ما يعتبره السعوديون اليوم "تراثاً صناعياً"، كان قبل قرابة النصف قرن ثورة صناعية ووسيلة اقتصادية لنقل الطاقة إلى أوروبا.
"TAPLINE" المختصرة من (trans Arabian Pipeline)، يعربها أبناء المناطق التي امتد اللسان المعدني الضخم عبر مضاربهم ليحيلها مدناً بـ "التابلاين"، من دون الاكتراث بالمعنى، فما يعنيهم هنا هو أن هذا الجسم الذي لم يروه من قبل أتى بعمال بحاجة إلى مدارس ومستشفيات ومرافق عامة، ليبني لهم نواة مناطق حضرية باتت مدناً كاملة الخدمات بعد ذلك.
فكرة الخط
بدأت فكرة إنشاء الخط في أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً مع نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ بات من الواضح أن إعادة إعمار أوروبا تستلزم إمداداً ثابتاً من النفط الخام وبكلفة اقتصادية معقولة. فقد كانت الرحلة البحرية تستغرق تسعة أيام لتقطع 3600 ميل من شرق السعودية مروراً بقناة السويس لتصل إلى البحر الأبيض المتوسط، تلك الرحلة الطويلة والمكلفة ذلك الوقت كانت غير قادرة على استيعاب الارتفاع الهائل في الطلب على النفط الخام تحديداً، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء خط أنابيب جديد يربط بين حقول النفط الموجودة في الخليج العربي (شرق السعودية) والبحر الأبيض المتوسط.
وفي أولى خطوات التنفيذ أسست شركة أرامكو في عام 1944 شركة فرعية تدعى "خط الأنابيب عبر شبه الجزيرة العربية"، وهو مشروع مشترك بينها وبين شركات نفط دولية أخرى، تلتها مرحلة تخطيط امتدت لـ 18 شهراً أسفرت عن مخطط طموح للغاية، فالمسافة الشاسعة التي ينطوي عليها المشروع، إلى جانب نقص المرافق، ودرجات الحرارة الشديدة والتضاريس الصعبة، جعلت بناء خط معدني يشق الصحراء أحد أكبر القرارات الاستراتيجية التي كان على الشركة اتخاذها آنذاك.
وبعد ثلاث سنوات من التخطيط تقرر أن يمر ما اصطلح على تسميته في ما بعد "التابلاين" عبر الأردن ولبنان وشمال السعودية، وفي عام 1947 انتقل المخطط من مجرد كونه رسماً هندسياً إلى أرض الواقع، وبدأت أعمال بناء أطول خط أنابيب للنفط، استخدم في بنائه 305 آلاف طن من الأنابيب الفولاذية، إضافة إلى ست محطات ضخ على طول الطريق والذي يبلغ 1648 كيلومتراً منها 1200 داخل السعودية.
محطات الضخ
كانت محطات الضخ الموجودة في كل من النعيرية والقيصومة ورفحاء وبدنه وطريف في السعودية، مُصممة لدفع النفط إلى أعلى نقطة في خط الأنابيب والتي كانت على ارتفاع 907 أمتار فوق مستوى سطح البحر، ليتدفق النفط منها نزولاً ويعبر شمال الأردن وجنوب سوريا وأخيراً إلى ميناء صيدا اللبناني على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وبعد ثلاثة أعوام من بدء البناء الذي عمل فيه أكثر من 16 ألف عامل، لُحمت آخر وصلة من خط "تابلاين" بتاريخ 25 سبتمبر (أيلول) لعام 1950.
وفي العام ذاته حقق المشروع النجاح المتوقع منه بعد أن استطاعت "أرامكو" إنتاج 200 مليون برميل من النفط يمر عبره. وفي عام 1951، الذي يوافق أول عام لتشغيل خط الأنابيب بالكامل، ارتفع إنتاج الشركة السعودية إلى 278 مليون برميل، فقد تجاوز ما يضخ عبر الخط البري ثلث الإنتاج السعودي السنوي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
برهن المشروع خلال 40 عاماً من تشغيله على أنه شريان قوي لضخ الطاقة إلى الأسواق الغربية، مما أدى إلى تسريع تطوير العمل فيه خلال الخمسينيات من القرن الـ 20، فضلاً عن تلبيته الاحتياج العالمي العالي الذي تلا الحرب العالمية الثانية، ليصبح مصدراً موثوقاً من النفط الخام بكلفة اقتصادية معقولة.
ناقلات النفط تغير قواعد اللعبة
وظل خط "التابلاين" أحد المكونات الأساسية لشبكة نقل النفط في السعودية لأكثر من 40 عاماً، حتى جاء جيل جديد من ناقلات النفط العملاقة التي فاقتها من حيث الحجم والجدوى الاقتصادية، فتراجعت الامتيازات الاقتصادية للسان المعدني.
بعد هذا التحول توقفت عمليات الضخ، ولكن خط الأنابيب استمر في نقل كميات قليلة من النفط حتى عام 1990 حين تم إيقاف العمل به نهائياً، بخاصة بعد شيوع استخدام الناقلات الجديدة التي تبلغ حمولتها 500 ألف طن في مثل هذه العمليات، ليجري تفكيكه وإفراغه بشكل متدرج حتى عام 2001.
وعلى الرغم من إيقاف العمل به وتفكيك محطاته المنتشرة على طول مساحة امتداده، إلا أن خط "التابلاين" في سنوات عمله غيّر المنطقة الشمالية في السعودية، ولا تزال المدن والبلدات التي نشأت على جانبيه عامرة حتى اليوم، ومنها "طريف" التي تدين له بولادتها، فلم يكن لها وجود في عام 1945، وهي اليوم تعد مدينة مكتملة.
كما حقق خط الأنابيب طفرة استثمارية للشركات الصغيرة وأصحاب المشاريع الفردية، فبين عامي 1947 و1952، دفعت الشركات المشغلة له أكثر من 46.8 مليون دولار لأكثر من 10 آلاف مقاول يعملون على طول خط الأنابيب.
تراث صناعي
عملت السعودية خلال السنوات الماضية على تسجيل العديد من مواقعها الأثرية والثقافية في قوائم التسجيل الدولية الخاصة بها، حتى قدمت مفهوماً جديداً بالنسبة إلى السعوديين في مجال الآثار وهو "التراث الصناعي".
تصدر خط "التابلاين" القائمة كأول تراث يسجل تحت هذا المفهوم، بعد أن تم تسجيله في الـ 15 من ديسمبر (كانون الأول) 2020، بعد مرور ما يزيد على 70 عاماً على إنشائه، فيما تجرى حالياً عدد من الدراسات وأعمال مسح لإدراجه ضمن قائمة التراث العالمي "يونسكو".