على الرغم من حداثتها، إلا أن علماء وتقنيين ومفكرين وفلاسفة وسياسيين وعسكريين كانوا يعرفون منذ العقود الأخيرة من القرن الـ20، أن الحروب السيبرانية ستكون نواة الحروب المستقبلية، وبؤرة الصراع الدولي ستكون في عالم المعلومات وداخلها وفي الأفكار والمعلومات التي ستملأ بها عقول البشر، والمعلومات الشخصية عنهم تلك التي اجتهدت الأنظمة عبر عشرات السنين في جمعها وتنظيمها.
وبعد ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي تأكدت صحة هذه النظرة حول مستقبل الحروب، التي لن تعود "تقليدية" بالصواريخ والقنابل والجيوش المقاتلة والغواصات والطائرات، بل بمجرد سرقة معلومات حساسة موجودة في الملفات الإلكترونية للطرف المعادي، أو بث معلومات مضللة داخل هذه الملفات لتحوير وجهتها أو تخريبها أو عرقلة عملها.
انطلاق الحرب السيبرانية
عادة ما تنفذ الهجمات السيبرانية التي تهدد أمن الحكومات والشركات والمؤسسات العامة والمواطنين من قبل ثلاثة مصادر رئيسة وهي، الحكومات والناشطون السياسيون الإلكترونيون والقراصنة. ومن الصعب في أحيان كثيرة تحديد الفريق الذي يقوم بهذه الهجمات.
وبناء على عدد الهجمات السيبرانية المسجلة خلال السنوات الماضية التي طالت مؤسسات حكومية ومراكز حساسة وشركات كبرى ومؤسسات عامة وطنية ذات أهمية كبرى لسير أعمال الدول تجاه مواطنيها، التي طالت مصارف ومؤسسات خاصة وأفراداً، والتي كانت ذات تأثيرات كبيرة على مستوى العالم سواء في العلاقات الدبلوماسية بين الدول أو في إيقاع خسائر اقتصادية أو في جمع معلومات سرية، يمكننا القول إن حرباً سيبرانية عالمية قد انطلقت وربما لن تنتهي. وهذه الحقيقة باتت تعرفها الحكومات المتصادمة وتعمل على مواجهتها بجيوش إلكترونية سيبرانية وبأجهزة الاستخبارات ووكالات حكومية خاصة بمنع وقوع الهجمات وأخرى خاصة بالرد عليها.
يقول الباحث الأميركي في مؤسسة "مركز الأمن الأميركي الحديث" المحلل السابق في وحدة التقنيات الناشئة بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي)، مارتين راسر "هناك مزيج من العمل على المستويين الرسمي وغير الرسمي، للبحث عن الثغرات بشكل مستمر ومهاجمة الشبكات حول العالم... هذا هو واقع الحياة في القرن الـ21، وهو أمر علينا التعامل معه".
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإنه على الرغم من عدم إمكانية معرفة مصدر الهجمات على الشبكة العنكبوتية بصورة قاطعة، وما إذا كانت تدعمها حكومات، إلا أنها باتت تثير جدلاً متبادلاً بين الدول، لا سيما بعد بروز معالم العمليات العدائية عبر الفضاء الإلكتروني، في النصف الثاني من العقد الأول في الألفية الجديدة، ليتطور الأمر لاحقاً عبر هجمات القراصنة على قطاعات الطاقة والنفط والغاز والصناعة والنقل وشركات الطيران المدني، فضلاً عن المنشآت النووية والبنى التحتية الكهربائية والبنوك.
على سبيل المثال، بعد لقاء الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين الأخير قبل أسابيع، الذي تناول هذه الهجمات السيبرانية وصرح الطرفان عن نيتهما ملاحقة المهاجمين والتعاون في هذا المجال، إلا أنه سرعان ما تعرضت 200 شركة أميركية منتشرة حول العالم في 3 يوليو (تموز) الماضي، لهجوم إلكتروني جديد، تضمن مطالبة عملائها بدفع فدية، بعد أن قام قراصنة فيروس "ريفيل" (Revil) الناشطون في جرائم الإنترنت عالمياً، باستغلال الثغرات الإلكترونية الموجودة لدى الشركات أو الأفراد، وشفروا أنظمة الكمبيوتر، ما أدى إلى شللها الفوري.
وقد سرى اعتقاد واسع في الأوساط الأميركية بمسؤولية موسكو عن الهجوم الأخير، الذي وصفه مدير "مكتب التحقيقات الفيدرالي" (أف بي آي) كريستوفر راي، بأنه تهديد يرقى بتداعياته إلى "مستوى هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001". وجاءت هذه الهجمات بعد نحو شهر من تعرض شركات أميركية عدة ومجموعة المعلوماتية "سولار ويندز" وشبكة أنابيب النفط "كولونيال بايبلاين" وعملاق اللحوم العالمي "جي بي أس"، لهجمات بفيروس الفدية، نسبتها الشرطة الفيدرالية الأميركية إلى قراصنة في روسيا.
إذاً الحرب السيبرانية بدأت، وهي تسير بلا عوائق، وتضع دولاً في مواجهة دول، ومجرمين في مواجهة شركات، وتضع أجهزة الاستخبارات في قمة الاستعداد الدائم لمنع الهجوم أو حصر نتائجه إذا أمكن، وتفعّل التنافس بين الشركات المنتجة للبرامج الإلكترونية لسد الثغرات الأمنية في برامجها والعمل على تطويرها بشكل دائم، وبالطبع فإن المدنيين سيكونون ضحايا لهذه الحرب سواء عبر استهدافهم مباشرة في سبيل الابتزاز وطلب الفدية مثلاً، أو سيلحق بهم ضرراً جانبياً في عوالم العصر الرقمي.
حروب سيبرانية… نووية
ولمزيد من تأكيد أن الحرب السيبرانية قد انطلقت، فإن البيان النهائي الأخير لقمة حلف شمال الأطلسي وردت فيه كلمة "سيبراني" 25 مرة، ووقعت الدول الأعضاء في الحلف على "سياسة دفاع سيبراني شاملة"، وتم التأكيد أن الهجوم السيبراني الفادح يمكن أن يكون سبباً لتفعيل البند الخامس من ميثاق الحلف، الذي يعتبر أي هجوم على عضو في الحلف بمثابة هجوم على الحلف بأكمله.
والحرب السيبرانية يمكنها أن تستهدف أيضاً مجال الأسلحة النووية، ففي رأي جيمس أكتون، المدير المشارك لبرنامج السياسة النووية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن القلق لا يتركز على الهجمات السيبرانية على الأسلحة النووية نفسها، بل على أنظمة القيادة والتحكم المحيطة بها، "قيادة الأسلحة النووية والتحكم بها هو كل شيء، لأنها ضرورية لتشغيل السلاح"، لهذا، تعد الأسلحة النووية أكثر البنى التحتية حساسية في العالم، لدرجة أن الولايات المتحدة أعلنت في آخر عدد من تقرير "مراجعة الموقف النووي" أنها سترد بضربة نووية على أي استهداف لتلك البنية. وما يزيد هذا الوضع تعقيداً هو أن كثيراً من منشآت القيادة والتحكم الأميركية لم تعد تشرف على الأسلحة النووية فحسب، بل امتدت إلى أنظمة تقليدية أخرى.
ويرى أكتون أن عدم الثقة بين الدول المتصارعة سيبرانياً مع التطور الكبير في المجال، تضاف إلى الإمكانات الهائلة للأسلحة النووية، وكلها شروط وافية لإطلاق تصعيد قد ينتهي إلى حرب نووية.
المعالم الأولى للحروب السيبرانية
جاءت الأرقام في تقرير القمة العالمية للحكومات تحت عنوان "أسلوب عملي لتحديد الهجمات الإلكترونية" لتؤكد مدى الضرر الذي تسببه. فمتوسط كلفة الضرر الناتج من اختراق البيانات التي تتحملها أي مؤسسة بلغ 3.6 مليون دولار. وفي تقرير لوكالة "بلومبيرغ" ورد أن الهجمات الإلكترونية تشكل تهديداً كبيراً لشركات النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط، مرجحة أن المخاطر السيبرانية تهدد ما قيمته 5.2 تريليون دولار من الأصول حول العالم، وذلك من 2019 وحتى 2020.
لا تزال البيانات قليلة حول حجم التنافس الدولي وما تمتلكه البلدان من قدرات وإمكانات على صعيد الفضاء الإلكتروني. وقد أورد أحدث تقارير "التوازن العسكري" لعام 2020، أن الولايات المتحدة لا تزال تُعد الدولة الأكثر تفوقاً في مجال امتلاك القدرات السيبرانية بعدما شكلت قيادة سيبرانية موحدة في وقت مبكر من عام 2018، من أجل التماشي مع التطور الكبير والواسع في القدرات السيبرانية الأميركية. وأوضح التقرير أن القيادة السيبرانية الأميركية تعتمد على خمسة مكونات أساسية، هي، القيادة السيبرانية للجيش وقيادة الأسطول السيبراني والقيادة الإلكترونية للقوات الجوية والقيادة الإلكترونية لقوات مشاة البحرية وخفر السواحل، إضافة إلى وحدات الحرس الوطني.
وعلى الصعيد الصيني، ذكر "تقرير التوازن العسكري" السنوي، أن بكين أنشأت عام 2015 قوة الدعم الاستراتيجي كجزء من الإصلاحات التنظيمية لديها، وتجمع هذه القوة بين قدرات الحرب الفضائية والسيبرانية والنفسية.
وفي التقرير نفسه ورد أن روسيا كانت تعتبر تاريخياً الأمن السيبراني والعمليات الإلكترونية مكوناً من عمليات المعلومات بمفهومها الواسع، وفي عام 2015، كشفت العقيدة العسكرية الروسية عن أن الفضاء الإلكتروني جزء من الأراضي الروسية، وكلفت القوات المسلحة حمايته. أما القوة السيبرانية لبريطانيا فتتركز في المركز القومي للأمن السيبراني، إلى جانب القدرات التي يمتلكها مكتب الاتصالات الحكومية (جهاز الاستخبارات البريطاني) في هذا المجال. وفي فرنسا تتولى قيادة الدفاع السيبراني الفرنسي التي تأسست في 2017، تحت إشراف وزارة الدفاع، جميع العمليات الهجومية العسكرية الإلكترونية لهذه القيادة.
الصليب الأحمر والحروب السيبرانية
تيلمان رودنهاوزر، خبير الحرب السيبرانية والقانون الدولي الإنساني في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أجاب في مقابلة نشرت في مجلة المنظمة الدولية على عدد من الأسئلة حول الحروب السيبرانية والقانون الإنساني الدولي. وحول سؤال، لماذا تمثل العمليات العسكرية السيبرانية شاغلاً إنسانياً؟ قال إن "ما يثير قلقنا، بصفتنا منظمة إنسانية، هو أن العمليات العسكرية السيبرانية تتحول أيضاً إلى جزء من النزاعات المسلحة اليوم، ويمكنها أن تعطل عمل البنية التحتية بالغة الأهمية والخدمات الحيوية للسكان المدنيين". على سبيل المثال، يزداد اعتماد نظم الرعاية الصحية على الرقمنة والاتصال بالإنترنت، ولكنها تفتقر إلى الحماية في غالب الأحيان، لذلك، فهي معرضة بشكل خاص للهجمات السيبرانية.
وفي رأي الخبير الدولي، فإن خطر تعرض السكان المتضررين من النزاعات لضرر متعمد وغير متعمد في ارتفاع، لا سيما من خلال (إساءة) استخدام البيانات من جانب الأطراف المتحاربة وانتشار المعلومات المضللة والمعلومات الكاذبة وخطاب الكراهية.
وعن تطبيق القانون الدولي الإنساني على هذه العمليات، قال إنه يوجد عدد لا يُحصى من العمليات السيبرانية التي تحدث كل يوم، بدءاً من الجريمة السيبرانية، مروراً بالتجسس السيبراني ووصولاً إلى ما يشير إليه كثيرون باسم "العمليات التي ترعاها الدول". ولا ينطبق القانون الدولي الإنساني إلا على العمليات السيبرانية التي تُنفذ في سياق نزاع مسلح. وفي أوقات النزاع المسلح، يمكن تفادي الآثار العشوائية والعالمية للعمليات العسكرية السيبرانية، أو الحد منها في الأقل، إذا احتُرم القانون الدولي الإنساني.
وأجاب عن سؤال حول القانون الدولي الحالي إذا ما كان بحاجة إلى تطوير اتفاقية سيبرانية جديدة، بالقول، إن أبرز مواطن قوة القانون أنه وُضع بطرق تجعله ينطبق "على كافة أشكال الحرب وكافة أنواع الأسلحة"، بما فيها "الأشكال والأنواع المستقبلية".