منذ ظهوره المفاجئ في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، الأسبوع الماضي، عاد سيف الإسلام القذافي ليملأ الدنيا ويشغل الناس في ليبيا، بداية من القاعدة الشعبية وصولاً إلى رأس الهرم السياسي، حيث السلطة ورجالها المتنافسون عليها، الذين خلط أوراقهم هذا الظهور في هذا التوقيت.
وكان نجل الرئيس السابق لليبيا، معمر القذافي، قد أعلن في المقابلة الصحافية نيته العودة إلى العمل السياسي والترشح للانتخابات المقبلة، نهاية العام الحالي، منهياً جدلاً طويلاً حول مصيره، بعد أن رجحت مصادر ليبية عدة طيلة السنوات التي اختفى فيها وفاته أو لجوءه إلى دولة أخرى.
سلسلة المفاجآت التي حفلت بها المقابلة الصحافية لابن القذافي، قوبلت في ليبيا بردات فعل متباينة بين رؤوس السلطة وأضلاع المشهد السياسي وأنصارهم، بين مرحب بعودة الرجل، مُطلقاً عليه أوصاف "المخلص"، ومقلل من أهمية تصريحاته، وغاضب من ظهوره الذي يربك المشهد ويغير موازين المعادلة السياسية قبل الانتخابات.
ظهور بخطوات محسوبة
عودة سيف الإسلام إلى المشهد الليبي في حلة جديدة وغريبة بعض الشيء، لم تشكل صدمة كبيرة في البلاد، كونه جاء بعد تراكم المؤشرات على عودته في الأشهر السابقة، الذي بدا عملاً مقصوداً ومحسوباً بدقة، إذ دأب المقربون منه طيلة الأشهر الأربعة الماضية على تسريب بعض الأخبار عنه، وتأكيد وجوده في ليبيا بعد صمت طويل على شائعات موته وتصفيته.
أبرز هذه التصريحات أطلقها المحامي الخاص بنجل القذافي، خالد الزايدي، في مايو (أيار) الماضي، وهو الشهر الذي قالت الصحيفة الأميركية إنها أجرت فيه لقاءها مع سيف الإسلام، إذ أكد أن "سيف الإسلام القذافي موجود في ليبيا ويمارس حياته كأي مواطن، وسيظهر في الوقت الذي يختاره".
ولم يكتف الزايدي بذلك، بل أطلق قنبلة أخرى في هذا التصريح، ملمحاً إلى نية سيف الإسلام القذافي الترشح للانتخابات، قائلاً إن "القانون يسمح له بالترشح للانتخابات إذا رغب أو طالبه الليبيون بذلك".
شهر واحد بعد هذا التصريح، وقبل أن تهدأ الزوبعة التي أثارها، أكد الفريق الذي يدير منذ سنوات حملة ترشيح سيف الإسلام لرئاسة ليبيا، أنه "يخطط لخوض الانتخابات المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، لكن من السابق لأوانه الجزم أو التحدث في التفاصيل، قبل المصادقة على قانون الانتخابات، فقد يسعى المعارضون له لإضافة بند يمنعه من الترشح".
الظهور أخيراً
خلال المقابلة، أكد سيف الإسلام القذافي أنه "ليس سجيناً"، وفيما بدا متحفظاً بشأن احتمالية ترشحه للرئاسة، أشار إلى ترتيبه للعودة إلى الساحة السياسية في ليبيا من جديد، واصفاً ما يحدث في البلاد بأنه "تخطى حدود الفشل"، ليصل إلى "المهزلة".
وفي الحوار، الذي قال الكاتب الصحافي بجريدة "نيويورك تايمز" الأميركية روبرت وورث، إنه أجراه في مايو الماضي، أوضح سيف "أن الرجال الذين كانوا حراسي هم الآن أصدقائي".
وأوضح وورث أن "سيف الإسلام يعيش داخل مجمع سكني محاط بالبوابات، في فيلا من طابقين تبدو عليها مظاهر الترف".
وعلق نجل الرئيس السابق لليبيا على التغيرات التي حدثت في بلاده طيلة العقد الماضي، قائلاً "ما حدث في ليبيا لم يكن ثورة، يمكنك أن تسميها حرباً أهلية أو أيام شؤم".
جدل لا ينتهي
عودة سيف الإسلام من الموت المحتمل، ومن داخل ليبيا، وإطلاقه تصريحات بهذا المستوى من الثقة المفرطة بالنسبة إلى رجل ملاحق قضائياً، في الداخل والخارج، أثارت دهشة كثيرين وفرح آخرين وحساسية كبيرة من فريق ثالث، بدأ في سوق الحجج القانونية والأخلاقية التي تمنع عودة الرجل إلى الحياة السياسية.
على المستوى الرسمي، عبّر رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، عن موقف متشدد من عودة سيف الإسلام إلى ممارسة العمل السياسي، قائلاً إنه "لا يمكن السماح لرجل مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بالترشح لرئاسة ليبيا".
وتطابق موقف رئيس البرلمان مع موقف أغلبية المكونات السياسية في طرابلس، على رأسهم تيار الإسلام السياسي، الذي كانت ردود شخصيات تابعة له على ظهور سيف الإسلام القذافي أشد اعتراضاً ورفضاً من غيرها.
من شابه أباه فما ظلم
وفي الوقت الذي فاجأ أبرز قيادي في جماعة الإخوان المسلمين المعروف دائماً بتصريحاته المثيرة للجدل، رئيس مجلس الدولة الحالي، خالد المشري، الجميع بصمته وعدم تعليقه على عودة سيف الإسلام القذافي، فيما علق القيادي في الجماعة، عبد الرزاق العرادي، وعضو ملتقى الحوار الحالي، على هذا الظهور في سلسلة تغريدات على موقع "تويتر"، قال فيها "تكلم حتى أراك، كانت أمامه فرصة للحديث عن المصالحة وتجاوز الماضي فخرج علينا بخطابه الخشبي الذي خيب ظن محبيه قبل خصومه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف "سيف القذافي لم يكن ينتظر منه خطاب أسوأ من خطابه يوم 20 فبراير (شباط) 2011، لم يخرج عن خطاب الاستهزاء بالشعب الليبي والتشفي من شهداء بوسليم والتطلع للانتقام من خصومه".
وتابع "بعد عشر سنوات غياب سيف القذافي يتحدث ويحاكي والده، يضحك على عقول الليبيين ويصف من خرج في فبراير بالأشرار والإرهابيين والشياطين، وامتدح مجزرة بوسليم، وقال إنه كان ينبغي قتل جميع السجناء، من شابه أباه فما ظلم".
عوائق قانونية
من جانبها، بدأت بعض الشخصيات السياسية حتى من خارج تيار الإسلام السياسي، في سوق الاعتراضات القانونية، التي تمنع ترشح سيف للرئاسة، إذ قالت الحقوقية وعضو لجنة الحوار حالياً، آمال بوقعيقيص، إن "سيف لا يزال مطلوباً للقضاء، وأمر الضبط والإحضار نافذ في حقه ويبقى محكوماً بحكم غيابي في دعوى ما زالت محل نظر أمام محكمة الجنايات التي قد تقضي بالسجن أو بالبراءة، وبذلك شرط الترشح يصطدم بألا يكون محكوماً في قضية تمس حقوق الإنسان أو الفساد المالي، وسيقف مانعاً له من التقدم للانتخابات المقبلة".
قادم ليكتسح الجميع
في المقابل، قال قيادي سابق في نظام معمر القذافي، رفض الكشف عن اسمه، إن "سبب تخوف المعارضين من عودة سيف الإسلام وإعلان ترشحه للرئاسة معرفتهم حق المعرفة أنه لو ترشح سيكتسحهم جميعاً في الانتخابات المقبلة" بحسب قوله.
وأضاف المصدر "معظم الليبيين يؤيدون عودة سيف لإنقاذ ليبيا من براثن الفساد وتغول التيارات المتطرفة والميليشيات المسلحة، بعدما أذاقهم هؤلاء الأمرين على مدى عقد كامل من المعاناة الاقتصادية والاجتماعية والتسيب الأمني الكارثي".
ولا يعتقد القيادي في النظام السابق أن "هناك أسباباً قانونية تمنع ترشح سيف الإسلام للرئاسة، حتى مذكرة محكمة الجنايات الدولية لأنها قائمة على اتهام بارتكاب جرائم حرب مبني على دوافع ظنية وتحركها دوافع سياسية".
غموض موقف حفتر
الطرف الوحيد من بين الأطراف البارزة في المشهد السياسي الليبي الذي لم يعلق حتى الآن على عودة سيف الإسلام القذافي، هو قائد الجيش في الشرق خليفة حفتر، أو جناحه الإعلامي الناطق باسمه، فيما بدأ محللون في استنتاج هذا الموقف المرتقب، بالعودة إلى ماضي العلاقة الطويلة بين حفتر ونظام القذافي التي تمتد لأربعين عاماً.
وكان حفتر قد تحول من رئيس أركان الجيش في فترة القذافي، إلى واحد من أشد المعارضين له في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بعد أن تخلى القذافي عن قائده العسكري عقب أسره في إحدى المعارك بحرب تشاد، عام 1987، وإنكاره صفته قائداً للقوات المسلحة بعدها، ما دفع الأخير إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة والبدء في معارضة النظام.
ويشكك كثيرون في إمكانية نشوء تحالف قائم على الثقة بين حفتر ونجل القذافي سيف الإسلام، أو حتى حدوث أي مستوى من التقارب والقبول بينهما، بعدما قاد قائد الجيش الليبي الحالي العمليات العسكرية للثوار ضد نظام معمر القذافي، التي انتهت بإسقاط نظامه ومقتله عام 2011، ويرون أن حفتر يعلم قبل غيره أن سيف الإسلام سيعمل إذا تسلم السلطة على الانتقام من كل من أسهم في مقتل أبيه وإخوته وإنهاء حكم عائلته للبلاد.