Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جمانة حداد: بلغت مرارا مرحلة الشفير لكني اخترت... هاوية الحياة

رواية "بنت الخياطة" تروي مأساة الارمن

الشاعرة والروائية جمانة حداد (اندبندنت عربية)

بعد أعمالٍ كثيرة اختلفت في أجناسها الأدبية واتفقت على مناصرة قضايا المرأة والإنسان، تدخل الشاعرة والكاتبة اللبنانية جمانة حدّاد معترك الرواية لتحكي مآسي النساء بنبرة خافتة تليق بحزن دفين اختبرته أثناء كتابة سيرة أربع نساء من عائلة واحدة، يتوارثن المأساة كأنّها قدر إغريقي.

"بنت الخياطة" (دار هاشيت أنطوان- نوفل) تبدأ من عنتاب في العام 1912، مع الجدّة سيرون التي نجت من الموت الجماعي أثناء المجزرة الأرمنية، والتي قررت أن تضع حداً لحياتها في السادسة والستين من عمرها. ثم تنتهي مع الحفيدة جميلة التي ورثت أحزان جدتها وعانت ويلات وطنها إلى أن قضت بتفجير انتحاري.

إنّه عمل يُحاكي وجع كلّ إنسان حمل هويته ندباً في روحه وذاكرته.

عن سيرة جدتها التي خلّدتها في هذه الرواية وحكايات نسائها اللواتي يتوارثنَ أحزانهنّ، بالإضافة إلى قضايا أدبية واجتماعية وسياسية أخرى تتحدث عنها جمانة حداد في هذا الحوار:

* بعد عدد من الكتب الشعرية والنثرية والقصصية، تأتي "بنت الخياطة" كتجربتك الأولى في الرواية. هل كتابة الرواية كانت قراراً أم مصادفة؟

-  لم تكن كتابتي روايةً نتيجة قرار. لم أفتح صفحة بيضاء جديدة على شاشة الكومبيوتر وأشمّر عن ساعديّ لأقول: "حسناً. الآن سوف أكتب رواية". هذا القرار، أي قرار جنس النص، لم يكن يوماً لي حقاً. غالباً ما أجلس وأستسلم لإغراء كائن يحمل سماته وخصائصه معه منذ لحظة نشوئه كفكرة، بما فيها حتى لغته. لا أشعرن هنا لحظة الكتابة، لكنّني فعلاً أسمع صوت الكلمات ونبرتها وأرى احتمالاتها منذ خليّتها الأولى، فـ"أطيع". في اختصار، تأتيني الفكرة عذراء ووعرة وخاماً، لكنها تحمل مستقبلها وإيقاعها وميزاتها مرسومة فيها، وما عليّ سوى أن أستولدها بأفضل طريقة ممكنة، كمثل نجّار يستولد قطعة أثاث من جذع شجرة.

بعد تراجيدي

* تحمل روايتك "بنت الخياطة" بعداً تراجيديا يتمثّل في تكرار "اللعنة" أو القصاص على أبناء العائلة الواحدة، من جيل إلى جيل... هل تأتي فكرة "القدرية" لتعكس اهتمامك بالمسرح التراجيديّ الذي تجلّى في أعمالك السابقة من خلال شخصيات "ليليث" و"فيدر"؟

-  هو، أكثر، اهتمامٌ بالميثولوجيا عموماً، وببعض رموزها تحديداً. لا شك في أن هناك سحراً تمارسه عليَّ بعض الشخصيات الميثولوجية، وكيفية تجسيدها لأعمق مآزقنا كبشر. لكنني، عندما كنتُ أكتب "بنت الخياطة"، لم أكن أفكّر في أيٍّ من هذا. لم أكتب الرواية كـ"مثقفة"، لم أكتبها بـ"دماغي" ومعرفتي، بل بغريزتي وقلبي ووجداني. تالياً، كل ما يمكن أن يكتشفه النقّاد فيها من إيحاءات أو أن يستنبطوه من تأويل وتفسيرات، إنما هي عناصر "جانبية" لا واعية من جهتي، لهم وحدهم تقريباً الفضل في وجودها بسبب تحليلاتهم النفسية والفكرية واللغوية للنص. أحياناً أشعر بأن كل كتاب هو في الحقيقة ثلاثة كتب: كتاب الكاتب، كتاب القارئ وكتاب الناقد. وهي قد تختلف في ما بينها إلى حد بعيد.

* ما رمزية ماكينة الخياطة التي تتوارثها نساء الرواية كما تتوارث التعاسة والفقدان؟ هل التعلّق الفيتيشي بهذه الآلة يعني التمسّك بالأصول؟

-  أفضّل أن أعتبر ماكينة الخياطة رمزاً للصمود، لرتق الفتوق، للمجاهدة وتحدي الخسارة، لمحاولة "تقطيب" ما يمكن رتقه من حيواتنا الممزّقة والمضي قدماً. وهذا ما كانت تفعله كل بطلة من بطلات الرواية، على طريقتها الخاصة.

* الانتحار قضية أساسية في روايتك "بنت الخياطة". والمعلوم أنك تطرقت سابقاً إلى موضوع الانتحار سواء في الشعر أو في الأنطولوجيا عن الشعراء المنتحرين. هل كانت لك تجربة شخصية مع الانتحار؟

-  لا. أنا متعلّقة بالحياة على الرغم من كل ما يدفعنا فيها إلى كرهها واعتبارها عقاباً. متعلّقة بها على الرغم من جرعات السمّ المتتالية التي تهديها إلينا. متعلّقة بها أيضاً على الرغم من أنني أعاني شخصياً الاكتئاب. السبب ربما أن شيئاً ما فيَّ، كأنه قوّة خارقة، يدفعني إلى التركيز على بقع الضوء فيها، ولا شك في أن هذه كثيرة في حياتي. طبعاً أدركتُ مرحلة الشفير أكثر من مرّة، لكني كنت في كل مرة أختار هاوية العيش على هاوية الموت. أعتقد أن عنادي ينقذني، ومثله شغفي الذي كمثل نارٍ لا يليق بها أن تنطفئ. ليس بعد في الأقلّ.

سيرة الجدة

* في هوامش الرواية، ذكرت أن سيرة سيرون هي سيرة جدتك الأرمنية التي انتحرتْ حين كنتِ طفلة. لكنّ العمل منشور على أنه رواية. ما هي إذاً حدود الواقع والخيال في "بنت الخياطة". وإذا كانت جدتك هي سيرون، فأي واحدة من البطلات الأربع هي جمانة؟

- صحيح أني استلهمتُ بعض تاريخ عائلتي، وشخصية جدّتي الحبيبة خصوصاً، في هذه الرواية، لكنّ "بنت الخياطة" عمل تخييلي، خصوصاً في ما يتعلق بالبطلات وحيواتهنّ، لكون الخلفية التاريخية واقعاً. حتى جدتي ليست حقاً جدتي في هذا المعنى، باستثناء كونها ولدت في عينتاب وعاشت المجزرة الأرمنية عندما كانت في الثالثة من العمر ثم انتحرتْ لاحقاً في بيروت. كنتُ ذكرتُ في الاستطراد أن الكتاب شكّل تمريناً في "توقّع الماضي" أو اختراعه، وأنني أقدّم فيه ذكريات عائلية مختلَقة. لا أقول ذلك لدفع تهمة الحقيقة عنّي، فمعروف أن ليس أكثر "وقاحة" مني في قول الحقيقة، حتى في أشدّ الأمور حميمية، وهذا مثبتٌ في جميع أعمالي السابقة. لكنّ الكتاب فعلاً تخييل، ويصعقني كم أن التخييل يصبح واقعاً بالنسبة إلى القراء. هذا من أجمل ما عشته في تجربة كتابة رواية للمرة الأولى. لا أملك إلا أن أبتسم عندما تعاتبني قارئة ما مثلاً، لأن شيرين لم تستطع إنقاذ ابنتها من مصيرها الأسود، أو عندما يسألني قارئ: "طيّب ماذا حدث لـ عمر؟". أما بالنسبة إلى الجزء الثاني من السؤال، ففي كل واحدة من النساء الأربع شيءٌ مني، وفي الآن نفسه، لستُ أياً منهنّ.

* في القسم الأول من الكتاب، ثمة سرد بديع لمعاناة الأرمن. ولكن للحظات، قد تبدو لنا معاناة أبطالها راهنةً وكأنّ عنتاب هي جبال سنجار والأرمنيات هنّ الإيزيديات... هل شكّلت حكايا النساء في سوريا والعراق حافزاً دفعك نحو كتابة هذا العمل؟ وهل التداخل الزمني في روايتك بين الماضي والحاضر يؤكد معاناة المرأة المستمرّة في هذه البقعة من العالم؟

-  للأسف لا تزال المنطقة كلها عالقة في نفقٍ طويلٍ من النزاعات المتتالية. نفق ملعون اسمه الشرق الأوسط، شهد، ولا يزال يشهد، من العنف والحروب والكراهية أكثر ممّا يمكن وصفه، من أرمينيا إلى لبنان، من فلسطين إلى سوريا والعراق، من دون أن ننسى الكويت ومصر واليمن وتركيا... اللائحة تطول ولا تنتهي. خلال المئة عام التي يغطّيها الكتاب، لا تنفكّ القصة نفسها تتكرّر. ليس العذاب حكراً على النساء طبعاً، ولكنني دائماً أقول إن الرجال يصنعون الحروب، والنساء يخسرنَ. نعم الرجال قد يُقتلون في المعركة، لكن النساء هنّ اللواتي يدفعنَ الثمن الأغلى: ثمن البقاء. ثمن الحداد. ثمن إعادة بناء ما تهدّم مرةً تلو مرة إلى ما نهاية. حتّام؟ متى نكسر هذه الحلقة المفرغة؟

لغة بصرية

* اللافت أن الرواية مكتوبة بلغة بصرية عالية، فهل من الممكن تحويلها إلى فيلم أو عمل درامي؟

 - أتمنى ذلك فعلاً. كنتُ إذ أكتب "بنت الخياطة" أنقل ما أراه بعين رأسي وأحوّله إلى كلمات. أي أن الرواية كُتبت لا لتُقرأ فحسب، بل أيضاً لتشاهَد.

* أنت صحافية وكاتبة وناشطة حقوقية... هل ما زلت تعتقدين بدور الأدب الملتزم؟ وإذا كان الكاتب قادراً على تغيير شيء ما في مجتمعه، لماذا ترشحتِ إلى منصب سياسي؟

  - لم أكن يوماً من اللواتي والذين يؤمنون بدور الأدب الملتزم. لا أكتب كمهمّة أو كرسالة بل لأنقل أنايَ حصراً، والدليل أن كتاباتي شخصية جداً، وهذا من الانتقادات التي توجّه إليها. لكني اكتشفت مع الوقت أن الأنا، مهما كانت فردانية، هي عالمية، وأن ما يمسّني أو يغضبني أو يفرحني أو يثيرني، قد يمسّ أشخاصاً لا علاقة ظاهرية أو منطقية بيني وبينهم، وبين ظروف حياتي وظروف حياتهم. في هذا المعنى، أجل، الكاتب قادرٌ على تغيير شيءٍ ما في هذا العالم، لكنه تغيير على مستوى جوهري عميق له علاقة بصميم الإنسانية. أما ترشّحي إلى النيابة فهو نابع من اهتمام آخرَ في حياتي، هو السعي في سبيل عالم تسود فيه العدالة والمساواة واحترام الحقوق والحريات، ومن اقتناعي بأن السياسة ليست محكومة سلفاً بالوسخ والكذب والصفقات الدنيئة، وبأن ثمة فسحة لممارستها بأخلاقيات عالية. هنا، التغيير يتمّ على مستوى مختلف، قابعٍ على المتن، لكنه لا يقل حيوية ورقياً عن التغيير الأول، شرط أن يتم السعي إليه بضمير ونزاهة.

المزيد من ثقافة