"سنواصل حرب التصدي لكل مظاهر الاحتكار، ولا مجال للتسامح مع كل من يعمد للتحكم في تزويد السوق وزيادة الأسعار والتنكيل بقوت المواطنين وسنتعقب المحتكرين أينما كانوا"، بهذه العبارات جدد الرئيس التونسي قيس سعيد التزامه خوض حرب ضروس على كل مظاهر الاحتكار والمضاربة بالمواد ومنها المواد المدعومة.
وتعرف تونس منذ يوليو (تموز) الماضي اضطراباً كبيراً في توزيع عديد من المنتجات، ما رفع أسعارها إلى مستويات غير عادية ولا تعكس التطور العادي للسوق في البلاد، ما جعل تذمر المواطنين يبلغ مداه.
وارتفعت نسبة التضخم خلال يوليو الماضي إلى 6.4 في المئة، وهي أعلى نسبة منذ عام 2019.
وعلى الرغم من دعوات الرئيس التونسي إلى ضرورة تخفيض أسعار المنتجات والالتزام "الصوري" من قبل عدد من التجار والمصانع، إلا أن الأسعار واصلت صعودها "الجنوني".
وتشهد السوق التونسية شحاً في مادة الزيت النباتي وحديد البناء، أضيف إليهما في الأيام الأخيرة فقدان لقوارير المياه المعدنية من نوع نصف لتر ولتر واحد.
مواجهة المحتكرين بحديد القانون
في السياق، احتجزت السلطات التونسية كمية ضخمة من حديد التسليح بلغت 31 ألف طن، بعد تقارير أفادت عن وجود شبهة احتكار لهذه السلعة في أحد المصانع.
وقال الرئيس التونسي، إن "المحتكرين يسعون إلى التحكم في السوق وسياسات الدولة، ولا مجال للتسامح معهم، وإنهم سيدفعون الثمن غالياً... هؤلاء مجرمون ينكلون بالشعب التونسي ويدفعون المال لمن يغض الطرف عنهم، لكن الدولة ستستمر وسنتصدى لهم بالحديد".
وخلال الشهر الماضي قام سعيد بعدد من الزيارات المفاجئة لمخازن تبريد وتخزين الخضروات والغلال، كما داهمت المصالح الحكومية مستودعات لمن وصفتهم بالمضاربين في مادة الحديد أيضاً.
جهاز المراقبة الاقتصادية في الواجهة
يواصل جهاز المراقبة الاقتصادية في وزارة التجارة التونسية حملاته النوعية ضد مخازن التبريد، وذلك في إطار تأمين انتظامية تزويد السوق والتصدي بصفة استباقية للممارسات الاحتكارية بالتزامن مع الاستعداد للمواسم الاستهلاكية المقبلة.
وقال حسام التويتي، مدير إدارة المنافسة والأسعار في الوزارة، إنه تم تنفيذ برنامج خاص لمراقبة مخازن التبريد، خلال شهر أغسطس (آب) الماضي، أسفر في نصفه الأول عن فرض 24 مخالفة اقتصادية إثر القيام بـ191 زيارة رقابية.
وحجز أعوان المراقبة الاقتصادية 1825 طناً من الخضر والغلال، منها 1671 طناً من البطاطا.
وأوضح لـ"اندبندنت عربية" أن العمل جار لتعقب كل مظاهر الاحتكار وتعقب المضاربين في ظل اختلال السوق في هذه الفترة، كاشفاً أن جهاز المراقبة الاقتصادية رسم خطة عمل من أجل التصدي لكل أشكال الإخلال بقواعد المنافسة النزيهة والشريفة، والحرص على الضغط قدر ما يمكن على الأسعار، لتعود إلى نسقها الطبيعي وفق قواعد العرض والطلب.
محاربة الاحتكار
أيد محسن حسن، محلل اقتصادي ووزير سابق للتجارة، الرفع من نسق محاربة الاحتكار، ودعم المؤسسات العمومية للقيام بدورها التعديلي إلى جانب مراجعة سياسة تحديد الأسعار، معتبراً أن الاحتكار ينتشر عندما تصاب الدولة ومؤسساتها بالضعف والوهن وعندما تسيطر اللوبيات على مواقع صنع القرار في مختلف أجهزة الدولة.
عملياً، يرى أن الاحتكار يحدث عندما تسيطر شركة واحدة، أو مجموعة من الشركات، على معظم أو كل السوق لنوع معين من المنتجات أو الخدمات، حيث تتميز السوق بغياب المنافسة التي غالباً ما تؤدي إلى ارتفاع الأسعار وندرة المنتجات البديلة.
