في الحوار المفتوح الذي نظمته "جمعية المعرفة لعموم الدولة الروسية"، وجرى بثه على الهواء مباشرةً مع عدد من تلاميذ المدراس على هامش "منتدى فلاديفوستوك الاقتصادي"، كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عدم انزعاجه من تدخل أحد التلاميذ لتصحيح معلوماته التاريخية حول الحرب بين السويد والإمبراطورية الروسية. وكانت الأوساط السياسية والثقافية والتعليمية تابعت على الهواء مباشرةً لقاء بوتين مع أعضاء نادي "محيط المعارف" من تلاميذ المدارس المتوسطة الذي حرص فيه رئيس الدولة على استعراض مآثر الأسلاف من حكام الإمبراطورية الروسية، ومنها انتصارات بطرس الأعظم في حروب الإمبراطورية الروسية ضد السويد، أقوى قوة بحرية في ذلك الحين، "دفاعاً عن الوطن". ولدى حديث بوتين عما سماه "حرب السبع سنوات" التي خاضها بطرس الأعظم ضد السويد في إطار المنافسة للوصول إلى بحر البلطيق، تدخل أحد التلاميذ، ويدعى نيكانور تولستيخ، ليصحح معلومة الرئيس بقوله، إن "الحرب لم تكن حرب السبع سنوات، بل كانت الحرب الشمالية التي استمرت لمدة 21 عاماً". ولم يكتفِ تولستيخ بمجرد تصحيح التسمية التاريخية لتلك الحرب، بل وراح يشرح أبعاد تلك الحرب وظروفها، إلى جانب ما طرحه من اقتراحات لتيسير حصول تلاميذ المدارس من أقرانه على أكبر قدر من المعلومات التاريخية.
الرئيس يعترف
وعلى الرغم من اعتراف الرئيس بصحة المعلومات التي أفصح عنها تولستيخ، وتقديم واجب الشكر له، احتدم الجدل بين المسؤولين عن المنظومة التعليمية، حول تقدير سلوك التلميذ، الذي وصفته يوليا ريابتسيفا مديرة مدرسة "فوركوتا" التي ينتمي إليها، بـ"الوقاحة"، ما كان ينذر باحتمالات معاقبته، ربما خشية ضياع منصبها، واحتمالات توجيه اللوم إليها.
وسارع الناطق الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف إلى إعلان أن "الصبي في مأمن من العقاب"، محذراً من تبعات أي تصرف يصدر في هذا الاتجاه. وتأكيداً لهذا التوجه وفي حديثه إلى المشاركين في المنتدى الاقتصادي الذي جرت أعمال دورته السادسة في فلاديفوستوك على ضفاف المحيط الهادي، عاد الرئيس بوتين إلى هذه الواقعة، مؤكداً أنه لم يشعر بالحرج تجاه ما أعرب عنه تلميذ مدرسة "فوركوتا من "تصحيح". وأضاف، "لماذا يجب أن يؤلمني ذلك؟ على العكس، إن ما جرى يدفع إلى الارتياح. فذلك يعني أن شبابنا يعرفون تاريخ الوطن جيداً. هذا أمر عظيم".
ومضى الرئيس الروسي ليؤكد أن "معرفة القراءة والكتابة لدى جيل الشباب، والقدرة على التعبير بحرية عن مواقفهم تظهر أن مستقبل روسيا في أيدٍ أمينة". وأضاف أن "ذلك أمر رائع"، وأنه لا يسعه إلا أن يعرب عن سعادته بجمع أمثال هذا الصبي في منتدى "المحيط"، ممن يتمتعون بالكفاءة والمعرفة المتميزة، "فضلاً عن أنهم يستطيعون التعبير عن مواقفهم بحرية. وذلك ما يجب أن يكون أساساً لضمان أن مستقبل روسيا في أيدٍ أمينة".
وتأكيداً لما سبق وقاله في أكثر من مناسبة حول أهمية تذكر تاريخ انتصارات بلاده، التي لطالما اعتبرها سنداً لشرعية وجود روسيا كدولة عظمى يجب أن تشغل المكانة والموقع الذي يتسق مع قدراتها وتاريخها على خريطة السياسة العالمية، قال بوتين إن "التاريخ ليس فقط موضوعاً مهماً ومثيراً للاهتمام، ولكنه أيضاً أساس كل المعرفة الإنسانية"، غير أن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، فقد اشتعل النقاش واحتدم الاختلاف بالرأي تجاه تقدير سلوك الصبي الذي قال زملاؤه إنه "عاشق للتاريخ"، وقد يكون أحد دارسيه المتخصصين، وربما أحد علمائه في المستقبل القريب، إذ يمتلك مقومات وقدرات قيادية. أما عن ردود فعل مدرسيه ومعلميه فقد تباينت بقدر تباين مواقعهم، وما يتمتعون به من قدرات شخصية ومهنية.
تبريرات المديرة
ونقلت صحيفة "غازيتا. رو" الإلكترونية عن مدرسي الصبي الجسور وزملائه تقديراتهم لما جرى، والتي وصفتها الصحيفة بأنها كانت "أقل وضوحاً من رد فعل الرئيس". ففيما أعربت مديرة المدرسة يوليا ريابتسيفا، عن رأي مفاده أن "سنوات المراهقة وراء تفسير سلوك الإقدام على تصحيح رئيس الدولة"، فضلاً عما وصفته بـ"الوقاحة" التي يتسم بها سلوك الشباب. وعزت ذلك أيضاً إلى أنه "قد يكون أيضاً نتاج ما يعتمل في النفس من مشاعر متباينة إبان سنوات الصبا والشباب، حين يفتقد المرء خبرة التواصل مع من يشغلون منصباً في المجتمع، في وقت راودت فيه الصبي نيكانور طموحات صحية، استناداً إلى ما استطاع تحقيقه من نتائج متميزة". وعن تقديرها لقدرات الشاب، قالت مديرة المدرسة إنه متميز دراسياً ومعرفياً وله الكثير من النشاط الاجتماعي، إلا أنها انتقدت افتقاده الحياء الذي كان لا بد أن يحول بينه وبين تصحيح معلومات الرئيس بوتين. غير أنه كان هناك بين مدرسي الصبي من كان لهم رأي آخر، فقالوا إنه يعود إلى "كونه وببساطة لا يستطيع التزام الصمت أمام المعلومات الخاطئة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أنه من اللافت في هذا الصدد، أن التلميذ لم يكتفِ بتصحيح معلومات الرئيس، بل وتجاوز ذلك بما تجاسر على تقديمه من اقتراحات قال إنها تتعلق بتحسين كتب التاريخ المدرسية، بما يمكن الطلاب من فهم واستيعاب تفاصيل وأسباب وقوع هذا الحدث أو ذاك، على نحو أكثر يسراً وسلاسة. وطرح التلميذ الروسي أيضاً فكرة تزويد كتب التاريخ المدرسية بما سماه "رموز الاستجابة السريعة"، بحيث يمكن للمرء عند مسحها أن يرى تلك الشخصية من أبطال الماضي وهي تتحدث عن نفسها وعن وقائع عصرها. ولقي ذلك قبولاً لدى الرئيس الروسي، الذي سرعان ما أعرب عن ارتياحه لها بالقول، إن "الفكرة مثيرة للاهتمام الشديد، أن تظهر هذه الشخصية التاريخية أو تلك على الشاشة، للتحدث عن نفسها، حول ما جرى وكيف. سيكون من الواضح أكثر كيف كان يعيش الناس. ذلك أمر رائع. بالطبع، سيكون ضرورياً دراسة هذا الاقتراح. إنها فكرة رائعة".
وقال الرئيس، إن "التاريخ ليس مجرد مجموعة أرقام وأسماء وقوائم الأحداث". واستشهد برأي علماء الرياضيات بأن "الرياضيات العليا هي التفكير المجازي". وفي رأي رئيس الدولة، إن "الأمر نفسه ينطبق على التاريخ. إن مجموعة الأرقام والأسماء والتواريخ والأحداث مهمة للغاية، ولكن عندما يخرج بطل الواقعة ليقول بنفسه شيئاً ما، يصبح من المهم فهم الظروف التي يعيش فيها الناس، والتي على أساسها تم اتخاذ قرارات معينة". وأضاف بوتين أنه متأكد من أنه في هذه الحالة، "ستساعد أحداث الماضي بشكل واقعي وموضوعي في تقييم ما يحدث اليوم، وستساعد على اتخاذ القرارات الصحيحة بحيث يعمل كل شيء بشكل صحيح في المستقبل". وأضاف، "إذا تم الجمع بين كل هذا، فهذا عمل جاد، وتحليل جاد أيضاً لما حدث".
ماذا تقول المصادر؟
لكن، ماذا عن حقيقة ذلك "الخطأ" الذي ارتكبه الرئيس بوتين، وما هو الفرق بين "حرب السبع سنوات"، والحرب الطويلة الأمد التي استغرقت 21 عاماً، وكادت تكون "أول حرب عالمية" تجاوزت معاركها حدود القارة الأوروبية؟
تقول المصادر التاريخية، إن "حرب السنوات السبع" كانت نزاعاً عسكرياً كبيراً في القرن الثامن عشر، واستمرت من عام 1756، وحتى عام 1763. وشاركت فيها كل بلدان القارة الأوروبية، الكبيرة منها والصغيرة، وذلك ما دفع رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل إلى تسميتها "أول حرب عالمية في التاريخ". وكانت أحداثها شملت كل بلدان القارة الأوروبية، وتجاوزتها إلى أميركا الشمالية، ومنطقة البحر الكاريبي، وكذلك بلدان جنوب وجنوب شرقي آسيا، ومنها الهند والفيليبين. وتشير المصادر التاريخية أيضاً إلى أن هذه الحرب شهدت تصادم المصالح والطموحات الاستعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال.
أما عن "حرب الشمال"، فهي التي استمرت لمدة 21 عاماً، وجرت وقائعها خلال الفترة بين عامي 1700 و1721 بين مملكة السويد وتحالف دول شمال أوروبا (بما في ذلك ساكسونيا والإمبراطورية الروسية والمملكة الدنماركية النرويجية وغيرها من بلدان القارة الأوروبية) سعياً وراء الاستيلاء على المناطق المجاورة لبحر البلطيق، والتي انتهت بهزيمة السويد التي فقدت مكانتها كقوة بحرية عظمى. وتشير المصادر التاريخية أيضاً إلى أن المعركة الكبرى بين القوات الروسية تحت قيادة بطرس الأعظم، والجيش السويدي تحت قيادة تشارلز (كارل) الثاني عشر، والتي تسميها المصادر الروسية "معركة بولتافا" جرت في 27 يونيو (8 يوليو وفق التقويم الحديث) 1709، وأسفرت عن هزيمة الجيش السويدي، وهو ما كان علامة فارقة في سير المعارك، بما انتهت إليه من تحول محوري في حرب الشمال لصالح روسيا وانتصارها في الصراع بأكمله، بما كان يعد عملياً الميلاد الحقيقي للإمبراطورية الروسية التي نجحت في الوصول إلى مياه البلطيق، واستعادة ما جاورها من أراضٍ في إستونيا والجزر المجاورة لها وليفونيا (ليفليانديا)، وأنشأت محمية على كورلاند، بموجب شروط معاهدة ستولبوفو للسلام مع مملكة السويد في 27 فبراير (شباط) 1617 (9 مارس بالتقويم الحديث)، وذلك ما يفسر إعلان روسيا الاتحادية للعاشر من يوليو من كل عام عيداً أطلقت عليه اسم "عيد المجد العسكري"، تحتفل فيه الدولة بمولد الإمبراطورية الروسية وعاصمتها سان بطرسبورغ.