Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الساحر الإيطالي يفتتح سبعينيات القرن العشرين بنوع جديد من الأفلام

"فلليني – روما" يدخل الفن السابع عالم السيرة الذاتية بشكل مباشر

مشهد من فيلم "روما فيلليني" (موقع الفيلم)

بين أعوام 1970 و1973 حقق المخرج الإيطالي فدريكو فلليني ثلاثية سينمائية سوف يكتشف النقاد والمؤرخون أهميتها وتجديديتها بالتدريج ليس مباشرة وإنما بعد حين، كما يحدث عادة بالنسبة إلى الفنون الكبيرة التي تبني للمستقبل وتحتاج بالتالي وقتاً قبل أن تُستوعب تماماً، ولو انطلاقاً من الماضي. أما التجديدية المطلقة التي يمكن الحديث عنها هنا فتكمن في النوع السينمائي الجديد الذي أتى به هذا الفنان المبدع متحدياً إمكانات السينما نفسها وما كان يقال عن "استحالة أن يتمكن هذا الفن يوماً في السير على خطى الرسم أو الأدب في استلهام مواضيع السيرة الذاتية".

من السيرة إلى السيرة الذاتية

قبل ذلك كان يمكن للسينما طبعاً أن تستلهم حياة مشاهير في عالم السياسة أو الفن أو الرياضة أو العلوم أو أي مجال آخر من مجالات الإبداع الإنساني لأناس مميزين يقبل الجمهور على مشاهدة ما يؤفلم عنهم، لا سيما بعدما يكون وجودهم قد ترسخ وغالباً بعد رحيلهم. ولا يتسع المجال هنا طبعاً لتعداد مئات الأفلام التي تسمى "سينما السيرة"، لكن سينما السيرة شيء وسينما السيرة الذاتية شيء آخر تماماً. فالمبدع الراغب في، والقادر على، تحقيق فيلم من هذا النوع يكون لا يزال بالطبع على قيد الحياة وأمامه حياة بطولها يجب أن يعيشها ويبدع خلال الآتي منها، أعماله. بالتالي لن يكون من السهل على الجمهور السينمائي العريض أن يجاريه في مشروعه إن هو سعى لتقديم فيلم عن حياته، مهما علا شأنه أو كانت غرابة تلك الحياة. وحتى فلليني نفسه حين أقدم على شيء كهذا حتى قبل الثلاثية التي نتناول هنا أحد أبرز أفلامها اضطر لأن يختبئ خلف "قناع" يشي بأنه هو المقصود إنما بشكل موارب. وكان ذلك طبعاً في فيلمه الأسبق "ثمانية ونصف" الذي صور فيه تحت ملامح مخرج سينمائي يلعب دوره مارتشيلو ماستروياني معاناة مخرج مع منتجيه ومصادر إلهامه وقدرته على الإبداع وسط عالم يسيطر عليه رأس المال. هكذا كانت الشخصية المحورية في "ثمانية ونصف" فلليني إنما من دون أن تكونه بكل وضوح. أما في الثلاثية التي نحن في صددها فالأمر اختلف تماماً وصار فلليني هو نفسه الشخصية المحورية ولو بحدود، في ثلاث مراحل مختلفة من حياته. وكان ذلك هو التجديد الكبير الذي فتح الأبواب مشرعة أمام سينمائيين كثر تبعوه في الدنو من النوع ومن بينهم طبعاً سينمائينا المصري الكبير يوسف شاهين في "رباعيته الإسكندرانية" التي شجعت سينمائيين عرباً كثراً على خوض التجربة من بعده وإن بنجاحات متفاوتة.

بين المبدع وأمكنته

المهم هنا، في عودة إلى فلليني أنه كان مبتدعاً حقيقياً ومقداماً للنوع في تلك الأفلام الثلاثة: "المهرجون" (1970)، "فلليني – روما" (1971) وأخيراً "أماركورد – أنا أتذكر" الذي ختم الثلاثية ولو مؤقتاً في عام 1973. ونقول مؤقتاً لأن فلليني سيعود مراراً وتكراراً إلى سيرته الذاتية في شرائط أخرى لاحقاً ولكن... بتوفيق أقل. ومهما يكن فإن "فلليني – روما" يبقى الأجمل والأقوى بين أفلام تلك الثلاثية لأنه الأكثر احتفالاً ليس بذات المخرج وسينمائيته وحسب بل بالمدينة التي ارتبطت سينماه بها. أما الفيلمان الآخران فقد طغت عليهما هموم أساسية أخرى ولو دائماً من خلال التركيز على ذات صاحب السيرة. ففي الأول "المهرجون" يحدثنا السينمائي عن الطفل الذي كانه يوم اكتشف ذات صباح نصب خيمة سيرك إلى جوار منزله في مدينته ريميني وراح يراقب كل أنواع المهرجين يمارسون حياتهم وعملهم من حوله فيسحرونه ويخلقون لديه ذلك الشغف الذي لم يفارقه أبداً وسيوصله لاحقاً إلى سحر سينماه. لكن المخرج سرعان ما يقطع فيلمه ليتأمل في "اختفاء المهرجين" ليحل محلهم مهرجون من نوع آخر أقل ظرفاً وأقل صدقاً هم السياسيون والإعلاميون ونجوم المجتمع. أما في "أماركورد" الذي يتابع فيه سنوات مراهقته وفتوته في ريميني نفسها، فإنه من خلال سيرته واكتشافه السينما والمرأة والسياسة في الوقت نفسه، يغوص في تسييس موضوعه مركزاً على سنوات الفاشية الموسولينية أكثر مما على سيرته الخاصة، أو بالتوازي معها. ومن هنا يتفرد "فلليني روما" بكونه الأكثر ارتباطاً بحياة فلليني وبالمدينة التي شهدت ولادته السينمائية.

سيرة المدينة وسيرة عاشقها

ولعل أجمل ما في هذا الفيلم هو بدايته التي تحمل العديد من الدلالات المفاجئة. فالفيلم ينطلق من مشاهد صورتها كاميرا فلليني تحت الأرض في إحدى مناطق روما حيث ثمة فريق تصوير يقوم بتصوير مشاهد في تلك الأغوار موضوعها اكتشاف جماعة من المنقبين لآثار قديمة ولوحات جدرانية رائعة الألوان متنوعة المواضيع والتعبير الفني ما يشي بأن ثمة حضارة بديعة كانت تشغل تلك الزاوية من المدينة الخالدة قبل ألوف السنين. ولكن فيما يدور تصوير الفيلم داخل الفيلم تنفتح ثغرة في جدار المكان يقفز منها الهواء والضوء إلى الداخل فيحدث أن هذين ينصبّان بؤساً على الرسوم وألوانها مفقدينها زهوها وروعتها اللتين كانتا قد حفظتا مئات السنين وأكثر. وهكذا تتشوه الوجوه المرسومة لتبدو وكأن الجذام يتآكلها. ومن الواضح هنا أن الفيلم إنما استخدم هذه الصور الحقيقية والتي صورت لحظة التنقيب بالذات كرمز للزمن ومروره وللفن وقدرته على الصمود في وجه هذا الزمن.

تجوال مبدع وعرض أزياء مدهش

انطلاقاً من هذا المشهد الذي حمّله المخرج لاحقاً وهو يركّب الفيلم قدراً كبيراً من الدلالات، نجد الفيلم يتحول في مشاهده التالية بعيداً من أية سردية متواصلة أو تلاحق في الموضوع، إلى مشاهد ترك فيها فلليني العنان لمخيلته العريضة ولما تختزنه ذاكرته من صور تلك المدينة في زمنين يبدوان هنا متكاملين: سنوات الثلاثين حين وصل فلليني الشاب من ريميني إلى روما باحثاً عن مستقبل ما وسنوات السبعين حين صار واحداً من كبار مبدعي الفن السابع. وهكذا راحت كاميراه تتجول بين الزمنين كما بين سكان روما وهم يعيشون حياتهم في شوارعها ومقاهيها على الأرصفة وفي الساحات، ولكن أيضاً في القصور المخملية الفخمة وبخاصة حيث يصور لنا عرض أزياء مدهشاً يقوم به رجال دين وراهبات باستعراض أزياء دينية تحت أنظار سيدة مجتمع عجوز، ولكن دائماً من منظوره هو كسينمائي يريد أن يصور ليس المدينة بل نظرته إلى المدينة. ما يجعل الفيلم في نهاية الأمر سيرة مزدوجة له في مرحلتين من حياته وللمدينة في زمنين من أزمنتها. وهكذا ينتقل والكاميرا ترافقه خطوة خطوة من زقاق إلى آخر ومن مكان إلى آخر ولكن أيضاً من زمن إلى آخر، ملتقياً في طريقه عدداً من أصدقائه المحليين والعالميين، حيث نفاجأ بالكاميرا تلتقط الفاتنة آنا مانياني قبل شهور من موتها والكاتب الأميركي غور فيدال والرسام الإنجليزي فرانسيس بيكون، ناهيك بممثلين من رفاق فلليني كماستروياني وألبرتو سوردي وغيرهم، وهم جميعاً هنا يقدَّمون بشخصياتهم الحقيقية كجزء من عالمين، عالم فلليني وعالم روما.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تأريخ خاص لزمنين ومكان واحد

والحال أنه ندر لمدينة أن عوملت سينمائياً بمثل هذه الحميمية وحتى في المشاهد التي تصور، روائياً هذه المرة، سنوات الثلاثين ويطالعنا فيها الفتى فلليني يعيش بين المسارح الشعبية وبيوت الهوى والعائلات في بيوتها، ما يمكن الفيلم من أن يتغلغل في حياة المدينة وأيضاً من خلال نظرات ذاك الفتى الذي سيصبح ذات يوم واحداً من المؤرخين الحقيقيين لروما، إنما في الارتباط مع حياته الخاصة. وفي هذا السياق قد يكون من المفيد أيضاً ذكر استلهام يوسف شاهين لهذا الجانب من "سيرة روما وفلليني" في فيلمه "الوثائقي" "القاهرة منورة بأهلها"، ما يعيدنا إلى تلك التجديدية التي خاضها فلليني في هذا الفيلم كما في فيلمي "الثلاثية" الآخرين، لتصبح منذ ذلك الحين جزءاً من الأنواع السينمائية الأكثر جمالاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة