Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان... رهانات ما بعد 30 أكتوبر

سنجد أنفسنا أمام ظاهرتين مهمتين: الشرعية الجديدة والمستحقة لحمدوك وأداء جديد لـ"قوى الحرية والتغيير"

ستؤثر مليونية 30 أكتوبر في السودان على مواقف الأطراف كافة (رويترز)

كما كان متوقعاً من خلال مؤشرات كثيرة، سواء لجهة تدهور الأوضاع نحو الانسداد الذي كان نهاية للاستقطاب بين فريقَي شراكة المرحلة الانتقالية: "قوى الحرية والتغيير" والمكون العسكري، أو كنتيجة للأداء الهش والمريع لـ"قوى الحرية والتغيير" وتقصيرها الخطير على مدى ثلاثة أعوام، الذي أدى إلى عدم استكمال هياكل السلطة الانتقالية، ومنها المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وتعيين النائب العام وتكوين المفوضيات، بدا لنا اليوم كم كان ذلك التقصير (الذي لطالما حذرنا منه) فادحاً ومكلفاً، ليأتي الانقلاب العسكري لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان على المرحلة الانتقالية والوثيقة الدستورية، كنتيجة كارثية واستحقاقات معارك مؤجلة، بدا من الواضح أنها ستفجر في الطريق وعلى نحو محتوم.

هكذا كان لقرب استلام المدنيين لرئاسة مجلس السيادة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل من ناحية، والخوف من نتائج لجنة التحقيق بشأن فض اعتصام القيادة العامة من ناحية ثانية، ما توافق مع اختتام سلاسل عرقلة المرحلة الانتقالية في الخطط التي بيَّتها المكون العسكري، والتي بدأت منذ ثلاثة أعوام، بمرحلة شد الأطراف (اصطناع موجات الاقتتال بين المكونات الأهلية) في شرق السودان وغربه، ثم بإطلاق عصابات النيقرز في العاصمة والمدن الكبرى لترويع المدنيين وإشاعة الفوضى، ثم بإغلاق موانئ شرق السودان والطريق القومي برعاية المجلس الأعلى لنظارات البجا، ثم بإطلاق بعض الخلايا النائمة لتنظيم "داعش"، وصولاً إلى الخطة ما قبل الأخيرة، وهي شق صف "قوى الحرية والتغيير" وتكوين ما سُمّي بـ"قوى الميثاق الوطني" بوصفها "قوى الحرية والتغيير 2" التي تحالفت مع العسكر واعتصم أنصارها أمام القصر الرئاسي يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بقيادة مني مناوي وجبريل إبراهيم وآخرين. حتى إذا كشفت مليونية الشعب السوداني في 21 أكتوبر التي خرج إليها مئات الآلاف (بحسب وكالة رويترز)، معلنين تمسكهم بالحكم المدني ضد اعتصام "قوى الميثاق الوطني"، كان قد حان وقت الانقلاب الذي بدت لحظة حصوله لا مفر منها، بعد تجريب كل الوسائل التي توخّى المكون العسكري من خلالها تيئيس الشعب السوداني من جدوى الحكم المدني من خلال عرقلة الوضع الأمني والاقتصادي على مدى سنوات ثلاث!

لكن المفارقة في ذلك أن الانقلابيين منذ اليوم الأول، الاثنين 25 أكتوبر، كانوا أدركوا طبيعة المجازفة التي أقدموا عليها، حينما تحركت تظاهرات متفرقة في الخرطوم منذ ساعات الصباح الأولى، لأن الشعب السوداني كان مدركاً بوضوح إلى أين يمكن أن يقوده انقلاب عسكري بعدما ذاق على مدى ثلاثين عاماً وطأة انقلاب الإخوان المسلمين، وقد سمم حياته ودمرها.

ثم توالت ردود الأفعال الدولية، لا سيما موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي تصاعدت وصولاً إلى تمديد واشنطن حالة الطوارئ التي كانت فرضتها على السودان عام 1997. وبدأت المفارقات بالبيان الانقلابي الغريب الذي ألقاه البرهان في يوم الانقلاب، إذ أعلن حالة الطوارئ وأعفى الوزراء والولاة وعلّق العمل بالوثيقة الدستورية (مستثنياً منها بنوداً تتيح لحلفائه من حركات دارفور الشراكة في الحكم معه مثل حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة مني مناوي)، وواصفاً الانقلاب بأنه "تصحيح للمسار الديمقراطي".

الأغرب من ذلك أن البرهان ذكر خلال مؤتمر صحافي في اليوم الثاني أن رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك معه في المنزل بالقيادة العامة للقوات المسلحة، وأن الأخير سيعود إلى منزله حال الاطمئنان إلى الوضع الأمني الخاص به. في مفارقة عجيبة لا يكاد يصدقها عاقل. ثم رشحت أخبار من موظف أممي سابق بأن البرهان يسعى معه التوسط للحديث مع حمدوك بخصوص تولّي رئاسة وزراء الحكومة الجديدة! وفي اليوم الثالث، ظهر البرهان في مؤتمر صحافي وقال إن عرضه  لرئاسة الوزارة  ما زال مطروحاً أمام حمدوك، لكن الأخير رفض ذلك!

أمام هذا المنطق العجيب في المشهد السوريالي الذي وضع فيه العسكر الحياة السياسية على كف عفريت، بدا الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) غائباً عن المشهد، فهو لم يظهر مع البرهان حين تلا بيان ما سُمّي بـ"تصحيح المسار الديمقراطي"، ولم يصرح حتى لحظة كتابة هذا المقال، ولو منفرداً. الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة وراء صمته واختفائه، مع أن الشواهد تدل على أن القائمين على أمر هذا الانقلاب في الميدان هم قوات الدعم السريع!

ومع تواتر مواقف الإدانة من المجتمع الدولي وتصاعدها، ربما تفاجأ كل من البرهان وحميدتي بردود الفعل السلبية لانقلابهما، فيما تسرّبت أخبار عن مبادرات لجهات إقليمية ودولية لعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب، لا سيما في ظل انشقاق أكثر من 60 سفيراً حول العالم وإدانتهم ما سُمّي بـ "تصحيح المسار الديمقراطي". ورشحت أخبار أوردتها وكالة "رويترز" بأن حمدوك قدّم ثلاثة شروط للنظر في أي تفاهم أو تسوية. وهذه الشروط تتمثل في اعتراف العسكر بأن ما حدث في 25 أكتوبر هو انقلاب وإطلاق سراح وزراء الحكومة المعتقلين والمعتقلين السياسيين كافة، وأخيراً ابتعاد العسكر عن السياسة.

وبالرغم من بعض المبادرات التي تقودها الأمم المتحدة وجهات إقليمية لتسوية الأوضاع بين الفريقين، كان الجميع في الداخل والخارج ينتظر نتائج تظاهرات السبت التي أسماها الشعب السوداني "مليونية 30 أكتوبر"، وخرج فيها أكثر من مليون في شوارع الخرطوم والمدن السودانية رفضاً للانقلاب.

يبدو أن سقف الشارع السوداني بعد مليونية السبت كان رافضاً لأي وجود للبرهان وحميدتي في أي تسوية سياسية للوضع، بعد هذا الانقلاب. وهذا الرفض من الشعب السوداني سيظل إشكالية كبيرة أمام بعض أحزاب "قوى الحرية والتغيير" التي ربما تريد تسوية سريعةً للوضع. كما أن الانقلابيين أدركوا من ردود الفعل الدولية القوية التي شملت تعليق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي المساعدات، أن الأمور ستزداد تعقيداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان واضحاً من قمع التظاهرات الشعبية التي راح ضحيتها منذ بداية الانقلاب حتى السبت، 12 مواطناً سودانياً، أن هناك إرادة كبيرة للقمع المميت في مخطط الانقلابيين لولا التحذيرات شديدة اللهجة من طرف الولايات المتحدة والأمم المتحدة ودول الترويكا.

يمكن القول، بعد أن تكشفت للعيان نتائج مليونية السبت، إن الجميع سيتحرك. فمن ناحية، سيتحرك المجتمع الدولي في ضوء نتائج تلك المليونية، بالرغم من أن هذا المجتمع كشف عن مواقف صارمة وواضحة من الانقلاب منذ البداية، لكنه بعد 30 أكتوبر سيعمل على استثمار النتائج الواضحة والرافضة للانقلاب في التظاهرات، وسيكثف الضغوط.

كما أن حمدوك، من ناحية ثانية، سيعمل على تحسين أوراق ضغطه في ضوء نتائج مليونية 30 أكتوبر، ليضع شروطه موضع التنفيذ أو المساومة عليها، مستفيداً من زخم ذلك اليوم بالاستناد إلى الدعم اللامحدود من المجتمع الدولي. ولهذا، قد يحتاج الخروج من هذا المأزق، حال رضا العسكر بشروط حمدوك على نحو ما، القبول بشروط تفصيلية تتضمن أموراً كثيرة، منها سحب الملفات السياسية التي كان يتولاها مجلس السيادة كملف السلام، وتسليم شركات الجيش الاستثمارية العملاقة إلى وزارة المالية (ما عدا تلك الشركات التي تختص بالشؤون العسكرية). وكذلك جعل تعيين وزيري الداخلية والدفاع وجهاز الأمن والاستخبارات من حصة الشق المدني في السلطة الانتقالية. وقد يعني هذا الشرط إعادة تموضع جديد للجيش في العملية السياسية للمرحلة الانتقالية، لكن  من دون أي طموحات تتجاوز الجانب المهني.

ومن المؤكد بعد تداعيات التظاهرة المليونية ليوم السبت، أنه سيكون هناك  ظهور مرتقب للفريق محمد حمدان دقلو، الذي قد يلعب دوراً ما، وإن على نحو مفاجئ ليظهر بدور المخلص، لكن حميدتي هذه المرة سيكون مدركاً لأهمية الشرعية الثورية الجديدة لحمدوك الذي امتلكها بمواقفه الصلبة وشهد له بها الشعب السوداني، خلال محنة اعتقاله. فألهمته الاستمرار في التظاهر حتى استعادة الديمقراطية، ما يعني أن حمدوك هذه المرة أصبح رقماً صعباً حتى بالنسبة إلى علاقته مع "قوى الحرية والتغيير". بالتالي، ربما سيكون حميدتي قد قرأ الدرس الانقلابي الذي سيجعله هذه المرة من دون سقف عالٍ من الطموحات.

وفي ما إذا آلت الأوضاع إلى الاستقرار، استجابة لشروط حمدوك، وإن على نحو ما، سنجد أنفسنا أمام ظاهرتين مهمتين، ظاهرة الشرعية الجديدة والمستحقة لحمدوك، في ضوء مواقفه الصلبة التي كشف عنها في محنة هذا الانقلاب وعرفها السودانيون جميعاً، وهي شرعية ثورية مكتسبة (لم تكُن متوافرة لحمدوك بعد نجاح الثورة في إسقاط عمر البشير وتعيينه رئيساً للوزراء). وهذه الشرعية ستتيح له مروحة من الخيارات تمنحه استقلالية في اختيار الوزراء وكبار موظفي الحكومة حتى في مواجهة "قوى الحرية والتغيير".

والظاهرة الثانية، ستتكشف عن أداء جديد يحتمل بأن يكون إيجابياً وجيداً لـ"قوى الحرية والتغيير"، بعد هذه الخضّة العنيفة التي ستلفتها بقوة إلى عدم تكرار أخطاء الماضي والمضي قدماً في تقديم أفضل ما لديها والدفع إلى القيام بمهمة الانتقال الديمقراطي. وربما طعّم حمدوك حكومته بعناصر من خارج الحرية والتغيير من الشخصيات العامة وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء