Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صاحب "سولاريس" الذي أنكر صديقُه فيليب ك. ديك وجوده

هل كان ستانيسلاس ليم اسماً مستعاراً لجماعة شيوعية تريد تدمير الغرب؟

مشهد من فيلم "سولاريس" من إخراج تاركوفسكي (موقع الفيلم)

كانا قد ارتبطا بصداقة عميقة وصفها الإعلام المتحدث عنها بحماسة وإعجاب بأنها "صداقة القمة بين مؤلفين كبيرين في مجال الخيال العلمي". وكانت صداقة طبيعية منذ التقيا وكل منهما في ذروة نجاحه المهني: الأميركي فيليب ك. ديك الذي تُقرأ رواياته بملايين النسخ في ما لا يقل عن أربعين لغة ويتخاطف السينمائيون حقوق اقتباس أعماله ومن بينها ما تحول إلى ذلك الفيلم "بلاد رانّر" الذي يعتبر عادة واحداً من أعظم أفلام النوع، و"أوبيك" و"رجل القصر العالي"؛ والبولندي ستانيسلاس ليم الذي برواية واحدة له على الأقل، تحولت ثلاث مرات إلى فيلم سينمائي، تمكن من أن يضع بلده على خريطة الخيال العلمي، المسيّس بقوة، في العالم... وكرّس نفسه منشقاً في سنوات الانشقاق الكبرى هو الذي إضافة إلى كونه كاتباً مبدعاً كان عالماً في مجالات عدة ومناضلاً سياسياً.

لا وجود له!

لقد كان من الطبيعي لديك وليم أن يلتقيا ويرتبطا بتلك الصداقة التي اعتبرت مثالية. ثم فجأة وقع بينهما المحظور. بل أكثر من هذا، من دون سابق إنذار ومن دون أن تكون ثمة للأمر أية خلفية حدثية، دهش عالم هذا النوع من الأدب حين أعلن ديك بكل بساطة، وفي تصريح صحافي صاخب، أنه واثق من "أن المدعو ستانيسلاس ليم شخص لا وجود له". وأن لديه من المعلومات والمعطيات ما يؤكد أن "الاسم مستعار اتخذته لنفسها مجموعة تابعة للشيوعية الدولية تنتج نصوصاً أدبية وخيالية – علمية هدفها تحطيم الغرب وثقافته". يومها كان ليم أول المذهولين أمام ذلك التصريح بخاصة أنه كان يعلن مراراً وتكراراً أن ديك هو أعظم روائي في العالم الغربي. لكنه لم يرد بالنظر إلى أن الإعلام الغربي تولى الرد متذرعاً بأن تصريح ديك إنما نتج من أوضاع صحية عقلية يعاني منها. وكان هذا صحيحاً حيث من المعروف أن الكاتب الأميركي الكبير كان يعيش أوضاعاً عقلية بالغة السوء في ذلك الحين. غير أن تلك الأوضاع لم تكن كافية لتبرير موقفه الذي بدا مستهجناً من الجميع. بالتالي احتاج الأمر إلى تحقيقات كشفت لاحقاً عن أن موقف ديك من ليم كان مقصوداً وناتجاً من اعتقاد الأول بأن لليم دخلاً في تقاعس السلطات الثقافية البولندية وكذلك الروسية عن دفع مستحقات له كان متفقاً عليها حين وافق على ترجمة عدد من أعماله إلى اللغتين "الشرقيتين" لكن تلك السلطات لم تدفع له فما كان منه إلا أن وضع اللوم على ليم لأن هذا كان هو من بادر إلى التوسط لترجمة أعمال زميله وصديقه الأميركي!

إذا عرف السبب...

في النهاية إذا كانت المسألة على تلك البساطة وانطبق من جديد المثل القائل "إذا عرف السبب بطل العجب". وكان العجب تحديداً من نصيب ستانيسلاس ليم الذي لم يكن في ذلك الحين بأية حاجة إلى شهادة ديك ليثبت أنه موجود بالفعل وأنه ليس جزءاً من مؤامرة دولية ضد الكاتب الأميركي. ومهما يكن من أمر، وقف كثر شرقاً وغرباً في صف ليم الذي كانت تلك الحادثة العارضة قد وسعت من شهرته ومناسبة لكي يزداد عدد قراء "سولاريس"، روايته الأشهر وبعدما كانت الأفلام التي اقتبست عنها أوسع شهرة منها كرواية على رغم ترجماتها العديدة، راحت تحتل مكانها الطبيعي بوصفها واحدة من أكثر روايات الخيال العلمي قوة، بل حتى بوصفها رواية فلسفية بقدر ما هي رواية خيالية وعلمية.

البعد الإنساني

ومهما يكن من أمر، كان هذا البعد معروفاً حتى بالنسبة إلى كثر من الذين شاهدوا الفيلم الكبير الذي حققه المخرج أندريه تاركوفسكي عن الرواية في عام 1972 حيث ركز في سيناريو رائع كتبه بنفسه، على الجانب الفلسفي والسيكولوجي في الرواية التي كان اقتباس تلفزيوني سابق لها حققه بوريس نيرونبورغ قبل ذلك بأربعة أعوام قد اتبع خطها الحدثي غير معتن بخطها الفكري. بمعنى أنه ركز على كوكب "سولاريس" الذي يحمل عنوان الرواية اسمه، أكثر من تركيزه على البعد الإنساني... هذا البعد الذي بدا واضحاً أنه هو ما يهم تاركوفسكي في المقام الأول وما اتبعه فيه ولو جزئياً، المخرج الأميركي ستيفن سوديربرغ حين حقق بدوره اقتباساً جديداً عن الرواية في عام 2002 من تمثيل جورج كلوني تابع فيه الخط الإنساني الذي اشتغل عليه تاركوفسكي، مخففاً هذه المرة من البعد العلمي وحتى الفلسفي الذي عالجه ليم.

موقف متقدم لمبدع حقيقي

في نهاية الأمر كان من الواضح أن المخرجين الثلاثة قد تعاملوا مع رواية ليم وكل من موقعه الفكري... ولكن بدا واضحاً أن ليم لم يعبر عن رضاه عن أي من الاقتباسات الثلاثة حتى وإن كان قد أعطى لكل مخرج الحق في أن يفهم الرواية كما يريد، متبعاً في هذا موقفاً متقدماً كان الكاتب أنطوني بارغيس قد عبر عنه حين سئل عن رأيه في اقتباس ستانلي كوبريك لروايته الأشهر "البرتقال الآلي" في فيلمه الذي حمل العنوان نفسه، فقال إن "كوبريك تعامل مع الرواية كمبدع فقرأها كما تراءى له وهذا الأمر لا يزعجني إطلاقاً طالما أن روايتي موجودة بين دفتي كتابي". ونعرف أنه لئن كان فيلم "سولاريس" كما حققه تاركوفسكي يبقى الأهم والأقوى بالنسبة إلى نخبة هواة السينما، فإن فيلم سودربرغ حقق انتشاراً جماهيرياً عريضاً لرواية ليم، ودفع كثراً إلى البحث للتعرف أكثر إلى كاتب قال كثر من المتحدثين عنه وعن روايته إنه واحد من أهم مؤلفي روايات الخيال العلمي الحقيقي في العالم. وهكذا اكتشف كثر أن ليم على رغم عشرات ملايين النسخ من كتبه الروائية التي بيعت في عدد مدهش من اللغات، لا يمكن اعتباره مجرد واحد من كتّاب النوع، هو الذي جرب في أنواع كتابية عدة منها المجموعات الشعرية والروايات البوليسية والكتب النقدية ناهيك بالكتب العلمية الخالصة التي اعترف بأهميتها عدد من كبار كتاب التبسيط العلمي من كارل ساغان إلى دوغلاس هوفستادتر، ومعظمها يدور من حول مسائل بالغة التعقيد كالذكاء الاصطناعي والتلاعب الجيني والواقع الافتراضي حيث يعتبر مرجعاً في هذه الشؤون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحرمان من نوبل

ومع ذلك لا بد من الرجوع للقول إن المجال الذي انبنت عليه شهرة ليم الواسعة، لا سيما خلال السنوات الأخيرة من حياته، هو أدب الخيال العلمي ما حرمه بحسب ما كتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية غداة رحيله عام 2006 من الحصول على جائزة نوبل طرح اسمه لها وكان يستحقها. وتبقى "سولاريس" روايته الأشهر هي التي تروي المسار الذي يتبعه في رحلة فضائية العالم ورائد الفضاء كريس كلفن الذي يُرسل في تلك الرحلة بأمل أن يميط الغموض المحيط بأمور كان رائد سابق له قد كشف عن وجودها انطلاقاً من محطة فضاء هبط فيها، من دون أن يتمكن من حلها. وإذ يصل كلفن إلى محطة الفضاء يجدها خالية من أية حياة ومهجورة تقريباً باستثناء عالمين أجنبيين يدعيان سناوت وسانتوريوس يتحدثان عن عالم زميل لهما انتحر قبل حين من وصول كلفن. ويلاحظ هذا سريعاً أن ثمة رؤى غريبة وربما تتسم ببعد شيطاني يحملها العالمان الباقيان. وبعد بحث يكتشف كلفن أن المحيط الذي تعوم عليه المحطة الفضائية يعيش حياة خاصة به قوامها إسباغه حياة فعلية على أحداث وشخصيات منبعثة من الذاكرة، ومن ذاكرته هو نفسه – كلفن – شخصياً. وعلى ذلك النحو يفاجأ هذا الأخير بزيارة تقوم بها إليه في ذلك المكان عشيقته السابقة هاري ما يمكنه من أن يستعيد معها عدداً من الذكريات المتعلقة بعلاقتهما التي كانت قد انقضت قبل قيامه بالرحلة الفضائية التي يقوم بها الآن.

الطب والفرويدية أولاً

إذاً بأكثر من علاقتها بالرحلة الفضائية التي يقوم بها كلفن، تتعلق هذه الرواية بمسائل مثل الذاكرة والوحدة والعلاقات الإنسانية وفلسفة الوجود والتفسيرات الفرويدية وهو الأمر الذي جعل ليم يتحدث عن الإمكانيات التي أسبغتها "سولاريس" على تفسيرات النقاد الذين لم يتوقفوا عن التعامل معها بجدية علمية، "تماماً كما فعل تاركوفسكي في أفلمتها مسقطاً عليه أفكاره وتحليلاته ودوافعه الخاصة ولكن من دون أن يجردها من جوهرها"، على حد تعبير ستانيسلاس ليم، الذي لا يخفي أنه بدأ حياته العلمية بدراسة الطب قبل أن ينكب على التعمق في... الفرويدية!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة