Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموسيقى جزء من فرح الحياة اليومية في لوحات الهولندي فرمير

حين يهبط الفن من السماوات إلى عالم الإنسان على خطى سبينوزا

"درس الموسيقى" لفيرمير (غيتي)

من دافنشي إلى بيكاسو وبراك، ومن فيرونيزي إلى كورو وكلي في أزمنة أقرب إلينا، كانت الموسيقى وتبقى، جزءاً أساسياً ومكملاً للفن التشكيلي. ولقد أفرد الباحث الفرنسي دانيال آراس صفحات بديعة من كتابه عن دا فنشي، للحديث مستنداً إلى جورجيو فازاري المؤرخ العمدة لحياة صاحب "الموناليزا" للحديث عن كونه عازفاً بل حتى مؤلفاً موسيقياً وربما بقدر ما كان رساماً مؤسساً، كما أن معظم الدراسات التي تناولت بالشرح والتحليل لوحة فيرونيزي الكبيرة "عرس قانا" توقفت طويلاً عند القسم المخصص في اللوحة للفرقة الموسيقية الرباعية التي كانت تحيي العرس مؤكدين أن أفرادها إنما هم في الحقيقة أربعة من كبار رسامي زمن فيرونيزي الذي حمل كل واحد منهم آلة موسيقية وجعلهم يعزفون عليها، منهم فيرونيزي نفسه وتيسيانو وتينتوريللو وباسانو. ومن الواضح أن هذا الشغف التشكيلي بتصوير الموسيقى جعل هذا الفن متكاملاً مع الرسم وصولاً إلى ذروة تكامله مع لوحات كثيرة مزج فيها بول كلي بين الفنين بصورة عضوية.

دنيوية الحياة الإنسانية

والحال أن السطور السابقة إنما تأتي هنا تمهيداً للإشارة إلى أن الموسيقى إنما أتت في لوحات التشكيليين الكبار كجزء أساسي من أنسنتهم للفن التشكيلي نفسه وعلامة على نشاط ينزل باللوحات نفسها من علياء التعبير الديني السماوي إلى دنيوية عالم الإنسان. وفي هذا السياق لا بد هنا من الوصول إلى الرسام الهولندي يوهانس فرمير، فنان الحياة اليومية الذي لا ريب أن توغله في كتابات الفيلسوف باروخ سبينوزا كان ذا تأثير كبير في تعاطيه مع لوحاته التي صورت حياة الإنسان في بلد يعيش تغيرات ذهنية كبرى في الزمن الذي عاش فيه بين 1632 و1675 وأبدع عدداً قد يكون قليلاً من اللوحات (أو قد يكون ما عثر عليه منها حتى الآن أقل مما كان يمكن لحياته القصيرة أن تنتج)، لكنها في جملتها تعطينا فكرة واضحة عن بعدين يجب دائماً أخذهما في الحسبان: البعد المرتبط بدنيوية الفن المعبر بقوة عن الحياة اليومية كجزء من التغيرات البورجوازية التي طرأت على مجتمع بات مركانتيليا بفضل اقتصاد يتمركز من حول التجارة؛ والبعد المرتبط بفكرانية جديدة تنتمي بشكل أو بآخر إلى فكر حيوي يرى في الإنسان مركزاً للكون وينطلق من تجديدات مفكرين جدد لعل سبينوزا كان في مقدمتهم هو الذي جعل من ألق الحياة واتباع مسراتها جزءاً من كينونة الإنسان على الضد من جمودية تفرضها ممارسات غيبية كانت قد أدت إلى طرده من المعبد اليهودي في أمستردام لكونه "منشقاً" عن سياسات رجال الدين. وطبعاً ليس هذا موضوعنا هنا. بل موضوعنا يدنو من جانب من جوانب فن فيرمير نفسه، يمكننا الزعم أنه كان ينهل من ذلك الفكر الدنيوي المرتبط بالحياة اليومية.

الموسيقى في عاديتها الحيوية

هذا الجانب بالنسبة إلينا هنا يرتبط بالموسيقى تحديداً. ذلك الفن الذي لا شك أن فيرمير قد سار في التعبير عنه على خطى سابقيه الكبار كما مهد لعدد كبير من لاحقيه الذين وجدوا في بعض أعماله مرجعاً لهم في هذا المجال، أسوة بما وجدوه لدى كبار آخرين. وصحيح هنا أن فيرمير لم يجعل الموسيقى جزءاً أساسياً من فنه لكنه جعلها موضوعاً بارزاً في عدد من أبرز لوحاته التي تبقت لنا، إذ هناك ما لا يقل عن ست لوحات (من أصل ما يزيد قليلاً على تراث باق يقدر بـ36 لوحة) هي من أبرز ما أنجز خلال مساره المهني. 6 لوحات تكاد تغطي على أي حال، تلك العلاقة التي رغب في التعبير عنها بين الموسيقى والحياة اليومية في مجتمع البلاد الواطئة في زمنه. ولعل ما يجدر بنا أن نلاحظه في هذا السياق أن فيرمير لم يكن استثنائياً في اهتمامه هذا، بل سار على درب شاركه فيها كبار معاصريه من فنانين جعلوا للموسيقى مكانة أساسية في فنهم، من ستيرن إلى دي هوك إلى غابريال ميتسو وغيرهم. ومع ذلك يبقى فيرمير في مركز الصدارة بينهم في مجمل أعماله كما في لوحاته "الموسيقية".

سنوات للإبداع الملكي

ولئن كان من اللافت أن إنجاز فيرمير تلك اللوحات يكاد ينحصر خلال النصف الأول من ستينيات القرن الذي عاش فيه فربما كان ثمة سبب منطقي فرض ذلك. سبب يتعلق بتوصية عمدة (بورغماستر) مدينة دلفت من قبل مندوبين للملك الفرنسي لويس الرابع عشر طلبوا منه الوساطة لشراء عدد من لوحات فناني المدينة لحساب الملك. فاختار فرمير بين آخرين مشدداً على ضرورة أن تكون الموسيقى جزءاً من المواضيع التي يتم اختيارها للوحات. وهكذا ولدت في عام 1661 لوحة "عازفة القيثارة" التي لن تكتمل على أي حال إلا بعد ذلك بعشر سنوات لكنها كانت مقدمة للوحات موسيقية قد تكون في مجملها صغيرة الحجم (53 سم ارتفاعاً مقابل عرض يزيد قليلا على 46 سم بالنسبة إلى "عازفة القيثارة" هذه، ومثل ذلك أو يزيد قليلاً بالنسبة إلى بقية لوحات المجموعة) لكنها تعبر بشكل عام وبقوة لا ريب فيها، عن تيار فني متكامل بل حتى متكامل في تتبعه للموضوع الموسيقى، لا سيما في عادية الحياة اليومية ومسارها المرتبط بفرح الحياة.

موسيقى في عالم الداخل

وهكذا بعد "عازفة القيثارة" تطالعنا لوحة لـ"امرأة تعزف على آلة اللوث – العود" جالسة قرب نافذة تسبغ عليها نوراً طبيعياً. ومن بعدها لوحة عنوانها "درس الموسيقى" تتميز بكون العنصر الأساس فيها، أي العنصر البشري، ممثلاً بتلميذة في العزف على آلة تشبه البيانو وكانت تسمى حينها "الإيبينيت" وتولينا ظهرها فيما أستاذها واقف قربها يراقب تقدمها بانتباه واهتمام، تتميز بكون هذا العنصر البشري لا يشغل سوى ركن بسيط من اللوحة التي تعطي الأفضلية للمكان نفسه، والذي يرجح أنه قاعة في منزل فرمير كما الحال في معظم لوحاته الحميمة. والحميمية هي ما يميز أيضاً هذه اللوحة التي تعتبر من أجمل لوحات الرسام. علماً أن لوحة "الكونشرتو الثلاثي" التي تليها تاريخياً تماثلها في كونها "لقطة عامة" حسب التعبير السينمائي لكنها في المقابل تعطي مكاناً أوسع للعنصر البشري المتمثل هنا في عازفة على الإيبينيت ومغنية إضافة إلى ما يبدو أنه أستاذهما الجالس وسطهما ونراه من ظهره ما يفترض أننا هنا أيضاً في حضرة درس في الموسيقى يدور في قاعة ربما هي نفسها من قاعات بيت فيرمير الذي نعرف على أي حال أنه رسم في بيته معظم لوحاته الداخلية هو الذي جعل مكان معظم لوحاته ذلك البيت الذي لم يخرج منه لغاياته الفنية سوى مرتين إحداهما كانت حين رسم "الزقاق" خارج بيته والأخرى حين رسم ذلك "المنظر العام لمدينة دلفت" في لوحته الكبرى التي فتنت الكاتب الفرنسي مارسيل بروست بعد ذلك بمئات السنين بل فتنت واحداً من شخصيات روايته "البحث عن الزمن الضائع" ونعني به الصحافي الذي لفرط تأثره باللوحة سيموت بعد حين بفعل ذلك التأثر كما يروي بروست.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

للختام لوحة درامية غامضة

وعلى آلة الإيبينيت نفسها تطالعنا فتاة تعزف في لوحتين أخريين. في الأولى تعزف واقفة قرب نافذة تشكل كالعادة مصدر النور فيما نشاهد على الجدار الذي يواجهنا لوحة تمثل كيوبيد إله الحب عند الإغريق ما يدفعنا إلى الاعتقاد برمزية المشهد كله. أما في الثانية، فلدينا الفتاة نفسها، كما يبدو وهي جالسة تعزف على الإيبينيت أيضاً واثقة هذه المرة من نفسها وهي تنظر إلينا نحن مشاهدي اللوحة بقدر كبير من الثقة بالنفس، وغير بعيد منها آلة تشيلو يخيل إلينا أن اللوحة توحي بأنها تتقن العزف عليها أيضاً. وتبقى من هذه المجموعة على أي حال لوحة أخيرة موسيقية أيضاً لكنها درامية كما يفصح عنوانها وبادية الغموض هي "درس الموسيقى المتوقف" مخلفاً دهشة في التفات الفتاة التلميذة إلى من يبدو أنه قطع الدرس لسبب ما فيما الأستاذ يبدو غير مبال بالأمر متابعاً عمله في الدرس النظري بكل هدوء...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة