Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة ميلياس إلى القمر تدوخ المتفرجين وتؤسس فن السينما

فيرن لم يستطع التنبؤ بأن روايته الأجمل ستقلب تاريخ الفنون

من فيلم "رحلة إلى القمر" (غيتي)

عاش الكاتب الفرنسي جول فيرن (1828 – 1905) قرابة ثمانين سنة، أمضى منها في الكتابة بشتى أنواعها أكثر من 50 عاماً. وهو اشتهر خصوصاً بغزارة إنتاجه في الكتابة الروائية والكتابة للمسرح وكتابة القصص القصيرة. غير أن الجزء الأكبر من شهرته تركّز على نصوص الخيال العلمي التي تتسم بوفرة ما تحمله من تنبؤات وتوقعات مستقبلية تحقَّق معظمها قبل رحيله، ثم تحقق ما تبقّى منها، بشكل أو بآخر بعد ذلك.

وغاب ما هو بديهي

زارت روايات فيرن مناطق لم تكن لتخطر في البال وتحدثت عن اختراعات ما كان أحد ليحلم بها، وخاض أبطاله شتى أنواع المغامرات. لكنها وإن ألمحت إلى ولادة ما يشبه الفن السينمائي منذ وقت مبكر، فإنها عجزت عن تكهّن كان من شأنه أن يبدو بديهياً: التكهّن بأن تكون واحدة من رواياته موضوعاً للفيلم الروائي الأول في التاريخ. الرواية هي "من الأرض إلى القمر" التي صدرت عام 1865 أي عند بدايات النشاط الكتابي المدهش الذي خاضه فيرن. وهي الرواية التي استند إليها مواطنه جورج ميلياس في صياغة ذلك الفيلم الذي يُبجَّل إلى اليوم، ليس فقط بوصفه فيلماً يعبق بالخيال والابتكارات وضروب السحر، بل بوصفه فيلماً روائياً أدخل به ميلياس ذلك الاختراع الذي كان ظهر قبل سنوات قليلة، إلى عالم الفن الخالص، بعدما كان "مخترعاه" الأخوان لوميير أوجداه كوسيلة لالتقاط مشاهد واقعية من الحياة وعرضها أمام متفرجين مبهورين. والحقيقة أنه لئن كانت شرائط "المخترعَيْن" قد أدهشت جمهور نهاية القرن التاسع عشر بل أذهلتهم وهم يشاهدون قطاراً يدخل محطة لاسيوتا ويكاد يقفز من الصورة ليصدمهم، وهو في الأصل مشهد عادي يحدث كل يوم لكنه اتخذ معنى جديداً على الشاشة، فكيف بصاروخ ينطلق من كوكب الأرض أمام أنظار متفرجي بداية القرن التالي ليحط على سطح القمر أمام أعين مذهولة مرعوبة مستورة؟


الأول في مجالات عدة

صوّر جورج ميلياس هذا الفيلم عام 1902 أي قبل رحيل فيرن بثلاث سنوات، ليكون الأول في مجالات عدة: أول فيلم روائي كما قلنا؛ أول فيلم ملوّن؛ أول فيلم خيال علمي؛ أول فيلم يستعين بممثلين يلعبون أدواراً حُدِّدت لهم... ويمكن للائحة أن تطول، من دون أن ننسى أنه كان الأفلمة الأولى بين عشرات الأفلمات لروايات جول فيرن نفسه. ومع هذا، لم يتمكّن الذي غاص في باطن الأرض و20 ألف قدم في أعماق البحار وأوصل صاروخاً إلى القمر وغير ذلك من مآثر حرّكت الخيالات والتوقعات، لم يتمكّن من أن يتوقع في الوقت المناسب أنه ستكون له تلك المساهمات المدهشة في فن جديد سيرى النور على أيامه، فيقف هو عاجزاً عن تصوّره. بل لم يصل به تصوّره إلى التنبه إلى أن أدب الخيال العلمي الذي كان من كبار رواده ومؤسسيه إلى جانب حفنة من مبدعين سبقوه أو تابعوه أو حتى عايشوه، سيكون من أهم الأصناف السينمائية طوال قرن تالٍ وأكثر من الزمن. صنف يجتذب المتفرجين ويفسح مكاناً واسعاً لكل ضروب الخيال، كما يتمكّن من أن يزحم جيوب وخزائن صنّاعه بمليارات الدولارات.
يقيناً أن الخيال العلمي على الشاسات كما على الورق وإن بشكل أكثر تواضعاً، يسحر دائماً، ويسحر الأعمار كلها، فيبهر البصر والعقل ويترك للخيال أن يتحرك بألف جناح وجناح. وقد لا يهمّ متفرجو اليوم كثيراً أن يعرفوا أن معظم المشاهد إنما تنبع من خدع سينمائية تعتمد التكنولوجيا والصورة الافتراضية، وأن لا شيء في هذا العالم كله حقيقي. فالخدعة انكشفت منذ زمن بعيد، وها هو التقدم التكنولوجي يزيد من إبهارها وتكاد أسراره لا تخفى على أحد.

ما يبدو اليوم مضحكاً

لكن الأمور لم تكن على هذا النحو في الأعوام الأولى من عمر السينما، حين عرض ميلياس في باريس، الفيلم الذي يُعتبَر اليوم الوالد الشرعي لأفلام الخيال العلمي، "رحلة إلى القمر". فهذا الفيلم بمشاهده، التي من المؤكد أنها ستبدو لمتفرجي أيامنا هذه شديدة البدائية، وربما مضحكة، كان أشبه بمعجزة حلّت على المتفرجين في اليوم الثالث من شهر مايو (أيار) 1902، حين قُدِّم الفيلم في عرضه الجماهيري الأول. صُعق هؤلاء وراحوا ينظرون إلى بعضهم البعض في ذهول كمَن لا يصدق.
قبل ذلك، كان جورج ميلياس قد حقق أكثر من مئة فيلم قصير، هو الذي يُعتبَر اليوم أحد كبار مؤسسي السينما ككل، غير أن تلك الأفلام كانت شيئاً و"رحلة إلى القمر" كان شيئاً آخر تماماً. كان فيلم خيال علمي من نوع جديد، يعتمد بالطبع على رواية جول فيرن التي كان الملايين قد قرأوها مترجمة إلى لغات عدة، لكنه كان يتجاوز الرواية ليؤسس تياراً لا يزال حياً في السينما حتى اليوم. واللافت في هذا كله أن كثيرين من المتفرجين - إن لم نقل معظمهم - اضطر إلى أن يتذكر - في سبيل تبرير ما يراه - أن جورج ميلياس كان يمتهن السحر والشعوذة قبل تحوّله إلى السينما. ومن هنا، حين لم يفهموا كيف تمكّن من إطلاق صاروخه ويفقأ به عين القمر، وكيف تمكّن من تصوير ما خُيِّل إليه أن الحياة فوق الكواكب الأخرى، عزوا ذلك كله إلى السحر الذي عُرف بممارسته. ومن هنا، كان الغموض أكبر والانبهار أعظم.


من الحياة الصاخبة إلى السحر

صحيح أن الأخوين لوميار كانا هما مَن أعطى السينما مشروعيتها كفنّ للصورة المتحركة، قبل ذلك بخمسة أعوام، لكن ما صوّره الأخوان كان مشاهد حية صارخة للحياة الواقعية. ويومها، حين عُرضت أفلامهما، تمكّن المتفرجون من فهم ما يحدث أمام أعينهم على الشاشة مع بعض الشرح العلمي، ولكن مع ميلياس كانت النقلة نوعية تماماً: لم يعُد بإمكان أحد أن يفهم، وهكذا اكتسب الفن السابع سحره الذي لا يزال مرتبطاً به حتى يومنا هذا.
لذلك لم يكن غريباً أن يقول كتّاب كثر، أن السينما الحقيقية ولِدت في ذلك اليوم بالذات، بعد أن سمّوا ما ولِد قبل ذلك بخمس سنوات، "الصورة المتحركة" لا أكثر. ميلياس تابع بعد ذلك، رحلته وحقق أفلاماً عدة، غير أن ما حدث بعد ذلك كان أن السينما الأميركية التقطت اللعبة، كعادة كل ما هو أميركي في علاقته مع كل ما ينجح في الخارج، وطوّرت الأساليب التي ابتكرها ميلياس، وراحت تحسّنها أكثر فأكثر عاماً بعد عام، مستفيدةً من كل تقدّم تقني وعلمي يتحقق في أي مجال لتجعل منه رديفاً لفن السينما.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


تلك الرحلة الطويلة الساحرة

وعلى هذا النحو، قطع الخيال العلمي في صيغته السينمائية تلك الرحلة الطويلة، التي بدأت في ذلك اليوم البعيد مع جورج ميلياس، لتصل اليوم إلى جورج لوكاس ومتابعيه، مروراً بمئات الأفلام التي حملت تواقيع مئات المخرجين والتي لم تكفّ - ولن تكفّ، بالطبع - عن نقل السحر من على الشاشة الكبيرة، إلى أعين وأفئدة المتفرجين. كل هذا جعل من سينما الخيال العلمي، السينما نفسها وبامتياز، السينما التي تتحدث عن عوالم وخوارق لم يعِشها أحد، ومع ذلك صارت جزءًا من المشهد العام للحياة التي نحياها. وبالنسبة إلى البعض، المشهد الرئيس الذي يساعدهم على الهرب إلى الحلم بعيداً من الهموم، كما كانت حال أبطال ميلياس الذين وصلوا إلى القمر، قبل رواد الفضاء الأميركيين بعشرات العقود، وعبر تقنية ابتكرها خيال ساحر مشعوذ، سيموت معدماً بعد ذلك، لكن تلك حكاية أخرى لا بأس في أن نذكّر بأن مارتن سكورسيزي قدمها لنا بشكل فاتن، وربما موارب في فيلمه "هوغو" الذي حققه قبل عشر سنوات متحدثاً فيه عن آخر أيام ميلياس، دامجاً فيه "الرحلة إلى القمر" بعدما رمّم نسخة نادرة منه.

المزيد من ثقافة