أعادت وفاة كولن باول الحديث من جديد عن الصراعات السياسية في الولايات المتحدة، فالرجل الذي اعتبره كثيرون قصة نجاح أميركية نظير خدمته طوال أربعة عقود قائداً عسكرياً ودبلوماسياً، وسجل اسمه أول أميركي أسود يتولى رئاسة أركان الجيش ووزارة الخارجية ومستشار الأمن القومي، وسجل عقيدة عسكرية باسمه في حرب الخليج الأولى، عبر أخيراً عن ندمه، لأن خطابه في الأمم المتحدة عام 2003 مهد الطريق لخوض الحرب في العراق بعد فشله في إقصاء الرئيس جورج دبليو بوش عن الحرب.
وصمة عار
بعد 84 سنة من الإنجازات وبعض الإخفاقات، جاءت وفاة باول في مستشفى قرب واشنطن متأثراً بمضاعفات "كوفيد-19" ونقص مناعته بسبب إصابته السابقة بالسرطان، لتفتح الباب أمام مراجعة وتقييم السياسات الأميركية السابقة في الشرق الأوسط والعالم، بعد أن أسهم بقوة وهو رئيس لهيئة الأركان المشتركة في توجيه القوات الأميركية لتحقيق النصر في حرب الخليج الأولى لتحرير الكويت من قبضة صدام حسين عام 1991، وكافح بعد عقد من الزمان لمنع الغزو الأميركي للعراق كوزير خارجية محاصر بالمحافظين الجدد في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وندمه الشديد حين ألقى بمصداقيته العامة الكبيرة وراء قرار مهاجمة العراق، ووافق على طلب بوش عرض قضية الولايات المتحدة للحرب على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2003، وهي خطوة اعتبرها باول "وصمة عار" في سجل تاريخه.
صفات قيادية
لكن هذا الموقف الذي ظل يلاحقه بعدما ترك أضواء السياسة لم يمنع الصحافة ووسائل الإعلام الأميركية من الإشادة بقصة نجاحه الكلاسيكية الأميركية، فقد ولد باول في حي هارلم في نيويورك لأبوين مهاجرين من جامايكا، إذ كان والده رئيس عمال وأمه خياطة، ونشأ في جنوب برونكس وتخرج في كلية سيتي في نيويورك دارساً الجيولوجيا.
لكن حياة باول تغيرت تماماً حين التحق بالجيش من خلال تدريب لضباط الاحتياط، وشارك في جولتين قتاليتين في فيتنام ساعدتاه على أن يرتقي بسرعة في الجيش، ليصبح أصغر وأول رئيس أسود لهيئة الأركان المشتركة. ويعود هذا الصعود السريع إلى عدة عوامل، أبرزها صفاته القيادية وبلاغته ومهارته الإدارية التي دفعت به إلى تولي سلسلة من الوظائف كمساعد عسكري لمسؤولين حكوميين رفيعي المستوى في وزارة الدفاع، وعمله مستشاراً للأمن القومي للرئيس رونالد ريغان في فترة نهاية الحرب الباردة، إذ ساعد في التفاوض بشأن معاهدات الأسلحة وعصر التعاون مع الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف.
بطل قومي
ظهر الجنرال باول كقوة دافعة داخل البنتاغون لتقليص حجم القوات الأميركية وإعادة هيكلتها بعد حل حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي. ودفع الغزو الأميركي لبنما في ديسمبر (كانون الأول) 1989 به إلى دائرة الضوء، فقد ظهرت صراحته وثقته بنفسه عندما اقتحم جيش الولايات المتحدة بنما في غارة استمرت عدة أيام وأسر زعيمها مانويل نورييغا.
لكن حرب الخليج الأولى عام 1991 جعلت منه بطلاً قومياً، ففي البداية فضل الجنرال باول، الذي كان أول رئيس أركان أسود في تاريخ الولايات المتحدة، الاعتماد على العقوبات لمعاقبة العراق واحتوائه بعد غزو الكويت، ولكن حينما قرر الرئيس جورج بوش الأب القيام بعمل عسكري، دفع الجنرال باول بقوة هائلة لمهاجمة الجيش العراقي.