وأفاد أنه من خلال تجربته الشخصية، عند إشرافه على وزارة التجارة، كشف عن وجود عدد من الممارسات المخلة بقواعد المنافسة في عدد من القطاعات، ما يستوجب الحزم والردع بقوة القانون ودعم وزارة التجارة، بخاصة جهاز المراقبة الاقتصادية، بالإمكانات البشرية والمادية الضرورية.
وأكد أن محاربة الاحتكار تتطلب إرادة صلبة وتشريعاً متطوراً وقضاءً مستقلاً من أجل تطوير بيئة استثمارية آمنة وجاذبة وعادلة، تراعي حقوق المتعاملين في الأسواق وتحفز نمو الصناعات الوطنية.
حلول ترقيعية
على الرغم من تواضع إمكاناتها المادية واللوجستية، ما انفكت منظمة الدفاع عن المستهلك (مستقلة) تنبه منذ فترة إلى بروز عمليات احتكارية أثرت على المنحى العادي للتزويد.
وسجلت المنظمة التي لها فروع في كافة أنحاء البلاد، وفق تأكيد رئيسها سليم سعد الله، ارتفاعاً غير مسبوق في الأسعار لعدد من المواد الاستهلاكية، داعية الوزارات المعنية إلى تزويد المناطق التي تشهد نقصاً في بعض المواد بخاصة الخضر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأقر سعد الله صراحة، أن حملات التصدي للاحتكار والمضاربة التي تشهدها تونس باتت حلولاً ترقيعية، على الرغم من نجاعتها في تعديل قاعدة العرض والطلب وتخفيض الأسعار.
وقال إن المنظمة بقدر مطالبتها بتكثيف حملات التصدي للمضاربين والمحتكرين، فإنها تدعو إلى إصلاح جذري وتفعيل القوانين التي من شأنها إيقاف نزيف مسالك التوزيع الموازية، ومظاهر احتكار المواد الغذائية والإخلال والتلاعب بتراتيب الدعم مع الضغط على الأسعار الخارجة عن السيطرة.
مجلس المنافسة يتحرك
قرر مجلس المنافسة التعهد تلقائياً بفتح تحقيق اقتصادي في عدد من المنتجات والمواد التي شهدت ندرة في الإنتاج، أو ارتفاعاً في أسعارها بطريقة تدعو إلى الريبة والشك.
وقال رئيس المجلس رضا بن محمود، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، إنه تقرر فتح تحقيق في مجال الحديد واللحوم البيضاء، بخاصة في مستوى التوزيع، إلى جانب التعهد التلقائي في مجال إنتاج مصبرات التن (التونة) والزيت النباتي المدعوم.
وأكد أن لمجلس المنافسة الصلاحيات للتعهد تلقائياً في فتح تحقيق، من دون انتظار شكاوى من المتضررين أو سلطة الإشراف (وزارة التجارة) أو المنظمات المهنية.
وقال بن محمود، إن "الواقع الاقتصادي الراهن يفرض إدخال تغييرات على قانون المنافسة والأسعار بعد مراجعة نظام العقوبات لجعله أكثر نجاعة، والحرص على تنفيذ الأحكام في ما يتعلق بإيقاف الممارسات الضارة بالمنافسة من السوق".
واعتبر أن التغيرات التجارية والاقتصادية نجمت عنها تحولات هامة في مستوى هيكلة السوق (تتميز بعض الأسواق باحتكار القلة)، لافتاً إلى أن الدعاوى المرفوعة من طرف المنظمات المهنية تعد ضئيلة مقارنة مع بعض الأطراف الأخرى التي خولها القانون رفع الدعاوى كالمؤسسات الاقتصادية.
ومجلس المنافسة هو هيئة قضائية مستقلة تأسست تحت اسم "لجنة المنافسة" عام 1991، لكن بعد تعديل قانون المنافسة والأسعار عام 1995، أصبح معروفاً باسمه الحالي وتوسعت صلاحياته وتركيبته.
ويصدر المجلس عقوبات بإدانة عديد من الشركات بدفع غرامات مالية جراء ارتكابها مخالفات تتعارض مع قانون المنافسة والأسعار.
ويبدي المجلس رأيه في مطالب التركيز الاقتصادي الخاضعة لإذن مسبق ومطالب الإعفاءات، مثل عقود الاستغلال تحت التسمية الأصلية (الفرانشيز)، ويبت الممارسات المخلة بالمنافسة، مثل الدعاوى المتعلقة بالاتفاقات والاستغلال المفرط لمركز الهيمنة على السوق والاستغلال المفرط لوضعية التبعية الاقتصادية.
وأشار بن محمود إلى أن السنوات الأخيرة تميزت باحتدام المنافسة على المستوى الوطني والدولي نجمت عنها عديد من الممارسات التي تعتمدها المؤسسات الاقتصادية سعياً منها للاستحواذ على أكبر نسبة ممكنة من حصص السوق في مختلف المجالات والقطاعات.