Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تونس تواصل حملتها على المضاربين وسط تشديد الحصار على المخازن الكبرى

محتكرون ومجموعات ضغط اقتصادية تجفف السوق من بعض السلع تحدياً للإجراءات

يمثل تنظيم مسالك توزيع السلع والسيطرة عليها من قبل وزارة التجارة أساس التحكم في الأسعار من قبل الدولة في تونس (أ ف ب)

تتواصل حملة الرقابة المشددة على المخازن الكبرى الخاصة بالسلع الاستهلاكية في تونس، التي أطلقها الرئيس قيس سعيد بعد قيامه بزيارات متتالية إليها، نبه خلالها إلى خطورة المضاربة داعياً إلى مقاومتها.
وتم فعلاً حجز آلاف الأطنان من السلع الغذائية ومواد البناء المخزنة خصيصاً بهدف رفع أسعارها خلال الأسابيع الأخيرة من شهر أغسطس (آب) الماضي. وتناول القضاء التونسي ملفات في هذا الصدد، في انتظار البت فيها.

ونبّه متخصصون إلى أن "هذه الظاهرة غير جديدة، بل تنخر القدرة الشرائية للتونسيين منذ سنوات"، ولاحظوا أن تلك الظاهرة عكست غياب أجهزة الدولة الرقابية وتحالف المضاربين الكبار مع أطراف في السلطة، ودعوا إلى رقمنة الإدارة المكلفة بتنظيم مسالك توزيع السلع واضطلاع القضاء بالملفات الضخمة المطروحة لمعاقبة المحتكرين، إضافة إلى ضرورة وضع قانون هيكلة الأسعار منذ مرحلة الإنتاج الأولى. كما لاحظت محكمة المحاسبات وهي متخصصة بمراقبة حسن التصرف في المال العام، أنه تم وضع برامج سابقة خصصت لتنظيم مسالك توزيع السلع الفلاحية وإضفاء الشفافية عليها لكن تم تجاهلها وتعطيل تطبيقها.

عرقلة الإصلاح

ويمثل تنظيم مسالك توزيع السلع والسيطرة عليها من قبل وزارة التجارة أساس التحكم في الأسعار من قبل الدولة التونسية، لقطع الطريق على المحتكرين، وهو الأمر الذي لم يحدث. وكشفت محكمة المحاسبات عن برنامج مكتمل وضع من قبل وزارة التجارة لتنظيم مسالك توزيع المنتوجات الفلاحية، لكنه لم ينفذ بسبب عدم التوقيع على قرارات تشمله من قبل رئاسة الحكومة.
وتعتبر مسالك توزيع المنتوجات بمثابة آلية لتزويد كل المناطق التونسية بهذه المنتوجات مع مراعاة مصالح الأطراف المتدخلة، ومنها الحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلك. وتشمل أسواق الجملة وأسواق التوزيع بالتفصيل بما في ذلك نقاط البيع ومخازن التبريد.
وذكرت محكمة المحاسبات أن خطة تطوير المسالك انطلقت باستحداث وحدة مختصة في صلب وزارة التجارة، فأبرمت الدولة اتفاقيتي قرض وهبة مع الوكالة الفرنسية للتنمية، وذلك لتمويل القسط الأول من كلفة برنامج الخطة بمبلغ 52 مليون دينار (18.5 مليون دولار)، خصص 48.5 مليون دينار منه (17.1 مليون دولار) للبنية الأساسية و3.5 مليون دينار (1.25 مليون دولار) للدعم المؤسساتي.

كما تولت الوحدة المختصة خلال الفترة الممتدة بين عامي 2016 و2018 وضع تصور لإنجاز 15 مشروعاً تختص بأسواق الإنتاج وأسواق الجملة، لكن لم يتم عرضه على المجلس الوزاري للمصادقة عليه.
وتشمل أهداف البرنامج على تطوير البنية الأساسية لمسالك التوزيع وطرق التصرف بها، والحد من ظاهرة العرض العشوائي والتجارة غير المنظمة وإرساء شفافية المعاملات ومسلكية استرسال المنتوجات الفلاحية، وضمان مصلحة المستهلك.
وخلصت محكمة المحاسبات إلى أن البرنامج لم يحقق أهدافه، ولم يتم تنفيذ تأهيل البنية الأساسية والدعم المؤسساتي عبر 50 مشروعاً، من بينها تأهيل الأسواق والمسالخ والمنظومة المعلوماتية للتصرف في الأسواق وحسن تسييرها، علماً أن الاعتمادات المستهلكة لم تتعد الـ20 مليون دينار (7.1 مليون دولار) من مجموع الاعتمادات المرصودة للبرنامج.

المنظومة المعلوماتية

ويفتقر المرصد الوطني للتزويد والأسعار في تونس إلى منظومة معلوماتية للتصرف في الأسواق تحدد كافة المتدخلين، وتمكن من مراقبة دخول وخروج السلع وتوحيد نظام الفوترة وإدراج كل البيانات الخاصة بالمنتج واسترساله، على غرار الكميات الواردة ومصدرها والبيوعات والكميات المخزنة والمتلفة والأسعار، لذلك يعجز عن متابعة سير مسالك التوزيع، إذ اقتصر دوره على متابعة الكميات المسوقة والأسعار في 24 سوق جملة فقط من إجمالي 82 سوق جملة، أي بنسبة تغطية في حدود 30 في المئة، مما لا يسمح بتحديد المؤشرات ذات العلاقة بالمنافسة أو الممارسات الاحتكارية.
ولم تشمل المعطيات المتعلقة بالفترة بين عامي 2010 و2017 الموجهة من الإدارات الجهوية للتجارة إلى المرصد، سوى بين 11 و60 في المئة من عدد أيام العمل الفعلية للأسواق، ولم تتعد النسبة في سوق الجملة بالعاصمة 88 في المئة، وفق محكمة المحاسبات التي دعت إلى التسريع في إنشاء هذه المنظومة المعلوماتية لما تكتسيه من أهمية لمتابعة مسالك التوزيع وضمان شفافية المعاملات.

غياب الرقابة

ووصف رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي الفترة التي تمر بها تونس حالياً بالانتقالية، "عبر المرور من دولة الأحزاب إلى دولة المؤسسات، حيث ثبت غياب الدولة في السنوات الـ 10 الماضية وعدم قيامها بدورها الرقابي، وأظهر الكشف عن المخازن المملوءة بالسلع قصد رفع أسعارها، عدم قيام المصالح المتخصصة الموكلة مهمة الرقابة بوظيفتها في السابق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما أشار الرياحي إلى "ردود فعل المضاربين والمحتكرين بعد إعلان رئيس الجمهورية الحرب على هذه الممارسات، إذ عمدوا إلى تجفيف السوق من مواد عدة أهمها المياه المعدنية والحديد في الأيام الأخيرة، وهم يعمدون حالياً إلى ممارسة ضغوطات بهدف رفع أسعار هذه المواد وقطع المسار الرقابي الذي تنتهجه الإدارة وترهيبها".
وأتى ذلك بعد مداهمات قام بها عناصر إدارة المنافسة المكلفين بالرقابة على المخازن المنتشرة على كامل التراب التونسي، فتم حجز آلاف الأطنان من المواد الغذائية الفلاحية والمصنعة علاوة على مواد البناء، بخاصة الحديد والأسمنت، وكان منتجو الحديد حصلوا على وعود من قبل الحكومة السابقة برفع الأسعار 13 في المئة.
وقال الرياحي إن "المضاربين في تونس هم نتيجة تحالف المال مع السلطة وتحديداً الأحزاب الحاكمة خلال السنوات الأخيرة، وقد تحولوا إلى أصحاب سلطة على السوق بقيامهم بتحديد الأسعار من طريق التحكم بحجم السلع المعروضة والمخزنة وسط غياب للدولة وأجهزتها، أما رأسمال هؤلاء فهو الأموال الطائلة التي يملكونها والرخص الممنوحة لهم من قبل وزارة التجارة والتي تنقسم إلى نوعين، رخص خاصة بالسلع المحررة الأسعار وأخرى خاصة بالمواد المدعمة، ويرتع هؤلاء في السوق متحكمين في مسالك التوزيع لشتى أنواع السلع".

تسخير القضاء

من جهته، رأى الاقتصادي نادر حداد أن "الاحتكار والمضاربة نتجا من ضعف منهجي في رقابة الدولة من جهة، والفساد الإداري المتمثل في دفع الرشاوى والقرب من السلطة من جهة ثانية". ووصف أغلب المضاربين بـ "النافذين لدى أصحاب القرار، في حين يمثل التخزين آلية عادية لدى المنتجين، ومن حق كل منتج حفظ نسبة معينة من الإنتاج، ووجب التنبيه من تشويه سمعة المنتجين في إطار مقاومة المضاربة".

واستبعد حداد "تعرض الرئيس سعيد إلى مقاومة شرسة من قبل المضاربين لأنه يتمتع بكافة الأسلحة التي تمكنه من تطبيق القانون على المتجاوزين، وهي النصوص التشريعية التي تعرضهم للعقاب، حيث يتوقع إخضاع هؤلاء للقضاء للبت في ملفاتهم، ويتحتم تسخير الإمكانات التي تتيح للقضاء البت في هذه القضايا بعد عمليات الدهم وحجز السلع. وينفرد القضاء بالحكم في طبيعة التخزين إن كان قانونياً أو احتكاراً، وفرض عقوبات مالية ضخمة على المضاربين ومساعديهم الذين وفروا لهم الغطاء في هذه الجريمة التي تنخر الاقتصاد التونسي".
واعتبر أن "حملة الرئيس التونسي ستؤدي حتماً إلى الخوف والتراجع عن هذه الممارسات، وهي تكتسي قيمة اعتبارية لكنها غير كافية إذ تحتاج الى تطعيمها بقوانين جديدة تنص على عقوبات ضخمة ضد المحتكرين حتى لا تعود الظاهرة إلى الاستشراء، ثم الرقمنة الشاملة للإدارة".
ويلعب الاستقرار السياسي دوراً في نجاح الحرب على الفساد التي يفترض أن تكون معركة طويلة الأمد، لأن المضاربة في تونس منتشرة على أوسع نطاق في صفوف رؤوس الأموال الكبرى وكذلك التجار الصغار، ويعود ذلك إلى عدم صرامة الرقابة وغيابها، كما لعب الواقع السياسي المتردي في السنوات الماضية دوراً كبيرا في استفحال هذه الجرائم، كما أن الخصومات السياسية التي كانت تعصف بالبلاد حالت من دون مقاومة هذه الآفات الاقتصادية، وكان يفترض قيام السلطة التشريعية بسن القوانين لمحاربة الجرائم الاقتصادية، ثم عمل السلطة التنفيذية على تطبيقها، لكنهما كانتا تغرقان في خصومة مستمرة معطلة لسير عجلة الدولة.