عقيدة باول
كرئيس لفريق المخططين العسكريين الاستراتيجيين، طور باول ما عرف بـ"عقيدة باول"، وهو منهج لإدارة الصراعات العسكرية يقوم على أساس استخدام القوة الهائلة لتحقيق نجاح كاسح ولخفض الإصابات المحتملة في صفوف القوات المهاجمة. واستندت إلى ضرورة تحديد الأهداف بوضوح مع ضرورة توفير دعم شعبي واسع. وولدت عقيدة باول من رحم الإحباطات الطويلة الأمد للجيش الأميركي خلال حرب فيتنام، حيث صعدت الولايات المتحدة تدريجاً استخدام القوة وأعلنت فترات توقف دورية في حملة القصف. ولهذا استخلص باول أنه إذا كان سيتم استخدام القوة فيجب أن تكون طاغية وحاسمة.
نجح باول في حشد نصف مليون جندي لطرد القوات العراقية من الكويت، ومن خلال مؤتمراته الصحافية بعد بدء الحرب في يناير (كانون الثاني) 1991 كانت الاستراتيجية التي حظيت بدعاية كبيرة تقدم الجنرال باول على أنه قائد عسكري رائع وجذاب وقوي الكلام، وهكذا أصبح بحلول عام 1992 أقوى رئيس هيئة أركان مشتركة في تاريخ ذلك المنصب، وفق تقديرات محللين عسكريين.
غير أن هذه العقيدة لم تكن ملائمة للصراعات الفوضوية في البلقان، التي حدثت لاحقاً في منتصف التسعينيات وخلال عمليات مكافحة الإرهاب في عالم تحول كثيراً بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
الرجل الغريب
أدى اختيار باول من قبل الرئيس جورج دبليو بوش في أواخر عام 2000 لمنصب وزير الخارجية إلى تحويل الجنرال من جندي إلى رجل دولة، ما جعله أول شخص أسود يقود وزارة الخارجية. لكن السنوات الأربع التي قضاها في هذا المنصب أثبتت أنها مهمة صعبة للغاية، فقد كان الجنرال باول براغماتياً ومن أشد المؤمنين بالتحالفات الدولية، وغالباً ما وجد نفسه الرجل الغريب في إدارة يسيطر عليها منظرو المحافظين الجدد الذين كانوا متشككين بشأن فائدة الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي للولايات المتحدة، ومستعدين بقوة لتوظيف القوة العسكرية الأميركية خارج إطار التحالفات الدولية والمنظمة الدولية.
وبخلاف تحفظاته المعروفة بشأن التدخل العسكري لغزو العراق عام 2003، فإن الجنرال باول، كما اعترف في كثير من الأحيان، لم يقدم الأولوية لمبادئه، فقد رأى نفسه في المقام الأول كمدير خبير لحل المشكلات، وأن طاعة الرئيس بوش واجبة لأنه هو الذي يتخذ قرار الحرب. وعلى الرغم من مخاوفه العميقة بشأن توقيت غزو العراق وحجم القوة الأميركية الغازية، فإنه أيد الإجراء في نهاية المطاف.
وبينما رحب كثيرون بتقاعده من الخدمة العامة في نهاية ولاية بوش الأولى باعتباره شخصية حظيت بقدر واسع من التقدير، تعرض لانتقادات واسعة لأنه لم يبذل جهوداً أكبر لعرقلة حرب العراق ولم يقدم استقالته احتجاجاً على الرغبة فيها.
جندي المكابح
وعلى الرغم مما وصفه باول نفسه بوصمة العار الأبدية، فقد تمكن من تحقيق بعض الانتصارات في وقت مبكر من توليه المنصب. ففي عامه الأول وزيراً، نجح في إطلاق سراح طاقم طائرة استطلاع أميركية من الصين كانت قد هبطت اضطرارياً بعد اصطدامها بطائرة صينية فوق بحر الصين الجنوبي، ما أسفر عن مقتل طيار صيني، كما نجح في عرقلة جهود إدارته سحب القوات الأميركية من عمليات حفظ السلام التابعة لحلف الناتو في البلقان، وساعد في انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية من دون إثارة رد فعل روسي عنيف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن باول لم يحرز تقدماً يذكر في مجالات السياسة الخارجية الرئيسة الأخرى، مثل الدبلوماسية مع كوريا الشمالية والجهود المبذولة لتخفيف التوترات العربية الإسرائيلية، فقد رأى أن مهمته تتمثل أساساً في تخفيف الميول الأكثر تطرفاً لفريق بوش وتجنب الكارثة، وهو ما أوضحته كارين دي يونغ، الصحافية في "واشنطن بوست"، في كتابها "الجندي" الذي كتبته عام 2006 عن سيرة الجنرال باول، إذ وصفته بأنه كان كمكابح للإجراءات الرئاسية المتهورة والسياسات المضللة، ولم يكن لديه ذلك الدور التطلعي الذي تصوره باول لنفسه كرئيس للدبلوماسية الأميركية.
ومن بين هذه المؤشرات أن باول ساعد في إقناع بوش خلال الأسابيع التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، عندما ظهرت فكرة مهاجمة العراق لأول مرة، على مواصلة التركيز على ضرب معسكرات "القاعدة" في أفغانستان، وواصل إبطاء المسيرة إلى الحرب مع العراق، محذراً بوش من أن الغزو يمكن أن يزعزع استقرار الشرق الأوسط ويقيد الولايات المتحدة بعبء كبير لإعادة الإعمار.
خيبة الأمل
ومع استمرار المعارك البيروقراطية لباول داخل الإدارة، وطلب بوش استقالته بعد إعادة انتخابه عام 2004، اعترف باول في برنامج لاري كينغ على شبكة "سي أن أن" أنه غادر منصبه مع خيبة الأمل لأنه كان بعيداً عن مستشاري بوش الآخرين.
لكن استمرار الحرب والاحتلال بقيادة الولايات المتحدة لما يقرب من عقد من الزمان ومقتل الآلاف من الأميركيين وأكثر من 100 ألف قتيل عراقي، وترك الولايات المتحدة غارقة في دولة مضطربة وجيران معادين، ساعد على تأجيج رد فعل عنيف ضد القادة الجمهوريين الأساسيين، الأمر الذي أسهم بعد ثماني سنوات في فوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وطوال هذه الفترة كان الجنرال باول يسير فوق خط رفيع بين الرأي الصريح والحذر الدبلوماسي، وظل حريصاً على عدم انتقاد بوش علناً أثناء إعلان دعمه خليفة بوش الديمقراطي باراك أوباما، كأول رئيس أسود للولايات المتحدة.
محاربة ترمب
وخلال فترة ترمب المضطربة في المنصب أصبح باول صريحاً في انتقاده الرئيس، الذي هدد وشجع على استخدام القوة ضد المطالبين بالعدالة العرقية خلال عام 2020، وسخر من أخلاقيات ترمب واتهمه بالكذب كما اتهم الجمهوريين الآخرين بالتكيف والرضوخ لحالة الانقسام التي يزرعها ترمب من منطلق مصلحتهم الذاتية السياسية.
وعندما وقع هجوم أنصار ترمب في مبنى الكابيتول الأميركي في 6 يناير 2021، بعد الادعاء بأن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات، أعلن باول أنه لم يعد يعتبر الحزب الجمهوري موطنه السياسي، مؤكداً أنه ليس معنياً بالأحزاب.
ليس رمزاً للسود
بعد تقاعده من الخدمة العامة، أمضى باول معظم وقته في إلقاء المحاضرات العامة، كما سعى إلى مساعدة الأطفال والأقليات المحتاجة كرئيس مؤسس لمنظمة "الوعد الأميركي" وهي منظمة غير ربحية، كما ظل يمارس هوايته في ترميم السيارات القديمة.
غير أن الأهم أن باول خلال معظم حياته المهنية، تجنب النشاط العنصري وكان يميل إلى التقليل من شأن أي تصوير له كرمز لإنجاز السود، فقد كان يعتقد أن الاعتبارات المتعلقة بالعرق لم تؤثر كثيراً في نجاحه المهني، بقدر قدرته على العمل داخل المؤسسات.