منذ ما يقارب الخمسة عقود، تمرّ العلاقة بين الجزائر والمغرب بمطبات وعرة وصلت إلى حد إعلان وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة الثلاثاء 24 أغسطس (آب) الحالي، قطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط، بسبب ما قال إنه دعم المغرب لمنظمتين معارضتين. وبالنظر إلى أغوار العلاقة بين الجارتين، نجد أن أي محطة خلاف بينهما كانت وراءها قضية الصحراء الغربية. فمنذ تأسيسها في 20 مايو (أيار) 1973، عملت "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (بوليساريو) على مجابهة الاستعمار الإسباني لتحرير الصحراء الغربية. وبعد انسحاب إسبانيا وتوقيع اتفاقيات مدريد، استرجع المغرب الصحراء الغربية عام 1975. وما لبثت جبهة "بوليساريو" أن رفعت السلاح مطالبة بانفصال الإقليم الذي يُعتقد أنه غني بالثروات المعدنية فضلاً عن الثروة السمكية. وأصدرت محكمة العدل الدولية في أكتوبر (تشرين الأول) 1975 قراراً بعدم جواز بسط المغرب أو موريتانيا سيادتهما على الصحراء الغربية، استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1963، بإدراج تلك المنطقة ضمن الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي بموجب ميثاق الأمم المتحدة، بينما ظل المغرب على مطالبته بالإقليم الذي حظي بدعم الجزائر التي نالت استقلالها عام 1962 أي قبل عام واحد من ذلك القرار. وعام 1976، أعلنت جبهة "بوليساريو" من مقرها في الجزائر إنشاء "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" كدولة مستقلة. ولم ينتهِ عقد السبعينيات قبل أن توقّع موريتانيا معاهدة سلام مع الجبهة عام 1979، بسبب انشغالها بقضاياها الإثنية والاقتصادية الداخلية.
تصعيد التوترات
وبعدما شكلت الجبهة حكومتها في مدينة تندوف عام 1975، تصاعد التوتر بين الجزائر والمغرب وشابت علاقاتهما خلافات نابعة من عاملين، الأول داخلي سياسي وعسكري، والثاني خارجي، تمثّل في مصالح ونفوذ قوى دولية، تحديداً فرنسا وإسبانيا المستعمرتين السابقتين للمنطقة.
ومنح المغرب المنطقة التابعة له من الصحراء الغربية حكما ذاتياً مع الاحتفاظ بالسيادة المغربية عليها لإنهاء النزاع، أما بقية الأراضي، فتسيطر عليها "بوليساريو"، وتطالب بإجراء استفتاء لتقرير المصير تدعمها فيه الجزائر. ولم تعترف الأمم المتحدة بالحكم الذاتي لمنطقة الصحراء الغربية، وإضافة إلى ذلك أخلت المنطقة من منصب مبعوث الأمم المتحدة لإدارة العملية السياسية. وإلى جانب المناوشات بين البلدين الجارين، قررت الجزائر إغلاق الحدود بينها والمغرب عام 1994، بعد قرار الرباط فرض تأشيرة على الرعايا الجزائريين، إثر تفجير فندق في مراكش وُجّهت أصابع الاتهام فيه إلى الاستخبارات الجزائرية. وفي محادثات تطبيع العلاقات الثنائية وإعادة فتح الحدود بين البلدين، قدّمت الجزائر مجموعة شروط كان على رأسها "احترام موقف الحكومة الجزائرية في ما يتعلق بمسألة الصحراء الغربية". ولم يكُن ذلك هو السياق الوحيد للمناوشات، فمن على أرض الجزائر أيضاً، احتفلت جبهة "بوليساريو" في 27 فبراير (شباط) الماضي، بما أسمته الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لتأسيس "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" التي أعلنتها عام 1975 في مخيمات اللاجئين في تندوف بالصحراء الجزائرية.
منطقة عازلة
وبعد اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء الذي أعلنه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2020، واعتماد خريطة للمغرب تضم الصحراء الغربية، ركّزت الرباط في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وجودها في المنطقة العازلة التي كانت تسيطر عليها الأمم المتحدة بغرض حماية المدنيين وتأمين الطريق الوحيد إلى غرب أفريقيا، لتذليل العقبات أمام تطبيق وقف إطلاق النار من طرف بعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية المعروفة باسم "مينورسو".
ولتمكين البعثة من مقتضيات إخلاء المنطقة من العناصر المسلحة من الطرفين، مدد مجلس الأمن الدولي التفويض لها في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لمدة عام آخر، ما أثار انتقادات "بوليساريو".
وارتفعت حدة المواجهة بعدما بدأت الجبهة بالدخول إلى منطقة المحبس، فبنت منشآت عسكرية وإدارية هناك، الأمر الذي اعتبره المغرب خرقاً لاتفاق وقف النار الموقّع عليه عام 1991. ولكن الجبهة اتهمت الرباط بانتهاك وقف إطلاق النار أولاً، وأعلنت بدورها انتهاء الالتزام به.
تحركات دولية
وكانت لإعلان ترمب ارتدادات دولية، إذ سارعت روسيا إلى التنديد بالخطوة الأميركية، فيما صرّحت فرنسا بأنها ملتزمة ضرورة الرجوع إلى الحل السياسي، أما ألمانيا فانتقدت موقف واشنطن. أمام هذه الضغوطات، أعلن الرئيس جو بايدن أن الصحراء الغربية لن تكون في أولولية قضاياه، خصوصاً أن التراجع عن الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية سيخضع لحسابات عدة. وإزاء تقاعس الاتحاد الأفريقي الذي اكتفى بالدعوة إلى مفاوضات تقودها أميركا والأمم المتحدة، فإن المقترح الذي يدور في الساحة ليس أكثر من تعيين مبعوث خاص للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن غياب المؤسسات السياسية الفاعلة في القارة الأفريقية، خلق معضلة للاتحاد الأفريقي لأن المغرب وجبهة "بوليساريو" عضوان فيه. ولم تتمكن الجبهة من الحصول على عضوية في الأمم المتحدة لكنها استطاعت الانضمام إلى منظمة الوحدة الأفريقية بمساعدة الجزائر خلال قمّتها العشرين في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1984، فانسحب المغرب على الأثر من المنظمة احتجاجاً.
وبعد 33 عاماً على الانسحاب، قرر المغرب العودة إلى الاتحاد الأفريقي عام 2017، واستطاع أن يكسب بعض الأصوات المؤيدة لموقفه، بينما تبنّت دول أفريقية أخرى دوافع دعم الاتحاد الأفريقي لجبهة "بوليساريو" من واقع عقدة الاستعمار، وتحمل الجزائر هذا الشعار بتسمية الصحراء الغربية "آخر مستعمرة أفريقية". ومن المنطلق ذاته، تصرّ على إدارة قضية الصحراء الغربية تحت عنوان "مبادئ الثورة الجزائرية".
وأسهمت استراتيجية المغرب على المستوى الدولي في مراجعة الموقف الأفريقي من قضية الصحراء، إذ استغلت فرصة انسحاب الجزائر من النشاط الخارجي وتقلّص دورها أمام الجهود الفرنسية والمغربية في تنظيم بعض الفعاليات الخاصة بدول الساحل والصحراء للتعاون في ما بينها.
ترسيم الحدود
كما عادت جذور الخلاف بين المغرب والجزائر لتسيطر على الأحداث على خلفية قيام الأخيرة و"بوليساريو" بترسيم الحدود بينهما. ومرّت هذه العملية بعدد من المراحل أُعلن عنها منذ أشهر، إلى أن صرّح الوزير لعمامرة، الأسبوع الماضي في الاجتماع الوزاري لمجلس السلم والأمن للاتحاد الأفريقي، الانتهاء من ترسيم حدودها مع كل البلدان المجاورة، بما في ذلك مع "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية".
وقبل الخطوة الجزائرية، رسّم المغرب حدوده البحرية، مما وفّر له صلاحيات واسعة في المياه الإقليمية. واعتبر مراقبون أن تلك الخطوة حفّزت الجزائر على الإسراع في الترسيم، في حين برز ترجيح آخر يفيد بأن الخطوة الجزائرية جاءت بسبب قيام القوات المغربية والموريتانية في نهاية العام الماضي بإعادة فتح معبر الكركرات الذي أغلقته الجزائر. ومع فتح نقطة العبور هذه بين الصحراء الغربية وموريتانيا، الواقعة في منطقة منزوعة السلاح تراقبها قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، لن تتمكن "بوليساريو" من استعمالها لمضايقة المغرب. وبترسيم الجزائر للحدود، تضمن فتح ممرات لعناصر الجبهة عبر تندوف، يمكن استعمالها ضد المغرب.
ورقة القبائل
لم يكُن البعد القبلي غائباً أثناء الخلافات بين الرباط والجزائر، إذ شكّلت دعوة ممثل المغرب الدائم لدى الأمم المتحدة عمر هلال في يوليو (تموز) الماضي، من خلال ورقة مقدمة إلى حركة عدم الانحياز، إلى ما وصفه بــ"تصفية الاستعمار في منطقة القبائل" في الجزائر، والمطالبة بـ"حق تقرير المصير" لسكان تلك المنطقة، عاملاً خلافياً جديداً بين البلدين. وردّت الجزائر أن "تقرير المصير إنما ينطبق على منطقة الريف المغربي" التي تقع شمال المملكة على البحر المتوسط، وغالبية سكانها ينتمون إلى القبائل الأمازيغية، وتشهد اضطرابات وغضب شعبي منذ عام 2017، انطلقت شراراتها نتيجة مقتل بائع سمك أراد استعادة سلعته من الشرطة التي صادرتها منه.
وأخيراً، اتهم لعمامرة المغرب بدعم المنظمتين المعارضتين وهما "حركة استقلال منطقة القبائل" التي تُعرف اختصاراً باسم "ماك" وهي حركة تأسست من أجل المطالبة بالحكم الذاتي في منطقة القبائل وغالبية سكانها من الأمازيغ بعد أحداث "الربيع الأسود" عام 2001، و"جمعية رشاد" التي تأسست في أبريل (نيسان) 2007، من قبل مجموعة من الجزائريين المنتمين لأحزاب سياسية، خصوصاً "جبهة الإنقاذ الإسلامية". وأرجع لعمامرة نشوب الحرائق في غابات بلاده إلى هاتين المنظمتين.
سعي حثيث
في السياق، تشير بعض الأصوات إلى وجود تنافس قوي بين البلدين قائم على التوسع الجيوسياسي ومواجهة التحديات الأمنية بالتعاون مع القوى الغربية لصدّ النشاط الإرهابي في منطقة الساحل، ومحاربة الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر عبر الصحراء الغربية.
إن التطورات الأخيرة بين الجزائر والمغرب تستلزم توجّهاً دبلوماسياً تجاه أفريقيا تمليه اعتبارات آنية ملحّة، في ظل الأزمة التي تعيشها الدولتان. ويبدو من خلال تتبّع خلافات البلدين أن الأبعاد السياسية والأمنية المتجذرة أصبحت تتحكم فيها عوامل أخرى أفرزتها التغيرات التي شهدتها البيئتين الدولية والأفريقية. وهذا ما يدلّ عليه كل رد فعل لطرف على الآخر، وبروز سعيهما الحثيث ليكونا فاعلين مؤثرين في التحولات التي يشهدها محيطهما الأفريقي، ولكن كلٌ بمنطلقاته وأدواته الخاصة. ولا شك في أن جبهة "بوليساريو" ستظلّ عنوان هذا التنافس الجيوسياسي المتأثر بعوامل داخلية وإقليمية ودولية.