Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا غاب أثرياء أميركا عن تسريبات "وثائق باندورا"؟

تكشف لأول مرة عن أن الولايات المتحدة أصبحت ملاذاً سرياً رائداً في العالم

قبل سنوات قليلة شهد العالم تسريب "وثائق بنما" الذي ركز على استخدام الروس نظام الـ"أوفشور" (رويترز)

​​​​على الرغم من تسريب آلاف الوثائق المالية لبعض الأثرياء وذوي النفوذ والسلطة حول العالم ضمن ما سُمّي "وثائق باندورا"، فإن قائمة الأسماء خلت من أي أميركي، سواء أكانوا من المليارديرات أو المليونيرات، فما السبب وراء ذلك؟ 

29 ألف حساب

في غضون ساعات من نشر بعض تفاصيل ما احتوته "وثائق باندورا" التي حصل عليها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، بعد تحقيق شارك فيه أكثر من 600 صحافي في 117 دولة وإقليماً، وعدت ثماني حكومات على الأقل بإطلاق تحقيقاتها الخاصة في الأنشطة المالية التي تم الكشف عنها. وواجه السياسيون الذين وردت أسماؤهم في التحقيق انتقادات بسبب الانفاق الباذخ والممارسات الغامضة، فيما دافع البعض عن أفعالهم.
غير أن الوثائق المسرّبة التي تكشف تفاصيل 29000 حساب لدى مصارف وشركات الـ"أوفشور" الخارجية، من بينهم أكثر من 130 شخصاً مُدرجين على قائمة مجلة "فوربس" للمليارديرات، لم تشمل أي اسم من مشاهير وأثرياء الولايات المتحدة، ولم تتورط أي شركات أو شخصيات سياسية أميركية كبرى، وحتى من ورد اسمه بشكل عابر مثل الرئيس السابق دونالد ترمب، أو المليونير روبرت سميث، فإن الوثائق لم تكشف عن معلومات جديدة عنهما أو مفاجآت تتعلق بتعاملاتهما أو حساباتهما، فهل يتجنب الأميركيون تخزين أموالهم في نظام الـ"أوفشور"؟

نظام الـ"أوفشور"

تعني كلمة "أوفشور" حرفياً "بعيداً عن الساحل"، أو خارج الأراضي والحدود بالنسبة لبلدِ مُودعِ الأموال، ولهذا وُجِدت مصارف ومؤسسات الـ"أوفشور" في جزر بعيدة أو مناطق ساحلية في دول صغيرة تستقبل رؤوس الأموال الأجنبية وتمنحها إعفاءات ضريبية وتوفر السرية والخصوصية التي وُجِدت مع قانون المصارف السويسرية في عام 1934، وأصبحت بالتالي توفر لهم الحماية من عدم الاستقرار السياسي أو المالي، فضلاً عن كونها لا تخضع للرقابة الدولية، الأمر الذي جعلها ملاذات ضريبية ممتازة بالنسبة لهم، اجتذبت ليس فقط الأموال الشرعية، بل وكثير من الأموال المرتبطة بالسوق السوداء والجريمة المنظمة لإخفاء الأصول والممتلكات عن السلطات والدائنين والمطالِبين الآخرين، وكذلك عن التدقيق العام.

وبينما يكشف تحقيق "وثائق باندورا" عن طبيعة نظام الـ"أوفشور" والاستراتيجيات التي يستخدمها فاحشو الثراء وقادة الحكومات والمليارديرات في القارات الخمس لإخفاء أموالهم وممتلكاتهم عن سلطات الضرائب وعن أعين الناس، يظل التساؤل الأكبر هو هل كانت هذه التسريبات مقصودة وتستهدف أطرافاً بعينها؟

ضد الخصوم والحلفاء

قبل سنوات قليلة، شهد العالم تسريب "وثائق بنما"، الذي ركّز بشكل خاص على استخدام الروس نظام الـ"أوفشور"، حيث ذكرت إحدى الروايات أن عازف التشيلو الروسي، الذي كان صديقاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ الطفولة، كانت لديه حسابات سرية في هذه المصارف والمؤسسات تصل قيمتها إلى ملياري دولار، ما دفع بوتين إلى التلميح بأن وكالات الاستخبارات الأميركية متورطة في هذا التسريب في إطار محاولة لتشويه سمعة النظام المالي الروسي ومعاقبته هو شخصياً من خلال استهداف دائرة المقربين منه، وهو ما نفاه مسؤولون أميركيون.
غير أن هذه المرة، وعلى الرغم من أن الروس يمثلون نسبة كبيرة من أولئك الذين تم الكشف عنهم في "وثائق باندورا"، فإن السجلات المسرَّبة أوسع نطاقاً، وكشفت عن الثروات المخفية لخصوم الولايات المتحدة وحلفائها على حد سواء، إذ يتنوع الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في المجموعة بين رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، ونجمة البوب ​​الكولومبية شاكيرا، وأعضاء من النخبة الصينية ومسؤولين حاليين وسابقين في دول حليفة في أوروبا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.  

أين أثرياء أميركا؟

لكن، ما يثير علامات استفهام هو أن قائمة من وردت أسماؤهم في "وثائق باندورا" لا تشمل أغنى أثرياء الولايات المتحدة بمن فيهم مؤسس شركة "أمازون" العملاقة جيف بيزوس، وهو صاحب صحيفة "واشنطن بوست"، والملياردير إيلون ماسك، مؤسس شركة "تيسلا"، والملياردير بيل غيتس، مؤسس شركة "مايكروسوفت"، والمستثمر الملياردير الشهير وارين بافيت.
ويقول متخصصون ماليون لـ"واشنطن بوست"، التي شاركت في التحقيق ضمن الصحافيين الاستقصائيين، إن "الأثرياء في الولايات المتحدة يميلون إلى دفع ضرائب منخفضة بحيث يكون لديهم حافز أقل للبحث عن ملاذات ضريبية خارجية، بالتالي لم تكن لديهم ببساطة حاجة إلى تخزين الأموال في الخارج، لكن غيابهم عن الظهور في هذه الوثائق قد يعني أيضاً أن الأميركيين الأثرياء يحولون أموالهم إلى ملاذات خارجية أخرى مثل جزر كايمان وشركات (أوفشور) مختلفة عن تلك التي ظهرت في (وثائق باندورا)".

ووجدت "واشنطن بوست" بعد مراجعة الوثائق، أن "بعض الأميركيين ما زالوا يستخدمون الأساليب ذاتها  لإخفاء الأصول والأموال عند التحقيق معهم أو مواجهة دعاوى قضائية، حيث تُظهر السجلات أيضاً كيف أصبحت شركة في أميركا الوسطى مركزاً واحداً للعملاء الأميركيين، ما يسمح لهم بإخفاء أصولهم أثناء مواجهة التحقيقات الجنائية أو الدعاوى القضائية، وهكذا أفلتت الشركات الأميركية والأثرياء إلى حد كبير من عين التحقيق الحرجة".

ترمب وسميث

وعلى الرغم من أن هناك ملفات تتعلق بتورط الرئيس السابق دونالد ترمب في مشروع فندق في بنما، فإن "وثائق باندورا" لم تكشف عن معلومات جديدة مهمة حول موارده المالية، لكن روبرت سميث، الذي يوصَف بأنه أغنى أميركي من أصل أفريقي في الولايات المتحدة، ربما يكون أغنى أميركي فصّلت "وثائق باندورا" ممتلكاته الخارجية، لكن ذلك لم يشكل مفاجأة كبرى، نظراً إلى أنه وافق العام الماضي على دفع غرامة قدرها 139 مليون دولار، واعترف بإخفاء أموال في الخارج، وبتقديم سجلات ضريبية مزيفة، كل هذا ضمن اتفاق أبرمه مع وزارة العدل الأميركية يقضي بعدم ملاحقته قضائياً مقابل التعاون في قضية منفصلة ضد ملياردير ولاية تكساس روبرت بروكمان، الذي دعم سميث مالياً، ووجهت إليه السلطات تهمة إخفاء ملياري دولار من الدخل.
ومع ذلك، فإن "وثائق باندورا" تساعد في توضيح كيف يمكن حتى للمؤسسات الأميركية التي تحظى بقدر كبير من الاحترام، أن تتورط في معاملات مالية مزعومة قد تلوث سُمعتها، حيث تتعقب الوثائق كيف استخدم دوغلاس لاتشفورد، وهو تاجر آثار وتحف فنية اتهمته وزارة العدل الأميركية بالاتجار في الآثار الكمبودية المنهوبة، شركة "أوفشور" خارجية في معاملات تتعلق بهذه الآثار المهربة. وعلى الرغم من أن هذا التاجر توفي العام الماضي، فإن الآثار التي نقلها هو أو شركاؤه لا تزال معروضة في متحف متروبوليتان للفنون في مدينة نيويورك وفي متاحف أخرى أيضاً.

تواطؤ أميركي

لكن أكثر الاكتشافات إثارةً للقلق بالنسبة للولايات المتحدة، تتمحور حول تواطؤها المتزايد في اقتصاد شركات ومصارف الـ"أوفشور" الخارجية، إذ تبنت ولايتان أميركيتان هما ساوث داكوتا ونيفادا قوانين تتعلق بالسرية المالية، بحيث نَافَست نظام مصارف ومؤسسات الـ"أوفشور" الخارجية في استقبال ونقل الأموال دون إشعار، حيث تُظهر سجلات "باندورا" أن قادة الحكومات الأجنبية وأقاربهم والشركات التابعة لهم نقلوا ثرواتهم الخاصة إلى صناديق ائتمانية موجودة في الولايات المتحدة.

وعلى سبيل المثال، نقل أفراد عائلة نائب رئيس جمهورية الدومينيكان السابق، الذي قاد إحدى أكبر شركات إنتاج السكر في البلاد، ثرواتهم وأسهم شركاتهم إلى ولاية ساوث داكوتا الأميركية. على الرغم من أن شركة الرئيس اتُهمت بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وحقوق العمال، بما في ذلك هدم منازل العائلات الفقيرة بشكل غير قانوني لتوسيع مزارع إنتاج السكر.

ملاذات مشبوهة في أميركا

ويشير ويل فيتزغيبون، وهو أحد المراسلين في الإذاعة الوطنية الأميركية العامة، الذين عملوا في هذا التحقيق، إلى أن "أحد الاكتشافات المذهلة لتحقيقات (وثائق باندورا) أنه ولأول مرة يتكشف أن الولايات المتحدة، وبخاصة ولاية ساوث داكوتا، أصبحت أحد الملاذات السرية الرائدة في العالم، وهذا يعني مكاناً ينشئ فيه الأثرياء وذوي النفوذ السياسي والمالي من جميع أنحاء العالم، صناديق مالية سرية أو مشبوهة، وينقلون الأموال إلى تلك الصناديق بعد أن اجتذبتهم إعلانات الملاذ الضريبي السري داخل حدود الولايات المتحدة مثل مليارديرات البرازيل، وأصحاب الملايين من غواتيمالا وكولومبيا وجمهورية الدومينيكان ودول أخرى حول العالم، وهذا شيء لم يتم الكشف عنه من قبل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووجد تحقيق أجرته "واشنطن بوست" في شأن الشركات الأميركية التي تظهر في الوثائق، أن شركات الـ"أوفشور" التي تتخذ من ولاية ساوث داكوتا مقراً لها تُستخدم بشكل متزايد لإخفاء الأموال بذات الطريقة التي تستخدمها الملاذات المعروفة مثل جزر كايمان. وحدد التحقيق العشرات من شركات الـ"أوفشور"، ومقرها في الولايات المتحدة، ترتبط بأكثر من 40 دولة، ولديها أصول مرتبطة بأشخاص أو شركات متهمة بالاحتيال أو الرشوة أو انتهاكات حقوق الإنسان.

الافتقار إلى الشفافية

وعلى الرغم من أن امتلاك واستخدام شركة "أوفشور" أو الوجود في ملاذ ضريبي هو أمر قانوني في حد ذاته، فإن ما تتحدث عنه الوثائق بشكل أوسع هو الافتقار إلى الشفافية، ففي وقت يزعم فيه السياسيون بشكل روتيني أنهم يعملون على إعادة الالتزام بالشفافية والمساءلة، نجد أن دولاً غربية مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة وسويسرا وهولندا، تساعد هذا النظام على الازدهار.

وتُظهر "وثائق باندورا" كيف أن المحامين في نيويورك وجنيف ولندن وفي كل خطوة على الطريق ينصحون الناس باستخدام نظام الـ"أوفشور"، فعندما يكون هناك مليونير فاسد من بلد ما في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو الشرق الأوسط، فإنه لا ينقل 10 ملايين دولار مثلاً إلى حساب مصرفي في سويسرا بمفرده، ولكنه يجد دائماً مَن يستعين بهم من المحامين والمساعدين، وعندما تتوفر هذه الخدمات على الأراضي الأميركية، فإن العواقب ستكون عميقة على كيفية تعاطي العالم مع قضايا تحسين المساءلة والعدالة.

نظامان ضريبيان

واستغلت منظمة "أوكسفام أميركا لمكافحة الفقر" التحقيق في "وثائق باندورا" للمطالبة بإصلاحات ضريبية جديدة كجزء من أجندة الرئيس جو بايدن الاقتصادية، حيث أوضح بيان للمنظمة أن "وثائق باندورا تذكير دامغ بأن الولايات المتحدة لديها نظامان ضريبيان منفصلان، أحدهما للأثرياء وذوي العلاقات الجيدة، والثاني لكل شخص آخر". ويضيف البيان أنه "بينما يلعب البعض بأموالهم الزائدة وينخرطون في سباقات فضائية ويتنافسون على شراء جزر خاصة، فإن نظام الضرائب يخذل الأشخاص الأكثر احتياجاً، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما أيضاً في كل أنحاء العالم".

المزيد من تقارير