المتجول في كافة الشوارع والمدن في تونس يتساءل حول كمية المأكولات والأغذية الملقاة في حاويات القمامة وعلى قارعة الطريق العام، إذ تكاد تطغى على الفضلات الأخرى المعتادة، في مشهد يترجم مدى التناقض الكبير الذي ينغمس فيه التونسيون.
ففي الوقت الذي يشكو فيه جل التونسيين من اهتراء قدرتهم الشرائية وغلاء المعيشة، وأنهم أضحوا غير قادرين على مجاراة النسق "الجنوني" لحركة تطور الأسعار، لا سيما المواد الغذائية، يفاجئونك بمختلف شرائحهم الاجتماعية بممارسات غريبة، تتجسد في إلقاء بقايا الطعام والمأكولات في القمامة غير عابئين بهذا التبذير الغذائي وانعكاسه على موازنة الأسرة من جهة، وعلى تفاقم العجز التجاري من جهة أخرى، جراء توريد المواد الأساسية وفي مقدمها الحبوب.
ارتفاع الأسعار يقابله تنامي التبذير
بلغت نسبة التضخم عند الاستهلاك العائلي في تونس، خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، مستوى 6.2 في المئة، وفق معطيات كشف عنها المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) أخيراً.
وأظهر المعهد ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 7.2 في المئة خلال الشهر نفسه، بفعل ارتفاع أسعار الدواجن بنسبة 24 في المئة وزيت الزيتون بـ21.9 في المئة والخضر الطازجة بـ18 في المئة والبيض بنسبة 11.9 في المئة.
كما ارتفعت أسعار الأسماك الطازجة بنسبة 9.4 في المئة، في حين تراجعت أسعار لحم الضأن بـ4.3 في المئة، ولحوم الأبقار بـ2.2 في المئة.
ومع ذلك، يقول مراد بن حسين، مدير عام المعهد الوطني للاستهلاك (حكومي)، إن مادة الخبز تتصدر قائمة المواد الغذائية المبذرة في البلاد، حيث يتم إلقاء 113 ألف طن منها سنوياً، بمعدل 42 كيلوغراماً لكل أسرة.
وأضاف لـ"اندبندنت عربية" أن كل الأسر التونسية تخسر ما قيمته 321 دولار سنوياً من تبذير الخبز، مشدداً على أن التبذير الغذائي يتسبب في خسائر اقتصادية للأفراد والدولة، بخاصة في الأغذية المدعومة.
وقال إن هذه الخسائر كان بالإمكان تفاديها وادخارها في زمن الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد.
وتتكبد تونس سنوياً، وفق بن حسين، حوالى 35 مليون دولار جراء تبذير الخبز، مشيراً إلى استيراد البلاد كميات كبيرة من القمح لتحويلها إلى الدقيق المستعمل في تصنيعه.
وتقر 72 في المئة من الأسر التونسية، وفق دراسة أعدها معهد الاستهلاك عام 2018، بأهمية ظاهرة إهدار الغذاء.
عادات استهلاكية سيئة
وأظهر آخر تقرير يتعلق بإهدار الطعام في العالم نشره برنامج الأمم المتحدة البيئي، الخاص بعام 2021، أن التقديرات المتعلقة بتونس تشير إلى أن نصيب الفرد في البلاد هو 91 كيلوغراماً من الطعام المهدر سنوياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعترف خديجة بن إبراهيم، وهي موظفة ووالدة لثلاثة أبناء، بأنها تلقي يومياً فضلات الأكل في القمامة، معتبرة أن ذلك أمر غير طبيعي في الظرف الاقتصادي الصعب.
وقالت إن هناك عادات غذائية سيئة تكرست في المجتمع، مثل عدم استهلاك ما يتم طبخه في الليلة السابقة.
وتحرص بن إبراهيم على تدريب نفسها وأفراد عائلتها على الإقلاع عن هذه الممارسات، التي تنم عن تناقض كبير بين كثرة التذمر من غلاء المعيشة وبين اللامبالاة في تبذير المنتجات الغذائية.
أرقام مفزعة عن التبذير الغذائي
وتظهر المعطيات المستقاة من المعهد الوطني للاستهلاك أن الخبر يأتي في مقدمة المنتجات التي يتم تبذيرها بنسبة 15.7 في المئة. وقد بلغت نسبة إهدار الدقيق لإنتاج الخبز لدى المخابز عام 2017 حوالى 686 ألف طن، أي ما يعادل 10.4 في المئة من كميات الدقيق المدعوم.
وبعد الخبز، تأتي منتجات الحبوب (10.2 في المئة، والخضروات (6.5 في المئة) والغلال (4.2 في المئة).
في المقابل، تظهر الدراسات أن حوالى 600 ألف تونسي يعانون من سوء التغذية.
ضعف الجودة
"عند طرح إشكالية التبذير الغذائي، فإننا نقصد الخبز بشكل رئيس"، هكذا يتحدث لطفي الرياحي، رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك (منظمة غير حكومية)، لكنه يرى أن هذا الأمر حق يراد به باطل.
وأوضح أن تبذير الخبز راجع بشكل أساس إلى تدني جودته، "فالدولة تستورد دقيقاً جودته متدنية، ولا يمكن أن نصنع منه خبزاً ذا جودة عالية". كما أن البنية التحتية للتوزيع ضعيفة، إذ ليس هناك احترام للمواصفات في نقل وحفظ الخضروات والغلال، ما من شأنه أن يؤثر على جودة المنتج ويجبر المستهلك على رميه بعد ساعات من شرائه.
دور مهم لربة الأسرة
ويؤكد بن حسين الدور المحوري لربة الأسرة في التقليل من الأغذية المهدورة، لا سيما أن دراسات المعهد تظهر أنه غالباً ما تكون الزوجة المشرفة على الحاجيات الغذائية في المنزل بنسبة 80 في المئة.
وتحدث عن تنظيم عدد من الدورات التدريبية لفائدة ربات الأسر في سبيل تقليص إهدار الغذاء.
الطعام المهدر في العالم
ويقدر تقرير برنامج الأمم المتحدة البيئي الخاص بعام 2021 أن حجم إهدار الطعام في العالم وصل إلى حوالى 931 مليون طن عام 2019، 61 في المئة منها جاءت من الأسر، و26 في المئة من خدمات الإطعام و13 في المئة من البيع بالتجزئة. ويعني ذلك، وفق التقرير، أن نحو 17 في المئة من الطعام الذي يتم إنتاجه في العالم يهدر.
وتشير البيانات إلى أن نصيب الأسر من إهدار الطعام متشابه عبر مجموعات البلدان باختلاف دخلها، وهو ما يتعارض مع رؤى سابقة ذهبت إلى أن البلدان المتقدمة تهدر الطعام عند استهلاكه، وأن البلدان النامية تخسر الطعام في سلاسل الإنتاج والتوزيع.