Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سامية محرز "تزور"  نقديا جدها إبراهيم ناجي

بعد مرور 68 عاماً على رحيل الشاعر المصري النهضوي المجدد

الشاعر ابراهيم ناجي (من الكتاب - دار الشروق)

"أراه يطل من فوق كتفي وأنا أكتب موافقاً أحياناً ومعترضاً في أحيان أخرى، فأدخله إلى عالمي تارة وأتجاهل وجوده تارة أخرى، وأقول لنفسي: إنه جدي وأنا حفيدته في آخر الأمر، ونحن قد أصبحنا أصدقاء". هكذا تختتم سامية مِحرِز تدوينها تفاصيل "زيارة حميمة" لجدها لأمها الشاعر إبراهيم ناجي (1898 – 1953)، بعد مرور 68 عاماً على رحيله، وبعد بلوغها هي السادسة والستين من عمرها. التفاصيل ضمَّنتْها محرز كتابها "إبراهيم ناجي... زيارة حميمة تأخَّرت كثيراً" (دار الشروق)، وهو أول كتاب تصدره باللغة العربية، تلك اللغة التي لطالما كان يعتريها نفورٌ إزاءها في طفولتها وصباها، انعكس سلباً على تفاعلها مع الأدب العربي عموماً وشعر صاحب قصيدة "الأطلال" بخاصة. وقبل تلك "الزيارة الحميمة"، قطعت مِحرِز (1955) رحلة أكاديمية طويلة، نحو الولع بالأدب العربي، لتتخلص تماماً من نفورها القديم منه، فهي ما زالت تحاضر في هذا التخصص في الجامعة الأميركية في القاهرة وتشغل في الوقت نفسه منصب رئيسة مركز دراسات الترجمة في الجامعة نفسها، علماً أنها تكتب عادة بالإنجليزية وتجيد التحدث بالفرنسية والإيطالية والإسبانية. وقد أصدرت من قبل "الكتّاب المصريون بين التاريخ والخيال القصصي: مقالات حول نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني"، "حروب الثقافة في مصر بين السياسة والممارسة"، و"أطلس القاهرة الأدبي: مئة عام في شوارع القاهرة".

تقديم صنع الله إبراهيم

وقدَّم الكاتب صنع الله إبراهيم للكتاب الذي يتألف من 274 صفحة من القطع فوق المتوسط، بكلمة جاء فيها "رحلة طويلة قطعتها سامية محرز منذ الطفولة في المدارس الأجنبية بالقاهرة، حيث نفَّرتْها المناهج الحكومية المقررة على جميع طلبة الجمهورية من الأدب العربي، ثم في جامعات الولايات المتحدة حيث بدأ تصالحها مع جذورها، إلى أن استقرت أخيراً في الجامعة الأميركية في القاهرة لتقوم بتدريس الأدب العربي ذاته. إحدى المحطات المهمة في رحلتها كانت الشاعر الرومانسي الكبير إبراهيم ناجي، جدها لأمها. ولدت بعد وفاته بعامين ودرست شعره على مضض في المدرسة ولم تعره اهتماماً إلى أن ورثت من خالتها أوراقاً له، بعضها خطابات ومذكرات شخصية ومسودات لبعض أهم قصائده من بينها قصيدة (الأطلال)، والبعض الآخر ترجمات أدبية ومشاريع كتب غير مكتملة في الطب؛ كلها لم يطلع عليها أحدٌ قبلها، ألقت الضوء على جوانب مجهولة ومطموسة في حياته: معاناته المادية وصراعاته مع البيروقراطية وعلاقاته العاطفية التي طالما حرصت عائلته على إبقائها طي الكتمان".

 في البداية، لم تعرف سامية محرز جدها، سوى من صورة له معلَّقة على الحائط في بيت أسرتها، وحكايات عنه تتكرر على ألسنة أفراد الأسرة، ثم عبر قصيدة له كانت مقررة على طلبة المدارس، شعرت تجاهها بالنفور. تقول مِحرِز "لم تكن قصيدة (العودة) وحدها هي المشكلة بل كانت هناك مجموعة من الأسباب والظروف والملابسات شكَّلت علاقتي المتوترة بالأدب العربي بشكل عام، وباللغة العربية بشكل خاص. صحيح أننا كنا نتكلم بالعامية المصرية في المنزل طوال الوقت، إلا أنني قرأت أول ما قرأت وكتبت أول ما كتبت بالفرنسية ثم بالإنجليزية؛ كنت أتعجب من اختيار المحفوظات ومواد القراءة في منهج العربية على مدى المراحل الدراسية، وهي القراءات التي تعتبر المدخل الأول بل الأساسي إلى الأدب العربي والثقافة العربية. كنا نقرأ (أو بالأحرى نحفظ دون فهم). وفي المقابل في فصول الأدب الإنجليزي نقرأ ونحلل ونناقش قصصاً مبسطة وملخصة لتتواءم مع أعمارنا وخيالاتنا".

في الجامعة الأميركية

بعد المرحلة الثانوية اختارت محرز عام 1972 الدراسة بقسم الأدب الإنجليزي متحدية أباها الذي كان يتمنى أن تلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. وفي الجامعة الأميركية في القاهرة، علمتها فريال غزول أن تحب إميل حبيبي ومحمد عفيفي مطر ومحمود درويش وصنع الله إبراهيم وإسماعيل فهد إسماعيل وشاكر السياب وجمال الغيطاني وغيرهم... "أسماء لم أكن قد سمعتُ عنها من قبل، فالأدب العربي في تجربتي المدرسية كان قد توقَّف عند (الكبار) ومنهم جدي بالطبع. الكبار الذين أسيء تدريسهم واختيار أعمالهم في المراحل التعليمية المختلفة فحمَّلتهم أنا مسؤولية غربتي عن لغتي وعن ثقافتي". صـ 23.

وبعد حصولها على الماجستير في الأدب المقارن بإشراف فريال غزول، بدأت سامية محرز في عام 1979 مشوار الدكتوراه مع أستاذة الأدب العربي في جامعة لوس أنجليس كلود أودبير؛ "التي كان لها الفضل في إخراجي من الشرنقة". فهذه الأستاذة نشأت في القاهرة حيث كان والدها مفتشاً عاماً على المدارس الفرنسية حينذاك. فتنتها العربية فوهبتها حياتها... "علمتني لغتي كاشفة لي عن عبقريتها، فأكملتْ ما بدأته فريال غزول. كتبت أول رسالة دكتوراه عن أدب جمال الغيطاني عام 1984. الغيطاني كان قد قال لها في أول لقاء جمعهما إنها تشبه جدها إبراهيم ناجي. بعد الدكتوراه، بدأت رحلة متعثرة في البحث عن ذلك الشبه تارة، ثم الانقلاب عليه تارة أخرى. الصورة الأسطورية التي رسمتها أمها وأختاها عن ناجي، باعدت بيني وبينه من فرط حجمها ورمتْ بظلالها على تكويني واختياراتي، أو هكذا ظننتُ غير مدركة أن في تغييبي له ازداد هو حضوراً".

عندما اختارت دراسة الأدب، توقعت العائلة أن تسير سامية على درب جدها، لكنها بدلاً من الشعر تخصصت في الرواية الحديثة، وتعمدت ألا تدرس شعره خوفاً من وطأة حضوره وثقل إرثه. رحل جدها قبل أن تولد هي بنحو عامين، عن 56 عاماً. وفي السنوات الأخيرة وبعد أن تجاوزت الخمسين من عمرها... "تيقنتُ من أن الوقت قد حان لأشن (حملة تفتيش)، كما قالت العظيمة لطيفة الزيات، في أوراقه الشخصية ومسودات أشعاره وذكريات كثيرة فاجأتني بحضورها بعد أن كنتُ إما نسيتُها أو لم أفهم معناها، فآثرتُ أن أبحث عما قد يجمعنا في هذه الزيارة الحميمة".

المدوَّنة المفقودة

في هذه "الزيارة" لناجي وعوالمه المتشعبة، تحرص حفيدته على تصحيح كثير من المعلومات المتداولة، ومنها ما ذهب إليه بعض كتَّاب سيرته من أنه كتب الشعر متأثراً بعلاقة عاطفية ربطته بجارة له، فضلت عليه شخصاً آخر وتزوجته. لا تنكر سامية محرز أن تلك الجارة كانت ملهمة ناجي الأولى. لكنها تنكر أنه كان يرغب في الزواج منها، مستندة إلى قراءة معمّقة في مذكراته، أو تدويناته، غير المنشورة التي كتبها بالإنجليزية والعربية والفرنسية، في الفترة من 1944 إلى 1949، وبحث "ميداني" في محيط تلك الجارة التي توفيت بعد ناجي بنحو ربع قرن، وفي الخلاصة تقول "أحببت عليّة (الجارة الملهمة) وأنا لا أعرفها إلا من خلال الحكي. أحببتها لأنها صاحبت جدي في صباه ووهبته وفرة الحلم برغم الحرمان" صـ 106.

ومن خلال رسائل كان يبعث بها إلى زوجته أثناء عمله في مدينة المنصورة لنحو ثلاث سنوات، تدرك سامية محرز أن ناجي لم يحب سوى زوجته، ولكن ذلك لم يمنع "ارتباطه" بالكثير من "الملهمات"، ومنهن الممثلة زوزو حمدي الحكيم، التي يقال إنه كتب قصيدة "الأطلال" تحت وطأة "هجرها" له!

وتعتقد محرز أن لجدها مدوَّنة مفقودة، بما أن مدونته التي آلت إلى خالتها تبدأ بشكواه من أنه قد مضت ثلاثة أشهر من دون أن يدون شيئاً؛ "ربما يكون قد دوَّن فيها انكساره بعد هجوم طه حسين والعقاد على شعره، عند صدور ديوانه الأول (وراء الغمام)، واستعرض مفهومه عن الشعر الذي تعارض مع مفهوم طه حسين... هل فضفض فيها عن الكبوة التي صاحبت تلك الأزمة بينهما، وهي الأزمة التي أدت إلى عزوفه عن كتابة الشعر ولجوئه إلى التركيز على الترجمة وكتابة القصة والمقال؟ خسارة ضياع تلك المدوَّنة إن كانت قد كُتِبت بالفعل".

وتقول محرز في هذا الصدد "الفترة التي يفترض أن يكون جدي قد أرَّخ لها في تلك المدونة المفقودة كانت فترة من أهم الفترات في مسيرة ناجي؛ إذ ثبّتت موقفه شاعراً رومانسياً مدافعاً عن مدرسة جديدة في الشعر العربي في مواجهة مدرسة المحافظين وعلى رأسهم العقاد وطه حسين، ثم إنها فترة زاخرة بإنتاجه متعدد الأوجه ومساهاماته الثقافية مفكراً وكاتباً ومترجماً ومحاضراً موسوعياً ذا باع في حقول معرفية وإبداعية مختلفة: الطب، علم النفس، علم الاجتماع، النقد الأدبي، الترجمة، الكتابة القصصية، ناهيك بالطبع عن الشعر والشعراء". 

أم كلثوم تغني "الأطلال"

في الفصل السابع من الكتاب تتتبع سامية محرز كيف تحوَّل جدها، بعد 13 عاماً على رحيله، إلى "سوبر ستار"، بفضل قصيدته "الأطلال" التي غنتها أم كلثوم، لتتربع على عرش أغاني سيدة الغناء العربي، بتعبير محرز التي تضيف "ستصبح سفيرة مصر بامتياز في كل حفلات كوكب الشرق في دعمها للمجهود الحربي بعد هزيمة 1967، وسنرى على شاشات التلفزيون مشاهد استقبال غير مسبوقة لأم كلثوم وهي تغنيها في حفل باريس في نوفمبر من العام نفسه، ثم في حفلات أخرى في المغرب وتونس وغيرها من البلدان العربية، وسيكتسب جدي فجأة اسم شهرة جديداً يختزل إسهاماته أثناء حياته القصيرة، إذ سيصبح (شاعر الأطلال)، وستتهافت الجرائد والمجلات على أمي وخالتي ضوْحيَّة (التي كانت تكتب الشعر بالفرنسية)، وستبدأ معركتهما على صفحاتها مع (الملهمات) الجديدات اللاتي ملأن الجرائد بدورهن لاقتناص الأضواء وادعاء أن تلك القصيدة كتبت من أجلهن".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتلك الأغنية هي مزيج من قصيدتين لناجي الذي كما تقول سامية محرز لطالما تمنى أن تغني له أم كلثوم، "لكنه رحل بحسرته قبل أن تغني له السِت". يقال إن أم كلثوم أرادت أن تصالح ناجي، فغنَّت "الأطلال"... "وهذه قصة غريبة في الواقع -تقول محرز- فما الداعي لمثل هذا الصلح بعد رحيله؟ ولأن هذه القصة غير مقنعة، فأنا أميل إلى قصة أخرى قد تكون أكثر إقناعاً. فاختيار أم كلثوم الأطلال يشكل عودة إلى (قصيدة الحب) بعد فترة من أغاني الحب سهلة اللفظ بالعامية. لذا وقع اختيارها على قصيدة بالفصحى تعيد على مسامع مريديها قدراتها الأدائية الأكثر إبهاراً". وقد لعب الشاعر أحمد رامي -كما تؤكد محرز- دوراً محورياً في اختيار "الأطلال" بل وفي نحتها من جديد بإضافة مقاطع إليها من قصيدة أخرى لناجي عنوانها "الوداع"، لكي تُغنى، وهو كان من أعز أصدقاء ناجي. ومع ذلك فإن تلك الأغنية، والتي حوَّلته إلى "سوبر ستار"، تحوّلت؛ وفق تقدير سامية محرز، إلى نقمة، لأنها جعلت كثيرين يعتقدون أنه "شاعر الأطلال" وحسب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة