يفترض كثيرون أن المرجعية الشيعية في العراق قد تكون بين أدوات الهيمنة الإيرانية في العراق منذ الغزو الأميركي في 2003، نظير العلاقة المذهبية، لكن السجال في بغداد بين القوى الأجنبية والمرجعية العربية الأقدم في العالم، يكشف عن عكس ذلك، إذ أبدت مواقف علي السيستاني صلابة نادرة للدفع باستقلال بغداد من وراء الستار بقرارها واستعادة شخصيتها التاريخية.
ويعيد الباحثون العراقيون جذور دور النجف في مقاومة تصدر إيران المشهد إلى الخلاف بين مرجعية "النجف" العريقة، ونظيرتها الحديثة نسبياً في "قم" الإيرانية على مسائل جوهرية في الفقه والإمامة والسياسة.
ويرى الباحث العراقي علاء حميد أن الصراع السياسي الصامت بين المرجعيتين يؤكد أن الاختلاف عميق، بقوله "تأتي في مقدمة أسبابه أطروحة ولاية الفقيه، وأسلوب التعامل مع المساحات التي يمكن التحرك فيها، لا سيما حين تقوم بعض الأزمات في البلدان التي تضم مسلمين شيعة، الذي هو كاشف عن نظرة الطرفين للسلطة، إذ عملت مرجعية النجف الدينية على خلق مسافة تبعدها عن السلطة لكي تحافظ على دورها الروحي، وتمارس استقلاليتها فيما يخص الأمور التي تتصرف فيها، بعكس المرجعية التي تعتقد بولاية الفقيه، فإنها تريد الحضور في السلطة حتى تتولى إدارتها، ويكون لها التصرف بالشؤون العامة والخاصة".
ومنذ أكثر من ألف عام عرفت النجف في عهودها المختلفة مرجعية فقهية لشيعة العرب، إلا أن إيران بعد الثورة الإسلامية في 1979م، كان بين أولوياتها تثوير المذهب وتوظيفه في التمدد نحو أقاليم تتجاوز حدود إيران، إلى حيث يوجد الشيعة في المنطقة العربية والعالم، على خلاف المرجعية العراقية التي تتوقف عند الجانب الفقهي المجرد في الفتوى، ولا تعترف نظريتها الاجتهادية بولاية الفقيه، التي تعني فيما تعني تطويع الدين لصالح المشروع السياسي، إلى جانب عديد من الفروق الجوهرية.
صراع غير مباشر
لهذا يرى الباحث حميد أن الصراع غير المباشر بين المرجعيتين (النجف وإيران) يطرح السؤال حول ما إذا كان "ما يجري من صراع دائر بينهما هو سياسي بخلفية دينية، أم العكس: ديني بمظهر سياسي"، وذلك بالنظر إلى أن مرجعية النجف تنطلق من معتقدها الديني الذي يدور حول "الرعاية والنصح والإرشاد، ويستلزم قبول الناس لهذا الأمر، لكن المرجعية في إيران لا تفصل بين الجانبين الديني والسياسي، حيث تؤمن بأن تحقيق ما هو سياسي يتم عبر اعتقاد ديني راسخ في تصورها الفقهي الإسلامي".
احتفاظ المرجعية في هذا السياق بشخصيتها المستقلة من دون الذوبان في المشهد الإيراني على الرغم من العلاقة بين السيستاني والنظام في طهران، مكّن النجف من التأثير الإيجابي في عديد من الملفات الفاصلة على الصعيد العراقي في سجالاته الممتدة مع طهران من وراء الستار.
وفي هذا السياق، يشير المعهد الدولي للدراسات الإيرانية "رصانة"، على سبيل المثال، إلى أن المرجعية الشيعية في النجف حرصت على مسألة انضواء كافة المجموعات المسلحة في "الحشد الشعبي" تحت لواء مؤسسات الدولة العراقية، وكثيراً ما ذكرت المسؤولين العراقيين بمسألة السيادة العراقية، لكن في كلتا المسألتين كانت المرجعية في موقع الناصح، لا في موقع المنفذ ومن بيده زمام الأمور، وقد كررت المرجعية التأكيد على نفس المسألتين، بعد الصراع الأخير الذي نشب بين الإيرانيين والأميركيين على الأرض العراقية، بعد مقتل قائد "فيلق القدس" الإيراني، قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس القيادي في "الحشد الشعبي".
ميزان في التقلبات الحادة
ويعتبر المعهد أن المرجعية في ظل التجاذبات التي يصلى العراق سعيرها، حاولت أن "تكون ميزاناً في ظل هذه التقلبات الإقليمية الحادة، وحاولت إرضاء جماهير الشيعة، وفي الوقت نفسه تذكير الساسة والمسؤولين العراقيين بسيادة الدولة العراقية، وعدم الدخول في صراعات إقليمية تهدد تماسك الدولة العراقية الهشة".
ومع أن هذا التوازن ساهم في خلق نوع من الاستقرار في ظل حكومة مصطفى الكاظمي القوية في وجع الانفلات والميليشيات الأجنبية، إلا أن المعهد لا يرى من الصائب الإفراط في التفاؤل بقدرة "المرجعية الروحية إلى حد كبير على النفوذ السياسي على الأرض، بحكم وجود ميليشيات تابعة للولي الفقيه، وتأتمر بأمره".
لكن، هناك من يرى أن التفاهم بين طهران والنجف قائم على خلاف ما يتردد، وأن المرجعية تدعم التدخلات الإيرانية كما الأميركية في السنوات التي أعقبت الاحتلال بشهادة واشنطن نفسها على لسان بول بريمر ودونالد رامسفيلد. ومن أولئك الكاتب في هذه الصحيفة عماد الدين الجبوري، الذي اعتبر أن "المرجعية اعتادت توظيف الجانب الروحي في خدمة أهداف ومخططات خارجية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف، "الذي يشك في ذلك، عليه أن ينظر ويقارن مواقف السيستاني وبقية مرجعيات النجف، محمد الحكيم، إيراني، وإسحاق الفياض، أفغاني، وبشير النجفي، هندي، إذ يعملون على عزل الشيعة من محيطهم العربي وإلحاقهم بالحامي الإيراني، لإضعاف العراق لصالح إيران، ما ينعكس بالإيجاب أيضاً على تركيا وإسرائيل في المنطقة، في حين ينعكس ذلك سلباً على العرب".
لكن مراقبين يرون عكس ذلك، إذ يعزون استقبال السيستاني بابا الفاتيكان فرنسيس مارس (آذار) الماضي مثلاً، إلى ضيق النجف بالحصار الأجنبي المفروض من جانب إيران على القرار العراقي، فكان البحث عن سند روحي، ذي ثقل سياسي كبير مثل الفاتيكان بين أوراق كثيرة لعبت بها المرجعية أو أذنت باستخدامها في سياق البحث عن طريق أمن لإخراج العراق من عنق الزجاجة، وجاء تحريك ملف تنشيط علاقات العراق بجواره العربي وامتداده الطبيعي، ضمن هذا المنحى المدعوم من السيستاني.
لكل ذلك لم تحظَ زيارة البابا بتجاوب إيراني مناسب لحجمها، ما جعل الاعتقاد يسود بأنها تستبطن الضغط على إيران، فقام النجف بالتعاطي معها أيضاً بحذر كي لا تستفز النظام في طهران على نحو أكثر مما تحتمل ظروف البلاد المنهكة.
ولاحظ معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أن رجال الدين التابعين لمكتب السيستاني في "قم"، حرصوا على "تجنب تسليط الضوء على الزيارة بشكل يستفز النظام الإيراني... فلم تثر غير القليل من النقاش أو الاهتمام في وسائل الإعلام الحكومية الناطقة بالفارسية".
التوجس من "ورقة البابا"
وأعاد الباحث في المعهد، مهدي خلجي، التوجس الإيراني من حدث الزيارة إلى إدراك الزعماء الإيرانيين أهميتها التاريخية، وكذلك "التهديد الذي تشكله على سلطتهم. وسيكون اللقاء بمثابة اعتراف استثنائي بالسيستاني باعتباره ربما المرجع الشيعي الأعظم في العالم، وبالنجف كمركز للمؤسسة الدينية الشيعية، ونظراً للمنافسة القائمة منذ فترة طويلة بين السيستاني وخامنئي وبين النجف وقم، فمن المرجح أن يكون الزعماء الإيرانيون غير مرتاحين من الزيارة".
ولم يتوقف دور السيستاني ومرجعيته عند هذا الحد، إذ كانت دعوته لقتال "داعش" التي تراجعت أمامها القوات العراقية في سيناريو أشبه بالذي حدث أخيراً في أفغانستان، ضمن أسباب كثيرة أدت إلى دحر التنظيم بدعم التحالف الدولي، لكن القوى المحسوبة على النظام الإيراني استغلت تلك المحنة في إنتاج أجسام وميليشيات، لا تحظى بدعم المرجعية وتؤرق السيطرة عليها الحكومة العراقية.
ويعتقد باحثون مثل العراقي فرهاد علاء الدين أن الخلل في التركيبة السياسية العراقية بعد الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية، يأخذ أبعاداً مختلفة وكارثية، مما يعني أن جهود أي طرف بمفرده لا تكفي لإيقاف الانهيار.
ويخلص إلى أن "الموقف اليوم في العراق بات يستلزم حلولاً جذرية لتفادي التداعيات الكارثية المحتملة للوضع الراهن، وعلى جميع الأحزاب السياسية والقيادات الدينية والمجتمع المدني العمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والعودة بالبلاد إلى ناصية السلم الأهلي والعيش المشترك والإمساك بناصية البناء والتنمية المستدامة، والتوافق حول سلسلة حلول مشتركة".
وقد تكون قمة بغداد التي استهلها رئيس الوزراء الكاظمي بالتنويه بدور المرجعية في حراك بلاده نحو استعادة دورها كإحدى ركائز الاستقرار في المنطقة، تشكل محاولة تلتقي مع جهود عربية وإقليمية ودولية عدة، تستهدف تجنيب العراق مزيداً من المتاعب والتدخلات الأجنبية.