانعكاس حتمي للواقع السياسي المحيط بها، فضلاً عن أنها لم تشهد أي تطوير طوال 30 عاماً من حكم البشير"، مشيراً إلى أن إعادة تأهيلها من جديد قد تستغرق عشرات السنين حتى تظهر ثمارها.
ويُرجع المتخصص في الإدارة الحكومية كفاءة أداء مجلس الوزراء كجهاز تنفيذي في أي حكومة أو عدمها إلى مدى كفاءة الخدمة المدنية، مذكراً بأن عهدها الذهبي الذي ازدهرت فيه كان خلال فترة جعفر نميري، الذي أنشأ وزارة للخدمة العامة والإصلاح الإداري، تراعي التدريب ورفع القدرات والمؤسسية داخل أجهزة الدولة المختلفة، معرباً عن أسفه لضياع كل ذلك الإرث وتبدده، بعد أن طالتها يد التدخلات السياسية واعتماد الولاء السياسي لمناصب وكلاء الوزارات والقيادات الذي رسخ له بشدة عهد البشير، ما أفقد الخدمة المدنية بدرجة كبيرة أهم عناصر فعاليتها في الحياد والكفاءة.
واتهم الزبير حكومة الثورة الانتقالية بعدم الالتفات بجدية لإصلاح الأوضاع المتردية داخل جهاز الخدمة المدنية، والاستمرار على النهج ذاته الموروث من عهد البشير باستبدال أصحاب الولاءات الجديدة بالعناصر الموالية السابقة، على الرغم من الآثار الخطيرة والمدمرة لهذا النهج ودوره في تعميق أزمات ومشكلات الخدمة، وهو ما ينذر بالمزيد من التدني وانهيار كفاءاتها.
وكان الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، قد أعلن حال الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء وإعفاء ولاة الولايات ووكلاء الوزارات، وعلق العمل بعدد من مواد الوثيقة الدستورية.
وأعلن البرهان في بيان على التلفزيون الرسمي أنه سيشكل المجلس التشريعي (برلمان ثوري) من شباب الثورة، وحكومة كفاءات مستقلة (تكنوقراط)، مؤكداً في الوقت ذاته حرصه على الوصول بالفترة الانتقالية إلى نهاياتها بإجراء الانتخابات العامة في موعدها يوليو (تموز) 2023.
لكن المواقف الدولية والإقليمية والتظاهرات والمواكب الجماهيرية الحاشدة التي خرجت بالداخل في 30 أكتوبر إلى جانب الدعوات لتنفيذ إضراب عام وإعلان العصيان المدني، تلتقي كلها في المطالبة بضرورة العودة إلى الحكم المدني فيما لا تزال الوساطات ودعوات الحوار مستمرة للوصول إلى حل للأزمة.